عرض مشاركة واحدة
قديم 02 / 04 / 2008, 10 : 01 AM   رقم المشاركة : [2]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

رد: تجاربهم بأقلامهم

[frame="10 98"]
[align=justify]
[align=justify]
الشعر .. هذا الطائر الرائع الذي يرتفع
ويحلق في فضاء لا يحد من العطاء الجميل

حين أعود إلى ما مضى ، أرى كيف كان الشعر رقصة العمر الأولى وفرحته ، في ذلك الزمن الذي صار بعيداً الآن، الزمن الذي يلامس الطفولة ويصعد بشيء من التردد نحو تفتح الشباب ، وكأن أرجوحة المنى تنوس باحتفال صاخب بين حالتي الوقت المتروك لطفولة لا يهمها كيف تجري الأيام قدر اهتمامها باللعب واللهو والقفز هنا وهناك ، والوقت المقيد قليلاً بانتباه المرآة وتحول رنة الصوت ليكون الطفل شاباً أو قريباً من الشباب ، حيث تنبت بين ظلال الأصابع شهوة كتابة الشعر لا من أجل الشعر كشعر ، بل من أجل بنت طرية العود ما زالت تلعب في الشارع أو تختبئ خلف الشباك ليقال إنها كبرت ..
وكان الطفل /الشاب الغر يظن يومها أن الدنيا وما فيها من حسن وفتنة قد حطت في أنثاه هذه ، لذلك تاه الكلام على شفته فآثر أن يكتب القصيدة لتكون رسوله ، فكانت تلك الأبيات المكسرة المعوجة المضطربة ، أول ما يكتب من شعر ، وأول ظنه بأنه قد صار قاب قوسين أو أدنى من التفوق على المتنبي وأصحابه السابقين واللاحقين دفعة واحدة من شعراء المعلقات وغير المعلقات .. ولله الحمد أن ضاعت تلك التحفة ومثيلاتها ، دون أن يبتلى القراء بقراءتها تحت مسميات كثيرة منها (( بدايات أولى)) و (( مذكرات شاعر)).. إذ أعتقد أن نشر مثل هذه البدايات لي ولسواي يضر الأدب العربي من جهة ويزيد الأزمة النفسية عند القارئ العربي من جهة ثانية جراء ما يقرأ من ترهات يتحفه بها كتاب الحداثة الكرام !! ..
.. / بين الديوان الأول الذي صدر في العام 1974 بعنوان (( لحن على أوتار الهوى )) والديوان قبل الأخير الذي صدر عن وزارة الثقافة عام 2002 بعنوان (( خذي دحرجات الغيوم )) ثم حديثا / 2008 / ديوان " نقوش على جدران العمر " ثلاثون عاماً وأحد عشر ديوانا غيرها ، وخمسة عشر كتاباً مطبوعاً في الرواية والقصة والقصة القصيرة جداً والدراسة و الببلوغرافيا ، لتكون حصيلة العمر الذي مضى ، أكثر من ثلاثين كتاباً مطبوعاً ، ثلاثة عشر كتاباً منها في الشعر ..
ولست أدري الآن أين أقف من هذا الذي صدر ومن هذا الذي ما زال في الرأس والخاطر وفسحة الأمل والطموح .. فدوران الزمن في لهاثه المجنون يفتح العين والقلب على ما مضى وما سيأتي دفعة واحدة.. / ..
لا يأتي الشعر إلا ليكون كل شيء حولك مشغولاً بالشعر ، كأنّ هناك عصا سحرية تمس المحيط فتحوله إلى عالم شعري ، حتى الناس في تلك البرهة الغريبة، نوعاً ما ، يصبحون ناساً من عالم شعري .. ولأن الطفولة هي نبع الشعر الأول ، ومورده الذي لا يجف ، وبما يعني أن كلّ الذي يأتي لاحقاً إنما يصب في هذا النبع ويرفده ليس إلا .. فقد كانت أيام الطفولة المستمرة ، أيام شعر بالمعنى الحقيقي ، حيث كانت الولادة في طرابلس لبنان بتاريخ 18/3/1953 ، والطفولة إضافة إلى مرحلة الشباب في حي الصالحية الدمشقي ، هذا الحي الشعبي الذي يغلي ويمور بالحياة والحيوية والدفء .. هذا الحي يقع بين أحضان جبل قاسيون ، ويمتد من العفيف غرباً وركن الدين شرقاً .. وتأخذك الدروب والأزقة والحارات إلى المهاجرين ، وباتجاه مغاير إلى الجبة فالجسر الأبيض .. وهكذا ..
لك أن ترى في هذا الحي ما شئت من حوانيت متنوعة ، ومدارس ، وآثار غنية كثيرة ، إلى جانب مقام الشيخ محيي الدين بن عربي وجامعه المعروف ، إلى جانب الكثير من المقامات ، وصولاً إلى مقام الأربعين في جبل قاسيون، .. ولا ينسى المرء حين يعيش في الصالحية التكية السليمية .. هذا الحي بأيامه ولياليه وعاداته وتقاليده كان نبعا حقيقيا للشعر .. هو كتلة حية من القصص الرائعة .. أشعر الآن وأنا أتجول فيه أنني أرجع إلى طفولتي وآخذ في سرد دقائقها وتفاصيلها ، تلك الطفولة التي أعطت الشاعر داخلي الكثير .. لكن هل يستطيع الشاعر أن يخرج من طفولته ؟؟ ....
الشاعر هو الشاعر في كل حين ، طفل يتمنى أن يركض في الشوارع والأزقة ناسياً كل سنوات العمر.. الزمن بالنسبة للشاعر زمن منسيّ ساقط ، لأنه لا يصدق أنه بلغ من العمر ما بلغ .. وحين يفقد الشاعر طفولته يفقد الشعر معها .. حين تبتعد الطفولة عن الشاعر يكون قد دخل دون أن يشعر في مرحلة اليباس والجفاف .. كل كاتب يستطيع بشكل ما أن يوائم بين مرور الزمن والكتابة، إلا الشاعر، فهو بحاجة ماسة وضرورية لتناسي الزمن بمفهومه الثقيل ، فهو يستعمله كحاجة تأريخية ليس إلا، ويرميه خلف ظهره في حياته وتداخله مع الشعر .. كثيرون يدَعون أنهم لا يحسبون حساباً للزمن ، ويكذبون .. أما الشاعر فهو القادر دائماً على تناسي الزمن ورميه بعيداً ، لذلك ترى الطفولة أكثر ما تراها عند الشعراء ، فهم أطفال في ثياب الكبار ..
في حي الصالحية هذا كانت فلسطين تحضر من خلال أحاديث الوالد والوالدة والأقارب .. لكنها لم تكن شديدة الوضوح بالنسبة لي في تلك الأيام البعيدة .. لم أعش حياة المخيم كغيري ، هذه الحياة التي أعطت غيري من الأطفال والصبية الفلسطينيين القدرة على فهم أبعاد كل ما هو فلسطيني بعمق .. لذلك كانت دواويني الأولى على التوالي (( لحن على أوتار الهوى )) 1974 و (( في أجمل عام )) 1975 و (( أحلى فصول العشق )) 1976 و رواية (( أشباح في ذاكرة غائمة )) عام 1979 .. وبعدها ((لوحة أولى للحب )) 1980 .. كنتُ قريباً من فلسطين حباً وشوقاً وحفظاً للتفاصيل ، وبعيداً عنها كل البعد كتابةً ، هذا الانفصال كان غريباً عجيباً لا أستطيع أن أدخل في جزئياته الصغيرة الآن .. لكنه في كل الأحوال كان ابتعاداً .. وأي ابتعاد ؟؟!! ..
الغريب أن تكون الدراسة في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق قريبة من هذا التوجه رغم ازدياد تفتـّحنا على كل ظروف قضيتنا الفلسطينية .. تخرجت حاصلاً على الإجازة في اللغة العربية عام 1979 ، وكانت أكثر كتاباتي في الغزل ، أكثر قصائدي في الغزل .. والقليل القليل عن فلسطين الوطن والقلب والروح .. كنت أعيش حالة حب تتلوها حالة حب أخرى .. كأنني كنت أدير ظهري للوطن.. أمر غريب ومثير أن أنسى في هذا السن وطناً يفترض أن يسكنني .. ومن الصعب أن أدعي الآن غير ذلك ، لأن أي ادعاء يعني خيانة لذاتي وتزويراً لما كان .. هكذا كنت شاعر غزل ، يطيب له أن يكتب الأنثى في كل قصيدة ، ويطيب له أن تحيط به الأنثى في كل حين .. كنت منصرفاً للتغني بجمال الأنثى وكأنها العالم .. فهل كانت كتابة شعر الغزل خطأ ؟؟ ..
كان شعر نزار قباني دفترنا الجميل الدافئ .. وكانت قصيدتي متأثرة إلى هذا الحد أو ذاك بشعر نزار.. كل شاعر كتب الغزل في ذلك الوقت كان عليه أن يشرب من نبع نزار قباني .. شاعر كبير سيطر على مفاصل قصيدة الغزل وجعلها تابعة لاسمه بامتياز .. كان نجم شعر الغزل ، وكان البقية الباقية من الشعراء تابعين لمدار هذا النجم .. ومن الطبيعي القول إن كتابة شعر الغزل لم تكن جريمة في يوم من الأيام ولا يمكن أن تكون ، لكن الزمن الذي كتبنا فيه كان يستدعي الالتفات إلى الوطني والقومي والإنساني كان علينا أن نخرج من إطار ضيق ، إلى فضاء رحب .. كان علينا أن نعطي الغزل الجزء لا الكل ، لأن الحياة يومها كانت تغلي ، وكنا نعيش كشعراء ـ بعضنا طبعاً لا الكل وأنا منهم ـ على الهامش تماماً ، تلك حقيقة لا يمكن أن نذكرها علي أن أسجـّل بوضوح شديد أن كتاباتي في ذلك الوقت كانت مشغولة بالأنثى ، وما أقل ما كتبت لفلسطين .. قد أطرح الكثير من الأسئلة والكثير من الأجوبة ، لكن تبقى هذه الصفحات على حالها دون زيادة أو نقصان ..
/ طفولة الشاعر تحميه من الادعاء وتدفعه إلى الصراحة والصدق وقول الحقيقة عارية وإن كانت جارحة ..لذلك كثيراً ما تفاجئ صراحتنا الآخرين ، وتجعلهم يبحثون عن تفسير لما نحن فيه من صدق يربكهم .. وهم بشكل ما ينسون أو يتناسون الشاعر في كل واحد منا ، هذا الشاعر الذي تعود أن يختصر السنوات لتكون طفولة تحافظ على الحب والبراءة والصدق .. تحافظ على كل جمال الإنسان قبل أن يصاب بجرثومة الكذب والادعاء .. .
كأنني أنظر إلى صفحة مفتوحة على الزمن باتساعه ، وكأن الزمن الذي مضى يتبدى في لوحة واحدة تجمع ما تجمع من خطوط وألوان .. الدراسة في المرحلة الابتدائية ، مدرسة الرشيد وصقر قريش في الشيخ محيي الدين ـ تعودنا مذ كنا أطفالاً على تسمية الشيخ محيي الدين لا الصالحية ونعني مجمل امتداد المكان ـ ثم المرحلة الإعدادية في مدرسة أم الفحم ، فالثانوية في ابن العميد وابن الأثير ، فالجامعة.. أثناء الدراسة في الجامعة عملتُ في التعليم لسنة واحدة ، ثم عملتُ في صحيفة تشرين منذ التأسيس ولسنوات.. ثمّ كانت خدمة العلم في جيش التحرير الفلسطيني والعمل كمسؤول ثقافي في مجلة صوت فلسطين .. أثناء عملي في مجلة "صوت فلسطين " الذي مازال ودون انقطاع ، كنت ُمديرا لمكتب سورية ولبنان لجريدة شبابيك التي كانت تصدر في مالطا .. وصاحب ورئيس تحرير مجلة المسبار .. إضافة لدار المسبار للطباعة والنشر والتوزيع ..
كان العمل الأساس وما زال في الصحافة إذن .. كانت الصحافة هي الخيط الذي ربط السنوات كلها.. عملت في الصحافة منذ العام 1975 وما زلت.. وهنا يخطر سؤال كثيرا ما طرحه عليّ من كان يجري حوارا صحفيا أو إذاعيا أو تلفزيونيا :"هل أثر هذا العمل سلباً أم إيجاباً على الحالة الشعرية ..؟؟"... أحياناً أشعر أن الصحافة أكلت أصابعنا وعمرنا ولم تترك لنا أي شيء .. كل المجلات والصحف العربية تقريباً كتبت ونشرت فيها .. هل كان هذا استهلاكاً لموهبة الشعر ؟؟.. هل كان لعبة خطيرة بنار اليومي والعادي بعيداً عن حلم الشعر ؟؟.. في كثير من الأحيان أجد أن الإبداع عندي قد اكتمل مع الصحافة .. الصحافة شكلت الملامح وأعطت القلم قدرته على الإبداع العالي .. كان الشعر رفيق العمر في الصحافة لا دونها.. لا أستطيع الآن بعد ما مرّ من زمن طويل، تصور ملامحي وعمري بعيداً عن الصحافة .. لكن إلى أيهما أميل .. إلى القول بالتأثير السلبي أم الإيجابي ؟؟.. حقاً لا أستطيع تحديد ذلك بدقة ، لأنني عشت الصحافة واستغرقتني تماماً ، هذا الاستغراق الجميل اللذيذ.. وأي حكم يصدر عليّ سيكون حكم الصحفي أولاً وأخيراً..
صعب أن أحدد الزمن الذي كتبت فيه أول قصيدة لفلسطين .. صعب أن أشكل خارطة حقيقية تبين الخط التصاعدي لهذه الكتابة .. لكن أستطيع القول إن التوجه كان حاسماً وكلياً فيما بعد ، لتكون معظم كتاباتي لفلسطين وعنها .. شعرت بأنني أختصر المسافات لأكتب وأكتب دون توقف .. طبعاً هذا لا يعني أنني أقف في وجه الكتابات الأخرى ، ولا يمكن أن أقف ، لأن الكاتب يبقى كاتباً شمولياً أو موسوعيا ،من حقه أن يكتب عن كل شيء ، على أن يكون الوطن همه الأول وشغله الشاغل ..
/ رواية (( أحاديث الولد مسعود )) وهي عن فلسطين صدرت في العام 1984 .. ديواني (( هذا الفلسطيني فاشهد )) صدر في العام 1986 .. (( الخيمة )) قصص قصيرة جداً 1987 ومثلها ((السكين )) 1987 .. ديوان (( أنت الفلسطيني أنت )) 1987 .. (( أغنيات فلسطينية )) 1993.. (( قمر على قيثارتي )) وهو ديوان عن الانتفاضة 1993 .. (( الشعر الفلسطيني المقاوم في جيله الثاني )) دراسة 1993 .. (( الأشرعة )) قصص 1996 .. (( دليل كتاب فلسطين )) 1998.. (( الانتفاضة في شعر الوطن المحتل )) 1999 .. (( الريشة والحلم )) قصص عن الانتفاضة 2001 .. وهكذا ..
الشعر وأبعاد تشكل الذات الشاعرة :
حين أبحث الآن عن تكون الذات الشاعرة بشكل كامل ، أجد أن الكثير قد يكون في زمن الطفولة ، وأن أكثر ما يشكل قصيدتي هو الحب وخيط شفاف من الحزن الذي يخالطه الفرح .. حتى قصيدة الوطن أجد أن الغزل يكاد يدخل في كل نسيجها .. وبرأيي هذا يعطي القصيدة نجاحها وقدرتها على الوقوف بثبات .. كل قصيدة تخلو من الحب والعاطفة وتأجج المشاعر ، تكون قصيدة ناقصة .. الشعر يحتاج إلى الحب أولاً حتى ينمو ويتطور ويصل إلى النضوج ، وحين يتخلى عن الحب يسقط سقوطه المدوي .. حين نكتب عن الوطن نحتاج إلى هذا الحب لنعرف كيف نسيج كل زهرة بقلوبنا وأعمارنا ، ولنعرف كيف ندافع عنه ونقف في وجه مغتصبيه .. الشهادة حب .. الذهاب وقوفاً في وجه العتمة حب .. التشبث بملامحنا وهويتنا وجذورنا حب .. مقاومتنا للاحتلال حب.. الحب بمفهومه الواسع الشامل يجب أن يسيج الشعر ويحميه من السقوط ..
أيضاً كان الخيال ضرورة .. الشعر دون خيال قفزة في الفراغ .. من حظنا أن الحي الشعبي موار بالخيال .. تكبر الطفولة أو تمشي هناك وهي تتراقص مع الأخيلة .. كل شارع خيال .. كل حارة خيال .. كل زقاق خيال .. الجو الذي يخيم في الليل مسكوناً بسطوة الجبل والمقابر القريبة خيال .. التجول في هدأة الليل والارتعاش يسكن مفاصلنا وكياننا خيال .. الصعود إلى مقام الأربعين ومعايشة جبل قاسيون بكل ما فيه خيال .. أجواء جامع الشيخ محيي الدين الساحرة بما تحمل من أبعاد خيال.. الحكايات عن شخصيات تتجاوز الممكن كانت أو ما زالت في هذا الحي خيال .. الشخصيات التي فقدت هويتها العادية وصارت خارجة عن قانون العقل خيال .. الحكايات التي تحكى في صمت الليل وهدوئه وأكثرها مرعب خيال .. كانت الأيام مشغولة ومطرزة بخيال جامح .. وراء كل حجر حكاية .. وراء كل باب حكاية .. ما أكثر الحكايات وما أخصبها .. لم تكن التلفزة صانع خيالنا ، تلك الصناعة الكابية التي تقتل الخيال .. كنا نعيش الخيال ونصعد في دروبه الرائعة ولا نرتوي ..
إضافة إلى ذلك كانت القراءات التي لا تحد مكوناً رائعاً للشعر .. نستأجر المجلة ونجلس على الرصيف ونغيب تماماً .. نغرق بين الأوراق ونتوه .. كل المجلات قرأناها.. كل الكتب كدنا أن نعرفها في تلك الأيام .. ثم كان الرافد الآخر في المدارس فالجامعة والجوع الذي لا يشبع للكتاب .. الشعر العربي بمساحته الواسعة دراسة واطلاعاً .. الكتب القديمة بكل ما تحمل من روائع .. ثم الالتفات إلى الأدب العربي المعاصر لنقرأ الكثير منه .. أجمل شيء كان وما زال هو هذه الشهوة الدائمة لكتاب جديد نقرأه.. لا شيء يعوض الجيل الجديد عن الكتاب .. رائحة الورق سحر لا يماثله سحر .. شكل الحبر وهو ينسج الحروف يعطي متعة خاصة .. صعب أن نجد على شبكة الإنترنت كتاباً يعطينا متعة القراءة التي نجدها في الكتاب المطبوع .. جربت وما زلت أجرب .. كثيراً ما أقرأ وأنشر عن طريق الإنترنت.. لكن لا أجد متعتي الساحرة ولذتي إلا مع الورق المطبوع .. هل هو التعود ؟؟.. ربما ، حتى لا أصادر حق الآخرين .. لكن أريد أن أوضح بأن للقلم سحره .. أكتب وأطبع عن طريق الكمبيوتر ، لكن أين ذلك من الورق والقلم ؟؟.. لا أستطيع أن أكتب قصيدتي دون ورق وقلم .. أشعر أن الكمبيوتر يأكلها ويمتص الإبداع فيها ، لذلك أجد ضالتي في الورق والقلم .. أيضاً ربما هو التعود.. ولست أنفي أننا قد نتعود الجديد مع الأيام ، إذ من غير المنطقي أن نقف في وجه الآتي لنحدد شكله..
عليّ هنا أن أذكر العلاقات الإنسانية الدافئة بكل معانيها ، تلك العلاقات الرائعة التي تعطي الكثير.. للأسف أن تصبح مثل هذه العلاقات من الماضي البعيد .. كل شيء الآن يرتبط بآلية مادية لا ترحم.. قد يقول البعض وما دخل العلاقات الدافئة بتكون الذات الشاعرة ؟؟ .. لكن لو فكر أحدنا قليلاً لوجد أن مثل هذه العلاقات هي الأشد تأثيراً في الشعر .. فالشعر أولاً وأخيراً مشاعر وأحاسيس ودفء .. كل يد تمتد إليك بالمحبة هي شعر .. كل سلام شعر .. كل جلسة بين الأصدقاء أو الأقارب شعر .. الشعر يحتاج إلى نبض القلب وروعة الدفء الإنساني .. أين كل ذلك؟؟ .. يكاد الواحد منا يبكي على أيام مضت ، أيام كانت رائعة مليئة بالدفء والأمل والابتسامة المشرقة .. فهل فقدنا ذلك ؟؟ .. ليتنا نكون مخطئين !! ..
الشعر وجمرة الكتابة :
في السنوات الأولى ، تلك السنوات البعيدة كما أسلفت ، كنت أبحث عن هذا الشيطان الذي يستطيع أن يضخ الشعر .. لكل شاعر شيطان ، فأين هو شيطان شعري ؟؟.. هناك حالة غريبة تنتاب الشاعر أثناء الكتابة ، حالة تفصله إلى حد بعيد عن الواقع .. مع هذه الحالة يشعر أنه بين منطقتين غريبتين .. ربما لذلك كان هذا التوجه نحو القول بشيطان الشعر .. وإن أنت سألت كل شاعر كيف ومتى تكتب الشعر وماذا عن حالتك أثناء كتابة الشعر ؟؟ .. لوجدت العجب العجاب ، ولأتتك الأجوبة متنافرة كل التنافر.. لكل شاعر حالة خاصة تغلف طريقته في الكتابة ..
هناك شعراء يضيفون ويزيدون ويبالغون في الوصف حين تسألهم هذا السؤال ، وكأنهم يريدون الإبقاء على مقولة شيطان الشعر وإن بشكل مغاير .. المسألة لا تحتاج إلى كل ذلك، فهي ليست بحاجة إلى كل هذا التعقيد ..
هل أستطيع الاقتراب من حالتي وطريقتي في كتابة الشعر ؟؟ .. بكل بساطة نعم .. فأنا أكتب الشعر والقصة والرواية والمقالة وما إلى ذلك ، وأستطيع القول إن كتابة الشعر تحتاج إلى شيء من الخصوصية التي لا أحتاجها في كتابة الأجناس الأدبية الأخرى .. أعتقد أن هناك تدرجاً يشبه صعود درجات سلم ما.. كتابة المقالة أو الدراسة تحتاج إلى استحضار واستنفار الوعي والانتباه والذاكرة بشكل تام.. تكون أداة الكتابة مستيقظة حاضرة بكليتها .. أنت تكتب هنا كتابة ذهنية مرتبة خاضعة للمنطق ومتصاعدة البناء، وأي غياب سيشكل اهتزازاً في جزء من المقالة وباعتقادي أن كل الأمكنة والأزمنة يمكن أن تكون مناسبة ، ما دمتَ مستعداً للكتابة ، مستحضراً كل أدوات المقالة أو الدراسة.. بينما تحتاج القصة إلى صعود درجات متعددة لأنك ستبدأ عملية الخلق بعيداً عن أي مادة محسوسة مقروءة أمامك.. حتى في حالة وضع مخطط مسبق ، فأنت تحتاج إلى صعود الدرجات .. الذهن يكون في عملية خلق ، فهو محتاج إلى التركيز وشيء من الغياب .. وعندما تكتب الشعر عليك أن تصعد إلى الأعلى تماماً ..
للزمان والمكان في كتابة الشعر حضورهما .. للضوء حضوره .. لاستعدادك حضوره .. للموسيقى حضورها .. للورقة والقلم حضورهما .. قد أنظر إلى الأوراق طويلاً دون جدوى.. قد يخرج البيت أو السطر الأول ثم يتوقف كل شيء .. في كثير من الأحيان تكتب القصيدة أو جزءا منها وأنت في الطريق ، كأنها مطر ينهمر في الرأس .. قد تكون داخل السيارة ، أو في مكان عام .. مشكلة أو جمالية القصيدة أنها تطرق الباب بشكل فجائي وتدخل دون استئذان .. لا شيء يستطيع منع القصيدة من الدخول .. تنكسر الأبواب والأقفال وكل السدود والحدود عند الحاجة ويأتي الشعر لينصب انصباباً.. وتأخذ في معايشة الورقة أو التداخل معها ، تجد أن الحروف تتوالى بسرعة غريبة ، وأنك موجود وغير موجود .. الليل هو الأقرب للشعر ، لكن ذلك لا يشكل قاعدة .. هناك شعر يأتيك عند الصباح أو عند الظهيرة .. أجمل قاعدة في كتابة الشعر أنك تخرج عن كل قاعدة ..
حين تنتابك شهوة الكتابة أحياناً بشكل مطلق وغريب ، تأخذ في الذهاب والإياب وكأنك تبحث عن شيء ما .. وقد يعلو الصوت وتأخذ في الترنم بكلماتك التي تأتي تباعاً وتتواصل لتؤلف قصيدة كاملة أو مقطعاً من المقاطع .. تكتب شيئاً وتترك شيئاً ، تشطب ثم تكتب ، تروح وتجيء .. تنظر إلى البعيد وكأنك تبحث عن الكلمات والجمل والمفردات .. تشعر أن مقطعاً ما يأخذ في مراقصتك ، وأن مقطعاً آخر يأخذ في معانقتك .. تصبح الكلمات أحياناً كائنات حقيقية من لحم ودم .. وعند انتهائك من القصيدة تشعر أنك خرجت من ركض طويل مليء بنبض الفرح ..
ما قدمته يشبه وضع الإشارات البسيطة على هامش التجربة .. فكل خطوة تحتاج إلى تفصيل ، وكل صورة تحتاج إلى عدة صور تبين جوانبها .. لكن في كل الحالات يبقى الشعر هذا الطائر الرائع الذي يرتفع في فضاء واسع من العطاء .. وتبقى أصابعنا مشغولة بعشق الشعر لأنه الحبيب الذي لا نستطيع التخلي عن حبه طوال عمرنا ..

***
[/align]
[/align]
[/frame]
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس