أحياء في مملكة السرطان
يلاحقني هذا العنوان، كنت أعتقد بأنّني قد تحررت منه بعد كتابة رواية كاملة صدرت باللغة البلغارية تحمل العنوان نفسه. إنّهم الأحياء الذين يعدّون أيامهم، يتمنّون انتهاءها بأقلّ قدرٍ ممكن من الآلام المحبطة للمريض ولعائلته على حدّ سواء. عايشت هذه المأساة بكافّة تفاصيلها، حين أبلغ الطبيبُ المرحومَ والدي ذات نهار بأنّ هناك ورمٌ خبيث كامن في رئتيه، لكنّه وفّر عليه حقيقة أن الورم بات متقدمًا في المرحلة الثالثة، علمًا بأن للسرطان مراحل رابعها هي الأخيرة. مضى على هذا الشأن ما يقارب عشرة سنوات، إلا أن الذكرى لا تفتأ تعود بين الحين والآخر.
دفعني لهذه الذكرى أو دفعها لي طلبُ إحدى المصابات بمرض سرطان البنكرياس في صوفيا بالسماح لها بجمع التبرعات من أجل القيام بعملية موت رحيمة في سويسرا، إذ تبلغ كلفة هذه العملية أربعة آلاف يورو. قالت أمام شاشة التلفزة بأنّها تحقن نفسها بالمورفين كلّ ساعتين! لكنّها تدرك بأنّ وضعيتها الصحيّة مقبلة على التدهور وقريبًا لن تنفع هذه الحقن مع زيادة وطأة الألم. هل حقيقة ستقدم على هذه الخطوة؟ نعم بكلّ تأكيد ودون تردّد، تاركة أمر الحلال والحرام إلى يوم العقاب، لأنّها ترغب بأن تغادر هذه الحياة بكرامة.
في المرّة الأولى حين ذهبت لرؤية والدي بعد أن علمت بإصابته بمرض السرطان، استقبلني دامعًا في ساحة مطار عمّان الدولي. تعانقنا، تحدثنا عن ذكريات الزمن الجميل الغابر، تحدثنا عن رحمة الخالق أيضًا، وقدرته على الشفاء، لكنّي كنت أدرك بأنّ التلاعب مع الطبيعة وتدخين ما يقارب مائة سيجارة في اليوم الواحد لن تمرّ دون عواقب. في المرّ ة الثانية حين ذهبت لرؤية والدي التقاني عند أوّل الطريق، او نهايته على الأرجح، ودّعني عند قارعة الطريق أيضًا. في المرّة الثالثة حين ذهبت لرؤيته وزيارته بعد سنة من مرضه استقبلني في السرير وقد بانت علامات الإرهاق واليأس والعلاج الكيميائي على محيّاه. في المرّة الرابعة – عفوًا .. لا توجد مرّة رابعة ولا خامسة. كان قد أسلم الروح قبل انقضاء زيارتي الثالثة ومضى في طريق الراحة الأبدية بعد معاناة استمرّت لمدّة 16 شهرًا، حيث اعتبرت قدرته على المقاومة والتمسّك بالأمل والحياة معجزة بحدّ ذاتها.
لا تزال أخطوطة هذه الرواية تلاحقني، لأكتبها مجددًا باللغة العربية، مع أنّها وجدت رواجًا كبيرًا في طبعتها الصادرة بالبلغارية، لكنّي على ما يبدو كنت بحاجة إلى فهم هذه المعاناة بطريقة أكثر عمقًا، كان لا بدّ من انقضاء عشرة سنوات لأفكّر بكتابتها مرّة اخرى، بعد أن باتت الذكرى بعيدة بحجم القرب الروحي الذي يربط الأرواح المعذّبة.
لماذا أحياء في مملكة السرطان؟ شغلني هذا السؤال طويلاًَ، لكن تبين لي بعد معاشرة طابور من المرضى المراجعين المصابين بهذا المرض الخطر، بأنّ هناك فارق بين مسيرة حياتهم ورؤيتهم المستقبلية، وما بين المواطنين الآخرين، المصابين بأمراض خطرة كالسكّري وضغط الدم وغيرها من الأمراض. بل شهدت رحلتي مع معاناة والدي بالسرطان وفاة كثيرين لم يكونوا يشكون من أمراض خطرة، ولم يكن يتوقع أحد وفاتهم! قد يقول البعض هذا قضاء وقدر، نعم – هذا صحيح، لكن المعضلة هي في المفهوم الحتمي القدري الذي يتركه اسم السرطان. هاجس الموت يخيّم كلّ لحظة على المصاب وعلى كلّ من حوله. يبدأ بخطف قطرات الحياة، يعتصرها من كبوة الزمن الصاعد نحو الهاوية، يدرك بأن زيارة السوق وتعاطي الكمّ الكبير من روائح الخضار والخبز الساخن قد تكون الأخيرة، كذلك رؤية تلّ البطيخ المترامي عند حافّة الطريق وصوت بائع الحلوى، والكثير من القضايا التي لا تلفت الانتباء من قبل، لتصبح مشتهاة قدر حقنة المورفين والميثادين والمخدّر.
هل الإصابة بهذا المرض تعني نهاية الدنيا؟ نعم ولا. ألف نعم وألف لا. مقارعة السرطان ومعايشته يتطلب أسلوب حياة مختلف، حيث من الضروري أن يتّسم بالتفاؤل والعمل على رفع معدّل المناعة، وتجويع المرض بأيّ طريقة ممكنة. لكن الاستسلام للأفكار السوداء يجعل من الحياة عبئًا، ليس هذا فحسب بل يزيد من معاناة جميع من في المنزل من أقرباء وأفراد عائلة وجيران ومعارف. لكلّ هذا أسميتهم أحياء يبحثون عن مواطنة في الوقت الضائع، الهارب من حلزون الزمن. إذا تمكنّوا من مهادنة المرض فبإمكانهم اختطاف المزيد من الورود وإلا فإن أكوام الشوك في الانتظار.
عدت لهذا الموضوع لأنّني فقدت والدي في شهر رمضان المبارك قبل عشرة سنوات. فقدته غير مصدّق بأن الرجل الوسيم القويّ قد شاخ وفقد ما يزيد عن نصف وزنه خلال سنة واحدة وبضعة أشهر. بل وأصبح مدمن مخدرات بطريقة شرعية رسمية، تصرف له الوصفات الصفراء بأمر من الأطباء، ويحقن كلّ صباح ومساء لتخدير خلايا الجسد التي ما زالت على قيد الحياة. عدت لهذا الموضوع كي أتخلّص من ذكرى آسرة وفي الوقت نفسه كي أمدّ يدي لجميع الذين يعانون من هذا المرض، لأشدّ على أيديهم ولأقول لهم بأنّ الأمل أكبر من الموت ولا يجب أن يخفت ما دامت هناك في العتمة شمعة مضاءة.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|