رد: أجزاء من الأوراق ..
صفحات قاتمة من مفكرة الغربة / هدى الخطيب
[frame="10 98"]
[align=justify]
كثيرة هي الصفحات في مفكرتي الاغترابية بعدد وجوه الناس الذين عرفت في هذه البلاد.. وجوهٌ أشرقت بالعلم و ارتفعت و وجوه اغتنى أصحابها بالمقدرة و المثابرة و القدرة على اصطياد الفرص و منهم فئة نجحوا بالنصب والاحتيال و المتاجرة بكلّ شيء و وجوه نجح أصحابها إلى حدٍ ما بالجهد و الحرمان و التعب و مواصلة الليل بالنهار لشقّ الطريق..
أمّا السواد الأعظم من هذه الوجوه هي وجوه الذين قهرتهم الغربة و لم تصبّ المال الوفير في حساباتهم المصرفية و عوضاً عنه أجرت الدمع الغزير على وجوهم الكابية بعدما نسوا الفرح من زمنٍ ولّى وراح و منهم من ضاعوا في متاهات هذا العالم المادي البارد في غربة الثلج الصامت..
و عند كلّ وجه من هذه الوجوه نجح صاحبه أم فشل قصةٌ من قصص القهر و آلامٌ دفينة لا يحسن معرفتها إلاّ من عانى مرارة الاغتراب..
و في جاليتنا العربية و للأسف ما أكثر الذين فشلوا و ندموا على هذه الخطوة و مع هذا لم يتجرؤوا على العودة لأنّ الزمن لا يعود للوراء و لأنّ المساحة التي تركوها بأوطانهم شُغلت بسواهم و لأنّ الفاقة أو الفشل أو الضياع بعيداً في الاغتراب أهون منه في بلادهم و بين قومهم..
كم و كم بلغ عدد الذين باعوا كل ما كان لديهم و تنازلوا عن وظائفهم و جاءوا إلى سراب جنة الغرب و كم عرفت من الذين عملوا سنوات بجهد و كد في الخليج العربي ثمّ جاءوا بجنا أعمارهم ليضيع الجنى و ثمن ما باعوه و من ثمّ يجدون أنفسهم في طريقٍ مسدود مجبرين على تجاهل ما لديهم من شهادات و خبرات و القبول بأعمال وضيعة شاقّة بالكاد تسدّ فواتير المعيشة الباهظة التكاليف في هذه البلاد أو العيش على المعونات الحكومية و كم عرفت أو سمعت عن الذين أصيبوا بالفالج و الجلطات و من توقفت قلوبهم بذبحات قلبية حادّة ليتركوا عائلاتهم و أولادهم من بعدهم يغرقون وسط دائرة الصفر تائهين من بعدهم في هذه البلاد..
و في معظم الأحوال و الظروف الثمر مهما بلغ لا يستحق الخطى على دروب الأشواك و وعورة الطرقات و الأعمار التي تسرقها أيام و ليالي الغربة الباردة و الجهود التي كانت ستنجح أكثر في تربتها و الخسارة على الطرفين، خسارة البلاد لأبنائها و خسارة الأبناء لبلادهم.
قصتي الأولى و لست أدري لماذا أتذكر هذا الرجل أولاً..
رجلٌ كان لا بدّ أن يلفت نظر كلّ من يصادفه بطوله الفارع و عرض منكبيه و لون جلده الأبيض المعجون بالحمرة و شاربيه الطويلين المفتولين بنصف دائرة من كلّ طرف، له قصةٌ من قصص المغترب في صفحة قاتمة من صفحات مفكرتي..
ما كان قد بقي من هذا الرجل لقبه الذي عرف به طيلة حياته " البيك "، لا أحد يناديه باسمه الشخصي إن على سبيل الجهل به أو حتى الاستهزاء، حتى الأجانب يعرفونه به ربما على أنه اسمه.
جدّه الكبير الآغا أو البيك الذي كان الفلاحون يرتجفون من مجرد ذكر اسمه، الإقطاعي الذي كان يملك الأرض و الحرث و القرى و حتى رقاب العباد فيها تعتبر من ضمن أملاكه..
انتهى زمن البكوات و تحرر الفلاحون من سطوتهم و جبروتهم و استعبادهم و لكن بقي في النفوس بعضٌ من خشية فطرية و مكانة خاصّة لهذه العائلة الإقطاعية بين الفلاحين و بما مازالوا يملكونه من أراضٍ شاسعة.
تزوج البيك الحفيد صاحبنا حسب العرف و التقاليد من ابنة عمّه و خلال سنوات الحرب في لبنان باع أرضه لأخوته و أبناء عمومته و هاجر بصحبة زوجته الحامل و طفله الصغير إلى كندا حاملاً معه ثمن أملاكه.
اشترى بيتاً كبيراً و مركزاً كبيراً للتسوق و شغّل عنده عددا كبيرا من العمّال، و البيك معتاد على الكرم الحاتمي لا على التوفير و الاقتصاد، و أنا أذكر أنّ الناس في لبنان كانوا يتحدثون عن كرم هذه العائلة و ما هو متعارفٌ عليه أنه لا يزورهم زائر كائنٌ من كان إلاّ و ينحرون الخراف ترحيباً بمقدمه.
هنا في بلاد الاغتراب كثيرون الذين استغلوا كرمه أسوأ استغلال و طلبوا منه نقودا و اقترضوا قروضاً لم يفكروا بإرجاعها، حتى العمال لديه كانوا يحملون ما لذّ و طاب إلى بيوتهم مستغلين كرمه..
في تلك الأثناء كانت زوجته تذهب إلى المدرسة أولاً لتعلم اللغة الإنكليزية ثمّ السكرتارية و توضيب الملفات على سبيل قتل الوقت مستعيضة بهذا عن البعد عن الأهل و تعويضاً عن الحياة الاجتماعية التي فقدتها و كانت تمرّ في المدرسة بكلّ ما مرّت به النساء المهاجرات من اجتماعات و ندوات تنظمها الحكومة لتوعية المرأة و تعريفها بحقوقها في هذه البلاد ملخصها: " كيف أنها لا يجب أن تسمح للزوج برفع صوته عليها أو إجبارها على شيء و أن الأمر لو وصل للضرب أو التهديد به فهي جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن و التفريق و تعطى كل أرقام الهواتف اللازمة ليلاً أو نهاراً لأي نجدة تحتاجها و يؤمنون لها كلّ شيء و يمنعونه الاقتراب منها أو من الأولاد مسافة أقلّها عشرة أمتار إلخ..
في تلك الأثناء بدأ المال معه يتناقص و التجارة تخسر و الحال يسوء و حلّ الشجار بينهما إلى أن استعانت بالحكومة و طلبت التفريق و حقّ لها حسب القوانين الكندية نصف ما بقي له من مال، ثمّ أمنوا لها عملاً في توضيب الملفات عند طبيب اختصاصي براتب جيد و ما لبث هذا الطبيب الأجنبي أن وقع بغرامها و تعهد لها إن تزوجته بحسن رعاية ولديها و اعتبارهم أبناءه، و تزوجا.
في تلك الأثناء انكسر صاحبنا و أُعلن إفلاسه و لم يستطع استرداد شيء من ماله من الناس و عزّ عليه الطلاق وحرمانه من أولاده و ذلك الطبيب الأجنبي الذي أخذ منه زوجته ابنة عمّه و أولاده دون حتّى أن يُسلم أو يعرف شيء عن الإسلام..
أصابته الذبحة الأولى و بدأت صحته تتدهور و لم يعد لديه أي شيء يصرف منه أو بيت يأوي إليه إلى أن أمّنت له الحكومة بيتا صغيرا عبارة عن غرفة وحمّام يتنقل بينهما و بين المستشفى كلما وقع على الطريق فرآه الناس و طلبوا له الإسعاف.
كلّ ما بات يذكّر بأصل هذا الرجل لمن يشاهده في ممرات المستشفى يجرّ خلفه جهاز الأوكسجين أو جالساً على مقعد على الرصيف في وسط المدينة وجهه الأحمر و شارباه المفتولان و كرمه الشديد، بالرغم من أنه يعيش على المعونة الحكومية الشهرية التي بالكاد تكفي تجده ما أن يتسلم راتبه هذا حتى يصرفه على من يعرف و من لا يعرف حتى لو بقي طوال الشهر لا يجد ما يكفي لسدّ الرمق..
سألته يوماً: " لماذا لا تعود؟"
شرد بعينيه بعيداً و أخذ نفساً عميقاً ختمه بأف طويلة ثمّ نظر إليّ قائلاً:
" كيف لي أن أعود على هذه الحال و قد تركتهم قويا عتيدا منتصب الهامة موفور الكرامة، سيعذرونني على تضييع مالي و صحتي و لكن كيف سيعذرونني على تضييع زوجتي و ابنة عمي و أولادي!! بقائي هنا أستر لي و أكرم حيّاً و ميتاً.
هذه القصة واقعية مختصرة و هذا الرجل " البيك" أعرفه كما أعرف زوجته السابقة و أولاده و كذلك الطبيب لكنني لا أعرف ماذا حلّ به بعد أن تركت المدينة التي يسكنها منذ ما يقارب الأربع سنوات.
[/align]
[/frame]
|