[align=justify]
التقينا على الطريقة الربيعية، ابتسمت الطبيعة و غنت احتفاء باللقاء، لم يكن أريج الصدفة إلا
حسنة من حسنات الفصل المبتهج، لا قيمة في شعوري لتحضيرات اللقاء، كل ما أستطيع قوله
أن الله أتقن الإعداد لذلك اليوم البعيد. طفقت أتفحص وجه الملكة ماري أنتوانيت في إحدى كتب
التاريخ العتيقة، فأوحى إلى المشهد باسم:" لطيفة"، هذا ما ترسخ في الذاكرة، اسم بلا جسد، لكنه
روح من النقاء و الإنسية تحلق بسعادة في خيالي الشاسع. أحاول لملمة كل الأوصاف
المقتبسة من روعة الاعتناق المؤقت للماضي المسرور، غير أن الصورة الأخيرة، اسم يهمس
بكل الإحتمالات، ما أروع أن يسافر الإنسان إلى غياهب الأيام الخوالي، لن تزعجه قتامة
الواقع، لكن الأهم من التجوال المطلق رفقة العقل، فهو وحده من يركب الإحساس، يوقد الحنين
و يسترجع الجمال المفقود.
تفاصيل اللقاء تلاشت، و ما ظل صامدا علاقة انسانية صافية تأبى النهاية، في كل قطرة لامعة
من قطرات فؤادين مزجهما القدر، تنبثق إرادة البقاء و عزيمة الإستمرار. اختارت صحبتنا
المدرسة، و فدت الشمل بالنفيس طيلة ست سنوات متواصلة، تخللها اكتشاف الإنتماء و بناء
الهوية و اللمس الطفولي لمعاني الإستقرار و الإطمئنان التي استشرى في كل موقع من المجتمع
أنها مهام مخصصة للكبار فقط، تقييم فاشل، فكأن الصغار لا يمتلكون الوعي الكافي لفهم
مصطلحات الإجتماع البشري المستمدة من التطبيق اليومي، و على كل حال فإنني أعتقد
أن لطيفة كانت صادقة و مصيبة في رأيها،:" نحن الدليل الحي على نجاح الاستقرار، فلماذا
يصرون على القول بعجزنا عن استيعابه". هكذا يرتسم فحوى كلامها في ذاكرتي، و ربما قد
أكون أنا القائل. اجتماعات التأمل في الحياة كانت كثيرة، فقد ارتشفنا رونق نسيان موعد
التعارف البسيط، منذ الأيام الأولى. هي من يؤكد لي أن سرعة النسيان مقياس لتوقع مصير
العلاقة الإنسانية، و خاصة نسيان وقت التعارف، و بالإضافة إلى إشارته الواضحة لتقدم
العلاقة، فإنه يتحكم في اكتمالها أو اخفاقها. لنا رؤيتان بريئتان ألفت بينهما أفكار مشتركة
فقد بدأ الله و الكون بالدخول إلى امتداد التساؤلات. رغبة الإدراك لا يحتكرها الإكتساب
العلمي، بل إنه قد يساهم في وأدها أو إجهاض تطورها في أفضل انجازاته. كما سيطر على
تفكيري مبكرا، انبرت لطيفة للنضال، رفضت لقب:"المتعلمين" بانطوائه المتعمد على انتقاص
جسيم من كرامة الإنسان، و قاومت شيوع الإكتساب،:" لسنا أكياسا بلاستيكية يستعملها
الزبائن لمدد زمنية قصيرة، ثم يلقون بها إلى سلة المهملات أو يوجهونها لإعادة التصنيع.
السؤال الذي لا يزال يراودني: هل كانت تسعى إلى عالم مثالي يرتكز على صحة سلوك
الفرد؟ قد أبالغ، و ربما تكون انطباعاتي متولدة عن التحاقي القسري بالكبار.
لحظة حميمية استوطنت ذاكرتي، مجرد قبلة قرب ساقية المدرسة، لا أدري متى حدثت،
لكن المهم أنها حدثت. من عاداتنا الخالدة الإجتهاد في شرح الأحداث المؤلمة، أما ما نعتبره
خيرا فإننا نكتفي و يجدر بناأن نستمتع به قبل أن ينفذ. هذا ما نستطيع أن نعامل به
البهجة، الإستمتاع بها، خاصة و أننا في أغلب الأحيان لا نتحكم فيها، فلطالما ارتبطت
بالصدفة. كأي باحث مبتدىء في متاهة الحب المثيرة، حلمت بقبل أخرى، و لم أتصور
للحظة أن رصيدي سيجمد عند قبلتين: الفاتحة التي نقشتها بأحرف وامضة ساقية الماء
قرب مكتب المديرة في المدرسة، و قبلة النهاية التي أقرها رحيل لطيفة مع أسرتها إلى مدينة
أخرى. لدى استلامي للخبر، لم أتفاجأ، لكنني حاولت ابداء رفض أباده اصرار والدها على
تسجيلها في إعدادية راقية، تفضل الصيت الرديء لإعدادية مدينتنا المكفهرة. أتذكر أنها
زارت منزلنا للمرة الأخيرة، و علمت من خلال شقيقي أننا شاركت في رحلة مع جماعة
من الأصدقاء إلى الحقول المتاخمة للوسط الحضري. غادرت بهو المنزل بسرعة، لنلتقي
أمام بوابة المدرسة...و رحلت.
يصعب علي أن أرسم ملامحها، بيد أن هذا الإخفاق المتقادم يخسر دوما أمام ايمان شخصي
بأن لطيفة كانت فتاة استثنائية.
[/align]