الصراع
1ـ الصدمة:
خرجا من القرية لا يلويان على شيء، بعد أن أفاقا من غيبوبة الصدمة بسبب النبأ الذي نزل على يافوخوهما نزول الصاعقة و كان مفاده أن صديقهما القديم و ألد أعدائهما (بر فجونة ) قد حصل على منصبٍ رفيع، بعد أن لبثَ هناك سنين عدة، اللهُ أعلم بعدتِها، و دفعَ ما دفعَ من المال.. لقد كانوا هم الثلاثة أقطاب الجشع، و أركان الطمع، و أساطين الاحتكار في قريتِنا، و هم في سباق دائم، و صراع محتدم على كلِّ شيء، و يتعلمون من بعضِهم البعض أفظعَ الحيَل و أقذرَ الأساليب للنهبِ و الإستلاء على ما بيدِ الأهالي البسطاء من أبناء قريتنا من قشار الدنيا و متاعها، و لم يكنْ يخطرُ ببالهم يوماً بأن يمتدَّ أُفقُ طمعهم و يتّسعَ نطاقُ جشعهم ليشمل المناصب الحكوميةَ و دوائرها الرسمية، و لم يكنْ في حسبانهم هذا الأمر، و لم يخبروا هذا النوع من التجارة من قبل، حيث كانت الأبواب إليه موصدة، في أيام خلت، و لكن مؤخراً، و في ظلِّ الوضعِ الجديد.. عصر الانفتاح على كلِّ شيء حتى الانتفاخ بكل شيء، فقد أصبحت الفرصة سانحة لأمثالهم من أصحاب الأملاك لضم المناصب الإدارية الكبيرة منها و الصغيرة إلى ممتلكاتهم الخاصة و الاستحواذ عليها أيضاً..
2ـ نصيحة:
و قد قيلَ لهما أنذاك بأنه يستحيل أن تحصلا على ما تبتغيانه من مناصب و أنتما على هذا الحال من الجهل و الأمية، فلا تضيعا وقتكما، ولا تبددا أموالكما بما لا فائدة ترجى من ورائه.. فقالا لهم نحنُ نقدِّرُ نصيحتكم و لا نشكُّ أو نرتابُ بصفاءِ سريرتكم و مدى حبَّكم لنا و خوفكم على مصلحتنا، و لكننا قد عزمنا على هذا الأمر و لا بد من الوصول إليه أو نخسرُ كلَّ أموالنا دونه..
3ـ برفجونة يفكر في بيع الحكومة:
ثمَّ وهل هذا الوغد المدعو ( بر فجونة ) بأفضلِ منا معَ أنه أشد منا جهل و أكثر تخلف لدرجة أنه لا يجيد حتى السير على الأرضِ منتصباً كما يفعل البشر، فيدبّ على الأربعِ كما يدبّ أبن أوى، و مع ذلك فها هو ذا يعود من هناك و قد فاز بأرفع المناصب في قريتنا و هذا ما أثار حفيظتنا و حرك نوازع الكرامة في نفوسنا، حيث كان هو أقلنا مال، و أدنانا شأن، و بالتأكيد بأنه ما فعل ما فعله إلا لينتقم منا، و ليستخدم السلطة كسلاح جديد في صراعه معنا، و قد شرع فعلاً في استعمال ذلك السلاح ضدنا، و أستغلَّ في ذلك منصبه الجديد إستغلالا سيئا، و ها هي أملاكه تتسع يوماً بعد يوم بعد أن باعَ الكثير من الدوائر الحكومية لحسابه الخاص، و ضم الممتلكات العامة إلى أمواله.. و قيل أنه قد أسرَّ إلى بعض خلصائه المقربين بأنه قد بدأ يفكّر بجدية.. بل عقد العزم على بيع الحكومة نفسها بعد أن أصبحت من ممتلكاته الخاصة.. و قد أصبحنا لا قبل لنا به و إذا لم نفعل شيئا إزائه سوف نخرج من حلبة المنافسة لا محالة برؤوس حاسرةٍ و جيوبٍ خاسرة...
4ـ قارون كان أميا:
و أعلموا بأننا بالمالِ، و بالمالِ فقطْ يمكننا الحصول على ما نريد و الوصول إلى ما نطلب، و سوفَ نثبت لكم بأن المال أفضل من العلم.. و سوفَ تعلمون بعد حين.. ثم ألا تعلمون بأن قاروناً قد كان أمياً و مع ذلك ضُرِبَ به المثلُ بالغنى حتى عجزَ قطيعٌ من الحمير عن حَمْلِ مفاتيح خزائنه و لم يذهبْ إلى المدرسةِ يوماً و لم يمسكْ بقرطاس أو قلم..
5ـ غيبة المهدي:
فغابا غيبة صغرى ثم أخرى كبرى كغيبةِ المهدي حتى يأسَ الناس من أوبتهما، بينما هما يبحثان عن وظيفةٍ رفيعةٍ من تلك الوظائف الشاهقة لعلهما يطلا من عليائها على السلطة و المال فيجمعا الحسنيين معاً..
6ـ الورقة الصغيرة:
ثمَّ عادَ أحدهما بعد فترةٍ من الدهرِ تعلو وجهه أبتسامة ماكرة و أخرج من (كماره ) الأخضر الذي يشبه حزام المصارعين ورقة صغيرة فناولها لمن يليه منهم و طلب إليه أن يجهرَ بقرأةِ مضمونها على مسامعِ الحاضرين لعلَّ القوم يعلمون و ما أن بدأ القارئُ يتمتمُ حتى أخذتا عيناه تتسعان و شفتاه ترتعشان مما أصابه من الدهشةِ و قد اشرأبت الأعناقُ نحوه و ذهلت النفوسُ شوقاً لمعرفةِ فحوى تلك الورقة الصغيرة التي بين يديه و ماذا عسى أن يكون مكتوب بها؟!
7ـ ذات الوظيفة:
بينما ما زالَ صديقه الآخر واقفاً هناك على عتباتِ الباب العالي في مدينةِ الضباب و المالِ و المناصبِ مستجدياً.. و قد صرَّحَ و أكدَ مراراً و تكراراً بل و حلفَ و هدَّدَ بأنه سوفَ لمْ و لنْ يعود هو الأخر إلى القريةِ ما لمْ يظفرْ بذاتِ الوظيفةِ لا بغيرها..
8ـ نكبة بر فجونه
خرجوا أهالي قريته يستقبلونه بفرح عارم و حفاوة بالغة عند مشارف القرية بعد أن تناهى إلى مسامعهم خبر عودته إلى القرية، فكيف لا يستقبلونه و هو أبن قريتهم المرموق الذي يفخرون دائما بنجاحه الكبير و أسمه اللامع..
و هم يعتقدون بأنه ما زال على عرش مجده، و قمة منصبه، و لا يعلمون بما حصل له مؤخرا..
و كيف لهم أن يعلمون بما تغير من أحواله؟ و هو الذي ترك قريته منذ عشرات السنين مضت، و سكن قصرا منيفا في أرقى حي من المدينة، و ما أن يرى أحدا من أبناء قريته على باب قصره حتى يأمر حراسه بطرده شر طردة.. و كان يشعر بالخجل من أصله القروي، و يضيق ذرعا بأبناء قريته و يمقتهم شر مقيت، بسبب بساطة حالتهم و أشكالهم البائسة و ملابسهم الرثة...
و قد ظهرت أثار الصدمة و علامات الاستغراب على وجوه أهل القرية عندما ظهر أمامهم بر فجونه بثيابه البالية، و حالته البائسة، التي لا تسر صديقا، و لا تغيض عدوا، فعجبوا من حالته تلك أشد العجب، و لم يجدوا لذلك تفسيرا مقنعا..فقال البعض ربما جاءنا متنكرا بهذه الهيئة حفاظا على سرية زيارته المفاجئة أو حيطة أمنية، و قال آخرون عساه أن يكون قد أراد بذلك التواضع، أو عاد إلى رشده و تاب عن غيه، و أراد التكفير عن ماضيه من سوء سلوكه مع أهله و ذويه من أبناء قريته..
و في حقيقة الأمر لم يكن هذا و لا ذاك.. و عندما أتضح لهم ما خفي من أمره، و علموا بعثرته.. حزنوا لمصيبته أشد الحزن، و جمعوا له كل ما يملكون من مدخرات أموالهم، و أثاث بيوتهم عسى أن يخففوا من جلل مصابه، و يعوضونه عن بعض ما خسر.. و عندما رأى ذلك منهم، ندم ندما شديدا على ما بذر منه تجاههم في ما سلف من الأيام، و ما تقدم من سوء سيرته معهم، فخرّ عند أقدامهم يطلب العفو، و يرجو الصفح..
عويس القلنسي