الموضوع: ابنة الجنرال
عرض مشاركة واحدة
قديم 22 / 11 / 2011, 33 : 10 AM   رقم المشاركة : [1]
خيري حمدان
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم

 الصورة الرمزية خيري حمدان
 





خيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond repute

ابنة الجنرال


-1-

كانت صامتة طوال الوقت، أخرجت أمتعتها من الحقيبة الكبيرة، وبدأت بترتيبها في الخزانة الأنيقة، كانت هناك غرفة صغيرة داخلية قرب الخزانة لاستيعاب الأحذية الكثيرة التي أحضرتها معها، بدأت تضعها حسب ألوانها فوق الرفوف ولم تتوقف عن التأفف طوال الوقت. سلمى في منتصف العمر وما تزال لمسات الجمال واضحة على ملامح وجهها، كما يبدو بأنها أمضت حياة مرفهة ومريحة، ولم تتعب من أجل الحصول على لقمة العيش. زوجها الجنرال عادل بدا هادئًا للغاية وصامتًا كالعادة. سارع بالذهاب إلى شرفة الشقة التي استأجرها لقضاء استراحته قبالة البحر، جلس بعض الوقت على مقعد جلديّ وأخذ يراقب الأمواج وهي تلاطم الشاطئ كأنها عاتبة أو غاضبة لانتهاء رحلتها على ضفافه. أخرج غليونه وبقي ساهمًا وكأن على رأسه طير، أخرج بعد لحظات هاتفه الجوال، وطلب رقمًا مخزّنًا في ذاكرة الجهاز، في البداية قال: آلو، ثم لاذ بالصمت مطولاً، كان يستمع معظم الوقت، وبين الحين والآخر كان يهزّ رأسه موافقًا، تقاطيع وجهه كانت حزينة، كانت قد اختفت علامات القسوة التي يتصف بها الجنرالات منذ تلك الحادثة!

دخلت سلمى إلى الحمام، لم تتعر أمام زوجها متعمدّة ذلك، أغلقت الباب خلفها وسالت المياه الساخنة فوق جسدها البضّ، دندنت بعض الوقت لكنها سرعان ما لاذت بالصمت. تُرى، ما الذي يجبرها على البقاء معه طوال هذا الوقت؟ انكسر مفهوم الحبّ الذي جمعهما ذات يوم، كانت في بداية حياتها الزوجية في قمّة سعادتها وعاشا معًا أجمل لحظات العمر، وجاءت عبير، الطفلة المدللة والمحبوبة من الجميع، ثم جاء ربيع، الذي كبر وتعلّم وبات شابًا واعدًا ووسيمًا. لقد حققا الكثير في مشوار الحياة، لكن السعادة هربت من بين أيديهما على حين فجأة. أحيانًا تُظْهرُ لحظة فالتة من عقال الزمن الكثير من الخبايا والحقائق، هذه اللحظة تعرّي الآخر وتكشف عن ظلالٍ كانت مجهولة بالرغم من مرور سنوات طويلة من حياة مشتركة قضياها تحت سقف واحد. أخذت تلوم نفسها لأنها وافقت على هذه الرحلة، لم تفكّر كثيرًا بالأمر، لم تأخذ بالحسبان بأنها ستكون وحيدة مع هذا الرجل الذي بات غريبًا إلى حدّ بعيد!

انشغلت بنفسها، جففت شعرها ثمّ سرّحته طويلا، مضت بضع ساعات ولم يتبادلا كلمة واحدة، كان هو يرتشف الشاي على الشرفة ويراقب الأمواج المتكسرة على الشاطئ بصمتٍ قاتل. لبست سلمى ملابس خفيفة وهمست قائلة:
- أنا ذاهبة إلى الشاطئ.
لم تنتظر موافقته ولم تطلب رفقته، كانت وكأنها تحدّث نفسها وتخبر ذاتها بأنها ستذهب لتضيع في فوضى الشاطئ الذهبي الدافئ، كانت بحاجة لأن تكون فردًا بين حشدٍ كبير. كان في انتظارها عند مدخل الفندق تاسوس وهو يوناني الأصل ويعمل على جزيرة كورفو منذ زمنٍ بعيد، الفندق يعود لأجداده وهو يعلم جيدًا كيف يجب أن يتعامل مع زبائنه لأن قطاع المنافسة كبير للغاية.
- سيدة سلمى. قالها بعربية صحيحة وأحنى رأسه احترامًا، كانت الابتسامة تملأ وجهه الرجوليّ الأوسطيّ الوسيم البريء.
- تاسوس. لم تضف كلمة واحدة على ذلك، وكانت تشعر بأنوثتها كاملة في حضوره. ابتعدت عن المكان وكانت ترغب بالانزواء في ركن قصيّ على الشاطئ بعيدًا عن أنظار الجنرال والذي كان يراقب الحياة الرتيبة من على تلك الشرفة. كانت سلمى مستلقية تحت مظلة كبيرة، حضر إلى طرفها تاسوس وكان يحمل لها فنجان قهوة كبير وبعض الفواكه وابتسامته التي لم تكن تغادر وجهه طوال الوقت، أو على الأرجح حين يشاهدها أمامه.
- نظرت إليه بحيرة، كانت سلمى قد تعودت طوال حياتها أن تقدم القهوة والطعام وكامل ما يترتب على الزوجة العربية القيام به لأفراد الأسرة وعلى رأسها زوجها الجنرال. والآن يركض هذا الرجل الوديع خلفها حرصًا على راحتها وهناءها.
- تاسوس .. لماذا تقوم بكلّ هذا يا جميل. فهم تاسوس الكلمة الأخيرة وغضّ عينيه خجلاً ومضى من حيث أتى. بقدر ما كانت فرحتها كبيرة بهذا الاهتمام غير المسبوق كانت ذات الوقت تشعر بأنها محاصرة بسيل من الهمّ والحزن! غالبًا ما كانت تتساءل: لماذا يتعذر على المرأة العربية أن تشعر بالانعتاق الكامل من حالة الحزن والانغلاق على الذات؟ لا يوجد فوق كورفو ذكرى للماضي سوى حضورها وكيانها، وكان من المستحيل أن تلغي سلمى حضورها. فليلاحقها الماضي قدر ما يشاء إذًا!
كانت بحاجة في تلك اللحظة لمن يدهن ظهرها بزيت البحر لكي لا يحترق جلدها حال تعرضها لأشعة الشمس، وكأن تاسوس سمع نداءها فقد أرسل بإحدى العاملات في الفندق وهي من أصل عربي وتدعى ليلى للقيام بهذه المهمة. بدأت ليلى تدهن ظهرها وكتفيها وهمست قائلة:
- تبدين شابة ونضرة سيدة سلمى.
- من أين أنتِ يا ليلى؟
- أنا من المغرب العربي، أنا إحدى ضحايا الفقر سيدتي. كنت أتمنى أن أحصل على حريتي الاقتصادية والذاتية بعيدًا عن وطني، أبقيت حقيبتي مغلقة مدّة ستة أشهر، كنت أتوقع أن أسافر أو أبتعد إلى مكانٍ ما، أو ربّما أطرد من هذه البلاد لعدم حصولي على الإقامة والوثائق الشرعية للعمل وممارسة الحياة.
- أنت من عمر ابنتي عبير يا ليلى! تاسوس رجل فاضل ورائع للغاية.
- تاسوس يحبّ العرب كثيرًا ولكنه..
- ولكنه ماذا؟ لماذا صمت فجأة؟
- أشعر بأنه يعيرك اهتمامًا خاصا يا سيدتي. انقطع الحديث عند هذا الحدّ، أدركت سلمى بأن حدسها صحيحًا، كان تاسوس مغرمًا بها على ما يبدو، ونادرًا ما يخطئ حدس المرأة. سلمى لم تفكّر يومًا بخيانة زوجها بالرغم من الهوّة التي باتت أخذت تفصل بينهما. كيف حصل كلّ هذا؟ كيف انقلبت العواطف وشاخ الحبّ العاصف ذات يوم؟

-2-

كان عادل غارقا في عالمه الخاص، جلس لساعات متواصلة حتى تصلبت مؤخرته، وقال دون أن يلتفت إلى الخلف "عبير" كان يعرف حقّ المعرفة بأن زوجته غير موجودة. وأضاف وقد انحدرت قطرات من دمع ساخن من عينيه "كان عليك أن تهربي يا صغيرتي!" أجهش بالبكاء بعض الوقت، ثم دلف إلى داخل الحجرة، انقلب على ظهره ونام. لم ينقذه النوم من كوابيس الواقع، كان في انتظاره عادل - الجنرال الآخر العنيف والقويّ الذي لا يعرف للرحمة معنىً.

انطلقت الشاحنة محملة بالجنود المسلحين بقنابل الغاز وكان الجنرال عادل يجلس في المقعد الأمامي للحافلة. كانت الأوامر التي تلقاها واضحة "لا تتوانى في مواجهة الاعتصام يا عادل" وكان ردّ عادل كالعادة "أمرك سيدي!" لم يكن هناك أيّ مجال للتردّد في تنفيذ الأوامر العسكرية التي تلقاها.
- استخدموا خراطيم الماء والعصي عند الضرورة .. هل هذا مفهوم؟
كان يعلم جيدًا بأن أمامه حشد من الطلاب الجامعيين وليس جيشًا. شبابٌ راغبون بتغيير مسار الدنيا بأحلامٍ وردية. هل كانوا على حق؟ هذا ليس مهمًا الآن، لا أحد يجادل في الجيش ، لا أحد يفكّر، لا أحد يطرح الأسئلة. ومع الوقت يتعلم الجندي والضابط على تنويم الضمير إلى أجلٍ غير مسمّى. طبعًا أحيانًا تفاجئنا الحياة بما لا نشتهي أو نتوقع.

اللعنة جميعهم متشابهون للغاية. شباب وسيم يانع في مقتبل العمر، يحملون شعارات جوفاء، نحن الكبار نجدها كذلك، ولكنهم مؤمنون بعكس ذلك تمامًا. لديهم رغبة غير مسبوقة للتعبير عن آراءهم وأنفسهم، ويعتقدون بأن مواجهة العسكر شرفٌ لهم مهما كانت النتائج.
كان المظهر مضحكًا بل مأساويًا! الجنرال عادل ومن خلفه الجنود وحاوية الماء والخراطيم الموجّهة بقوة ضغط هائلة، ومن جهة أخرى حشد من الجامعيين الغاضبين. كانوا جميلين كالملائكة، شعر الجنرال بوخز في داخله، هل هو الضمير يا عادل؟ عاد لوهلة لماضيه البعيد، حين كان هو الآخر يطير في السحاب عاليًا، قبل أن يتعلّم أن يحسن الاستماع للأوامر. جزءٌ كبيرٌ من هؤلاء الطلبة سيتعلمون قريبًا الاستماع للكلام والأوامر التي سيتلقونها من مدير أو رئيس قسمٍ أو ربما أوامر جنرال!

سلمى كانت راغبة في إعطاء مضيفتها المغربية مبلغًا من المال، لكنها أبقت محفظتها في الشقة قبل أن تخرج إلى الشاطئ لتنال قسطًا من أشعة الشمس الدافئة ولتستحمّ في مياه المتوسّط دون حسيب أو رقيب. كانت حقيقة تشعر بالامتنان من هذا الاهتمام الذي أعاد لها مشاعر مستحيلة كان من الصعب معايشتها حاليًا في شرق المتوسط. هنا شعرت باستقلاليتها وكان بإمكانها أن تبدأ من الصفر دون أن تكون تابعة لأحد. كانت تحدث نفسها دون أن تعير للوقت أدنى انتباه "بإمكاني أن أفتح محلا تجاريا فوق هذه الجزيرة، بإمكاني أن أمتلك محلا للتجميل وقصّ الشعر وبناء حياة مستقلة، دون أن أحمل هموم زوجي والماضي الذي يبدو دهرا من الزمن في تقويم ذاتي المتأهبة للانعتاق من قيود الشرق الكثيرة." حضرت في وقتٍ ما ليلى وكانت تحمل كأسًا كبيرة من عصير البرتقال. جلست إلى جانب سلمى وأخذت تراقب الأفق الأزرق البعيد. قالت سلمى:
- هل أنت سعيدة يا ليلى؟
- السعادة مفهوم نسبيّ للغاية يا سيدتي.
- ألن تعودي إلى هناك؟
- الجميع يتوقعون مني الكثير .. العودة مكلفة والغربة تعني لأهلي النجاح والمال وهذا مخالف للواقع. أنا لست سعيدة بالمعنى الذي تفهمينه يا سيدتي، في هذا الفضاء الحرّ تكمن عبوديتي، أنا مستعدة لتقديم جسدي وحياتي ومستقبلي لرجلٍ يضمن لي بعض الدفء والطمأنينة، ويتحدث معي بلغة أفهمها، يعيدني من خلال لغتي لذكرى عالم جميل وقاسٍ يسمونه الوطن! أنا نكرة يا سلمى هنا، أنا لا أحد! فتاة حائرة في هذا الجسد، ولكن يسعدني حقيقة التواصل معك والحديث إليك. بعد قليل مضت سلمى إلى المياه وغابت في عمقها الأزرق الدافئ.

- لا تطلقوا خراطيم المياه دون إشارتي .. واضح؟
رفع عادل يده عاليًا، وكان يتمنى أن يبتعد الطلاب عن طريقه ويكفونه مرارة المواجهة، وكان يعلم قدرة الفرقة التي يقودها، وقسوة الهراوات والرصاص المطاطي والمواجهة الجسدية مع هؤلاء المتدربين على طحن أيّة مواجهة. لكن الطلاب لم يتحركوا قيد أنملة، البراءة كانت تقودهم وتوجههم، كانوا أشبه ما يكونوا بقطيع أغنام! لا .. هؤلاء ليسوا أغنامًا، ولكنهم أمل المستقبل، يعتقدون جادّين بأن الكلمة قادرة على مواجهة هذه الآلة الجهنمية.
الأبله رمى حجرًا تجاه جنوده وصرخ الطالب الأبله بملء صوته "تحيا الحرية، تسقط الدكتاتورية" عندها لم يتمكن عادل من البقاء مكتوف اليدين، كان عليه أيضًا أن يحمي جنوده ويبقي على كرامتهم. بدأت يده تنحدر نحو الأسفل ما يعني أمرًا بالانقضاض على العدوّ الحبيب. يا لهذا الجنون! المعذرة يا وطني، حانت ساعة سأخجل منها طوال حياتي. كانت آلاف الأفكار تهاجم رأس عادل قبل أن تسقط يده آذنة بلقاء غير متكافئ في حرمٍ جامعيّ كان من المفروض أن يبني غدًا واعدًا.
انطلق خرطوم الماء يعربد في وجه الجمال والشباب المتحمس، والذي سرعان ما انقلب على ظهره من شدّة ضغط المياه المقصوفة نحوهم. وبدأت الهراوات تعالج الطلاب وسط صراخٍ من الغضب الذي سرعان ما تحوّل لتأوهات وألم. حاول جاهدًا إعطاء أوامر جديدة بإيقاف هذا العبث. لكن الهراوات كانت تتصاعد وتهبط فوق الأجساد البضة. صرخ بملء صوته:
- كفى.
شاهد كيف هبطت الضربة الأخيرة من يدِ أفضل جنوده فوق جسد فتاة. كانت تسقط على الأرض فاقدة الوعي، وكانت عيناها تحدّق فيه وشفتاها تهمس بحسرة "أبي!".

-3-

عرفتني، وهي تسقط على الأرض فاقدة الوعي، توقف سالم عن ضربها حال وقوعها ولكن الوقت كان قد فات. ضربة واحدة من يده كانت كافية. كان عليّ أن أهنئه على عمله المتقن الذي قام به، تمكن من دحر الكثير من الشبان خلال ذلك النهار. قلدته وسام الشجاعة في حفلٍ صغير، لا أدري إذا ما كان يعرف ما الذي اقترفته يداه؟ سالم كان صامتًا، لأنه يعرف جيّدًا بأن العسكريّ الجيد كثير الصمت. الأخرس يصعد بسرعة على السلم الوظيفي. يومًا ما يا سالم، ستتمكن امرأة ضعيفة أن تخترق قلبك بجديلة شعرها فقط، ولن تكفيك كلّ هذه الأوسمة ولا حتى أساليب القتال التي تتقنها وتفوق زملاءك فيها.

- أخبرني يا دكتور .. هل هي بخير؟
- نعم .. لقد تجاوزت مرحلة الخطر، ولكن الضربة التي تلقتها على حوضها قويّة للغاية، يلزمها سنة على الأرجح حتى تعود إلى ما يمكن أن يوصف بالوضع الطبيعي. الزمن كفيل بشفائها والرعاية الحثيثة ضرورية كذلك. ولكنها للأسف لن تتمكن من حمل الأطفال، هذا كلّ ما هناك.

ارتفعت يدها عاليًا، وانهالت بصفعة معيبة وقاسية على وجه الجنرال.
- يا غبي، قتلت الحياة في رحم ابنتك إلى الأبد!
كانت عبير تقضي وقتها ساهمة في غرفتها في المستشفى وكانت ترغب في إنقاذ والدها من انتحارٍ وشيك أو سكتة قلبية جامحة. كانت تدرك بأن أنوثتها وبراءتها باتتا في عداد الماضي. لقد قررت أن تواجه الغول بمحض إرادتها ودفعت الثمن غاليًا، وكانت تدرك بأنّها والجنرال عادل ضحيتان لآلية ونظام واحد. إنّهما يمثلان وجهان لعملة واحدة، العملة التي لم يتوقف عن تقليبها بين يديه ذاك العابس أبدًا. الوحش الذي لا يشبع، الوحش الذي لا يكتفي بازدراد اللقمة السائغة التي يقدمها له أسراب العاملين فوق راحة يده، لكنه لا يتهاون لحظة واحدة في قتل أمّه إذا نظرت يومًا إلى عينيه مباشرة.
الجنرال الذي كان منتصب القامة، الجنرال الذي كان يحدّق في عين الشمس متحدّيًا، بات يتقن النظر إلى الأرض وطأطأة الرأس معظم الوقت. طلب الجنرال إجازة طويلة، وحصل عليها بسرعة، كانوا يعلمون بأن ابنته عبير كانت من ضمن المتظاهرين، وكانوا يعلمون بإصابتها كذلك.

بعد أسبوعٍ تقريبًا دعت الهيئة العليا لقيادة الجيش الجنرال عادل للمثول أمامها، وبعد مقدمة طويلة أثنوا خلالها على شجاعته وخدماته الكثيرة، قدمّوا له وسام الدولة من الدرجة الأولى، وأخبروه بأن القيادة العليا للجيش ارتأت بأن الوقت قد حان لتقاعده، وأن الوقت قد حان للاهتمام بحياته الخاصة وجني ثمار أتعابه، خاصة وأنه سيحصل على مبلغٍ كبير بدل أتعابه وخدمته المتفانية في الجيش. أدّى عادل التحية العسكرية وبالكاد أمسك الدمع الذي فاض من عينيه. كان يدرك بأن ما يحدث الآن أمامه مجّرد صورة مقنّعة لعقابٍ شديد، وكان يدرك بأنّهم يعلمون جيدًّا بأنّه لم يعد ذلك الرجل القويّ الذي كان قبل إصابة ابنته عبير. كانت مراسم الإقالة ثقيلة الوقع علي نفسه حتى أنه تمنّى لو كان نسيًا منسيًا في تلك اللحظة. هيبته العسكرية أمام قادته وزملاءه كانت قد تبخرت وحلّ مكانها مشاعر التعاطف والشفقة، وهذا آخر ما كان يتمناه رجل أمضى جلّ حياته في إعطاء الأوامر، كان قد تعوّد أن يكون مطاعًا ولم يبقَ ربّما سوى تقبيل يده صباح مساء. كانت ابنته وزوجته تفعلان ذلك، ولكنهما توقفتا عن ذلك بعد إصابة عبير خلال المظاهرة والاعتصام الأخير في الجامعة.

عادت سلمى إلى الشقة، كانت تشعر بالتعب من السباحة ومراقبة الدنيا بكسل، تعبت من إضاعة الوقت والاستلقاء على ظهرها تارة وعلى بطنها تارة أخرى، كانت بحاجة لنيل بضع ساعات من النوم. حين دخلت الشقة وجدت عادل على أهبة الاستعداد لمغادرة الشقة، اعتذرت عن مرافقته وقالت له بأّنها تحتاج لبعض الوقت للنوم وقد تلحق به فيما بعد. ابتسم عادل وخرج دون أن يتفوّه بكلمة واحدة. شعرت بأنه قد تغير وبات كثير الصمت، لكنها لم تعر الأمر أهمية كبيرة، وسرعان ما خلدت للنوم.

آخر ما كان يتوق له عادل هو الانخراط بين الجموع المحتشدة على الشاطئ الذهبي، كانت الأجساد العارية تشعره بالتقزز وبرغبة كامنة في جلد الظهور البرونزية، كان قد تحول إلى كتلة من الكراهية، وكان بحاجة لأن يصبّ جنونه وغضبه وإحباطه تجاه الحياة، وكان في الوقت نفسه يدرك بأنّ هذا التصرّف خاطئ. خلع ملابسه ورمى بنفسه في المياه، كان هناك من حوله الكثير من المستجمين وأخذ يسبح بقوّة وبعد دقائق وجد نفسه بمنأى عن المصطافين، خفتت الأصوات والضجيج والصخب والضحك، وأخذ صوته الداخلي يرتفع تدريجيًا فارضًا عليه سلطة جبّارة يصعب مقاومتها. مضى فرسخًا آخر في المياه وأدرك بأنّه بات جزءًا من كتلة مائية عملاقة، وحيدًا وسط جبال من المياه المتموّجة الهادئة. ابتعد مجدّدًا نحو رحم البحر، كان يرغب في أن يكون نكرة، قشّة، فقاعة، ذكرى، قفزة في ماراتون الزمن، زاوية في فضاء المعمورة! كان يرغب أن يذوب مع ملح البحر وأن يكون طعامًا للسمك ليتحول بعد ذلك إلى كافيار وبيض أسماك يتغذّى عليه الصيادون والبحّارة.

لم يعد قادرًا على السباحة أكثر من ذلك، استلقى على ظهره مسلّمًا أمره للقدر، رفع يده عاليا فوق الماء وهمس "اضربها يا سالم وستحصل على وسام، حتى وإن كان من يواجهك فتاة اسمها عبير، حتى وإن كانت ابنتي. ولكن يا سالم وقع الكثير من الضحايا في تلك المعركة غير المتكافئة، نحن مارسنا العنف ضدّ أبناءنا يا عسكريّ المفضّل، هل نفخر بذلك؟ ماذا عن وليد وحسن وكوثر، ماذا عن أولئك المحرومين من آباء في مرتبة الجنرالات ولا يملكون وساطة للعلاج في المشافي العسكرية المتخصصة؟."
- crazy!
صاح به حرس الشواطئ وكانوا يمتطون زورقًا يعمل بمحرّك قويّ، وضعوه في مؤخرة الزورق وغطّوه بمنشفة كبيرة ثمّ عادوا خلال دقائق معدودة نحو الشاطئ، كان هناك مترجم يتحدث العربية، قال له بأن تصرفه طائش ومرفوض، وسوف يمنعونه عند الضرورة من الاقتراب من المياه إذا فكّر في الدخول مجددًا إلى وسط البحر!

-4-

كانت جميع عضلات جسده تؤلمه بسبب الإجهاد الكبير الذي بذله في السباحة، استلقى في غرفة النوم، وهناك ليس بعيدًا عنه كانت سلمى قد أدارت له ظهرها لتأخذ زينتها، كانت ترغب بالخروج إلى أحد المطاعم برفقته وفقًا للبرنامج وسرعان ما غاب في نومٍ عميق. بعد منتصف الليل بقليل استيقظ وكانت رأسه تؤلمه للغاية، ذهب إلى الحمام ليتبول، ثم عاد ليكمل نومه، وقبل أن يغمض عينيه مجددًا أدرك بأن مكانها إلى جانبه فارغًا. سلمى كانت قد اختفت ولم تخبره بذلك. خانه النعاس في تلك اللحظة، لكن الألم بقي شديدًا في ربلة قدمه اليسرى تحديدًا. بقي بعض الوقت محدّقًا في سقف الغرفة حتى أدركه النوم مجددًا.

ضمّها إلى صدره مطوّلاً، قال لها بأنه لن يتخلى عنها يومًا، قال لها بأنه يرغب أن تلد منه بنتًا ولن يعتدي عليها بالضرب، لن يحرمها مشاعر الأمومة أبدًا. اقتربت شفتاه من شفتيها وغابا في قبلة لا يقدر عليها سوى عاشقين. استيقظ مجددًا من نومه فزعًا وهو يسبح في عرقه. "لماذا يا سلمى!" انتهى الكابوس القصير المريع وكانت هي نائمة بهدوء إلى جانبه.
- لا تقتليني مجددًا يا سلمى! همس لها ولكنها بقيت في عالمها الآخر بعيدًا عن كوابيسه وهمومه، وإن كان بعضها مشتركًا. ذهب إلى الشرفة مجددًا، كان الهواء عليلاً وكان البحر يرتدي حلة زرقاء بهية، وكان القمر يرتفع في كبد السماء فخورًا بقميصه الأبيض. بعض الزوارق تنهل أخاديد المياه، ومجموعة من الشباب هناك تتعاطى الحياة عند الشاطئ دون وجل. هناك دائمًا متّسع لكلّ من يرغب بالنيل من زخم الحياة، وكان هو في تلك اللحظة ظمئ للعفو ولملعقة واحدة فقط من الرحمة.
- أين كنتِ ليلة البارحة يا سلمى؟ هل فعلتِها في كروفو؟

أشعل الغليون واستمع للحنٍ يونانيّ قد يكون زوربا، ولكن الألحان المعاصرة باتت مزيجًا من ألوان عديدة من الموسيقى والآلات الالكترونية، إلا زوربا فقد كانت رقصته تعادل مفهوم الحياة وكان يستشعرها دائمًا، كان قلبه يدقّ مندفعًا، نداء الحياة كان قويًا وكان يتمنى في تلك اللحظة لو يتمكن من الكتابة أو الرسم. ضحك حين راودته تلك الرغبة. "لو كنت كاتبًا أو فنانًا لما استخدمت يدي لإعطاء الأوامر بالهجوم على طلابٍ متمرّدين أبدًا، كلّ إنسان مسؤول عن خياراته، وأنا جنرال .. انتهى!". قاربت الساعة الخامسة صباحًا، وبعد قليل ستستيقظ سلمى من نومها كعادتها، ذهب إلى السرير، نظر إلى وجهها الأنثوي الجميل، يومًا ما كانت تحبّه بجنون، هل يمكنها أن تحبه الآن بعقلها؟ لم يشعر بها حين استيقظت من نومها، سارعت سلمى للذهاب لتستحمّ، سمع عادل دفق المياه الساخنة يسيل فوق جسدها الذي لم يمتلكه بعد تلك الحادثة، وكان من المتوقّع أن يتغير هذا الوضع بعد خلوتهما في وسط يغري بأكثر من ذلك.

إنه اليوم الأخير في كروفو، قررا الذهاب معًا إلى الشاطئ للاستجمام والسباحة للمرّة الأخيرة، لكن عادل رفض الدخول إلى المياه ولم يخبر سلمى بأسباب ذلك، بعد ساعة أو يزيد حضرت ليلى تحمل العصير والقهوة، قبلتها سلمى وقالت:
- إنه يومنا الأخير في كروفو يا ليلى!
- يحزنني أن تغادروا الجزيرة .. لقد أدمنتكم، أدمنت طيبتكم وحضوركم في يوميات الجزيرة الرتيبة. أتمنى لكم رحلة مريحة، اكتبي لي يا سلمى، يسرّني أن أسمع أخبارك.
- طبعًا .. لا بدّ أن نتواصل.
كان عادل يرغب أن يسأل ليلى عن ليلة البارحة، لا بدّ أنّها تعرف شيئًا عن زوجته. ماذا فعلت تلك الليلة، لكن النساء متواطئات في الخطيئة غالبًا، ولن يناله سوى الإحراج لو فعل. فضل الصمت وغاب في عالمه الخاص، بات يتوق للعودة، لم يجد ضالته في هذه الجزيرة التي زادت غربته وشدّت من حصاره النفسي. لم يعد الجنرال موجودًا يا سلمى، قهره عجز امرأة وبراءة فتاة، من السهل على الجنرال يا سلمى أن يواجه جيشًا على أن يبقى وحيدًا أمام كيانٍ أنثويّ تسبّب بعقمه مدى الحياة. الجنرال اختفى نهائيًا، ذوت تلك القوّة الجامحة والهامة المرفوعة فوق عتبة النهار. يا لك من ساذج أحمق يا عادل! هل كنت تعتقد بأنّ الدنيا سيلٌ من الأوامر والركلات والسلاح والتحيات العسكرية المتلاحقة عند كلّ زاوية في معسكرات التدريب والقتال؟

بعد ظهر ذلك اليوم، قدمت سلمى خاتمًا ثمينًا لليلى، بكت الأخيرة متأثّرة ولم تدرِ ما تقول. تعانقتا مطولاً وأخيرًا همست ليلى "زوجك كنزٌ فحافظي عليه." ليلى بالطبع لاحظت في شخص عادل رجلاً هادئًا مسالمًا، ولم يكن بإمكانها أن تقرأ بين الأسطر. كانت تعتقد بأن هذا الرجل مثالاً للمحبة والطاعة فقط. ولم تجد سلمى ضرورة للخوض في متاهات علاقتها الزوجية المعقّدة.
صعدا إلى الطائرة، كان عادل مرتاحًا للخلاص من الكمين الذي وجد نفسه أسيره فوق جزيرة كروفو. جلسا في مقعدين متجاورين في مؤخرة الطائرة، كانت سلمى تشعر للمرّة الأولى بالعرفان لعادل لأنه لم يسألها عن تلك الليلة. لم يسألها مرّة واحدة "أين كنتِ يا سلمى؟" وكانت تعلم جيدًا بأنه على علمٍ بغيابها. أراحت رأسها فوق صدره، شعرت بأنّها قريبة جدًا من هذا الرجل الكسير المهزوم. هذا ليس الجنرال عادل الآمر الناهي، لقد تعرّض لتجربة واختبار مرير وكان على وشك أن يعبر الامتحان بنجاحٍ باهر.

مسح بطرف يده الثقيلة ذات الشعر الغزير رأسها، كانت خصلات شعرها الأحمر المصبوغ ناعمة كالحرير. هذه زوجته دون شكّ، هذه سلمى التي هجرته وعاقبته طويلاً، نفسها التي منحته كلّ الحبّ والحنان والرعاية قبل دهرٍ ويزيد من الزمن. تذكّر في تلك اللحظة ابنه ربيع، ذهب للدراسة إلى باريس بعد تلك الحادثة، كان بإمكانه البقاء لمتابعة دراسته في الوطن، لكنّ حبل المودّة انقطع في ذلك المنزل الكبير البائس.، لهذا فضّل الهرب. أخرج هاتفه وقبل أن تهدر محرّكات الطائرة بقليل طلب رقم ابنه ربيع في باريس، ردّ عليه الآخر بصوت خالٍ من المشاعر:
- كيف حالك يا والدي؟
- بخير .. أردت أن أسمع صوتك الجميل قبل أن أرتفع في السماء. أغلق عادل هاتفه ومسح دمعة حاولت التسلل من عينيه.

-5-

حين أدركت عبير حقيقة وضعها الصحّي، أصيبت في بداية الأمر بصدمة كبيرة، لكنها بدأت تعود لحالتها الطبيعية مع مرور الزمن، وبكلمات أخرى أخذت تتأقلم مع الحقائق الجديدة في حياتها. كانت مصرّة على إنهاء دراستها والاستمرار في الطريق الذي بدأته وخسرت أمومتها نتيجة له. باتت قادرة على الخروج وممارسة الحياة، وعادت إلى الحرم الجامعي لتعوّض ما فاتها من محاضرات وامتحانات وجميع حيثيات ويوميات الدراسة بحلوها ومرّها، وكانت تربطها علاقة عاطفية مع مراد الذي كان يكبرها ببضعة سنوات. مراد كان في سنته الجامعية الأخيرة، وكان ناجحًا ومتفوقًا، لكنّه طوال دراسته بقي بعيدًا عن النشاطات النقابية والسياسية في حرم الجامعة. كان يسعى للحصول على وظيفة في أسرع وقت ممكن والبدء في ارتقاء السلم الهرمي نحو الإدارة والمال. وجدته في المقهى مع ثلّة من الزملاء، رحّبوا بها وحيّوها وعانقتها الفتيات، وبعد أن أمضت معهم بعض الوقت طلبت من مراد التحدث لبعض الوقت على انفراد.
- مراد، أعرف بأنّك كنت على وشك التقدّم لخطبتي قبل الحادث، ولكنّي أعفيك من هذا الالتزام. أنا غير راغبة بالزواج في الفترة الحالية.
- ماذا .. هل هذا معقول يا عبير. أنت التي ترفضين!
- نعم .. ولا مجال للمناورة في هذا القرار. منذ الآن أنت مجرد زميل، لا أقل ولا أكثر، ويمكنني التخلّي عن هذه العلاقة إذا لم تعجبك شروطي.
- مستحيل أن تكوني أنت نفسك عبير التي عرفتها قبل بضعة أشهر!
- هذا صحيح .. أنا لست تلك العبير التي عرفتها قبل بضعة أشهر. تغيرت شروط اللعبة وأنا ماضية بها حتى النهاية.
- لم تتركي لي الكثير من الخيارات ..
- لا خيارات يا مراد .. لا خيارات.

مضت عبير مبتعدة عن المكان وكان قلبها يتقطّع في تلك اللحظة، كانت تعرف جيدًا بأن مراد ذو طابع شرقيّ ولن يتخلى بسهولة عن حقه في امتلاك العديد من الأطفال. وكانت هي آخر من يقدر على تحقيق هذا الحلم له. لهذا حسمت أمرها وكانت مصرّة على المضيّ في مجال السياسة ومواجهة الآلة التي حرمتها أغلى ما تملكه المرأة، كانت ترغب في استعادة أبيها أيضًا. لاحظت بأن الجنرال قد تحطمت أسطورته ولم تكن معنية بأساطير العسكر والجنرالات الذين يحسنون توجيه حرابهم تجاه أبناء شعبهم. لكنّها كانت تريد أن تستعيد والدها عادل. الإنسان الذي لطمته الحياة ونبذته الآلة العسكرية بسرعة حين شعرت بضعفه.

عانقت عبير أباها حين عاد من رحلة الاستجمام، كانت منفتحة وراغبة بفتح صفحة جديدة، من أجلها هي ومن أجل خلاصه. كانت تخشى عليه أن ينتحر أو يقدم على خطوة يأسف لها الجميع، يكفي ما عانى من مهانة في الآونة الأخيرة، لن يتمكن أحد من تغيير الماضي. انكسر الإناء والحياة مستمرة. عادت الحياة إلى عادل، بات مدركًا بأن هناك ألوانً أخرى عدا الأسود والأبيض واللون الرمادي. النساء في حياته أثبتن بأنّهن قويات وقادرات على مواجهة تحدّيات العصر وتعقيداته. عبير تعرج حين تسير، لكنّها تبدو واثقة من نفسها كما لم تكن يومًا ما. وسلمى بدت جميلة ومندفعة نحو الحياة! هل يمكن لهذا الكابوس أن ينتهي يومًا ما؟ عدا عن كلّ هذا كان الشكّ يقتله ويعذبه طوال الوقت. لماذا أقحمت رجلاً آخر يا سلمى في حياتنا الزوجية؟ لن يجرؤ على طرح هذا السؤال عليها أبدًا. لأن عادل كان يخشى الجواب، بل كان يتهرب من سماعه. قد تكون قد خرجت لترفّه عن نفسها تلك الليلة، ليس بالضرورة أن يكون هناك رجلٌ آخر ومشروع خيانة. كان يحدّث نفسه مطوّلاً، وكان يدرك بأنّه يكنّ لها الكثير من مشاعر الحبّ. كان ينتمي لهذه العائلة. هذه هي المرأة التي يرغب أن يقضي ما تبقى من عمره معها وحدها!

بدأت عبير تكتب يوميات القمع والعنف البوليسيّ الموجّه، كما بدأت بالاهتمام بسجناء الرأي المعتقلين في السجون الوطنية، وكان من السهل عليها أن تبني علاقات جديدة مع مؤسسات حقوقية وإنسانية. كانت ترغب بالبدء في تسليط الضوء على أوضاع السجناء التي يندى لها جبين البشرية خجلاً. كيف انحدر المشرق العربي إلى هذا الدرك المؤلم يا تُرى؟ لم يعد هناك ما تخشاه، ذاقت طعم الضرب والتنكيل، وشاهدت بأمّ عينها كيف لفظت هذه الآلة المرعبة والدها بسهولة دون تردّد أو إبطاء. عبير تريد ممارسة طقوس الحياة في هذا الوطن وليس في باريس كما فعل ربيع مثلاً، لكن تريد وطنًا تفخر بالانتماء إليه. تريد أن تعيش في مدينة لا تنام، ليس خوفًا من ظلال العنف، ولكن من صخب المسارح ودارة الأوبرا والقراءات الشعرية وحملات الانتخابات البرلمانية والرئاسية كلّ بضع سنوات، فهل هذا كثير؟

بدأ اسمها يلمع في سماء الإعلام وسرعان ما أخذت أجهزة الأمن بملاحقتها، ولم تجد بعد ذلك بدًّا من طلب الجنرال المتقاعد عادل للتحقيق. كان عادل مندهشًا حين تلقّى الدعوة، ولم يتوانَ بالطبع في تلبيتها، ليس خوفًا ولكنه الفضول! كانت تلك المرة الأولى التي يجلس فيها عادل في الطرف الآخر من المعادلة. كان هو الهدف المعلن وزملاؤه السابقون سيقومون بالدور الذي أحسن هو القيام به طوال عقود طويلة.
- تسرّنا رؤيتك يا حضرة الجنرال، لقد خدمت وطنك بأمانة وإخلاص.
- ادخلوا الموضوع مباشرة، لا توجد هناك حاجة لكلّ هذه المقدّمات التافهة، لا تنسوا بأنّني كنت أقوم بدوركم الذي لا تحسنون أنتم الآن القيام به بمهارة. خسارة .. جميع تلك الدروس ودورات التدريب التي أمضيتها مع فاشلين مثلكم.
- لا جنرال عادل، هذا كثير والله يا سيدي. نحن تلاميذك ولن تعلو العين على الحاجب أبدًأ.
- قولوا ما تريدين؟ ما الذي يريده جهاز الاستخبارات منّي؟
- إنها ابنتك عبير! لقد نشطت كثيرًا في الآونة الأخيرة في معاداة الحكومة ونظام الحكم. بقي عادل صامتًا، كان يشعر بالراحة وكأنّ همًّا كبيرًا قد انزاح عن قلبه. كان يتوقع أمرًا مخالفًا لما سمعه قبل قليل.
- هل يعقل أن تتمكن فتاة مريضة أن تشغل جهازًا كبيرًا بهذا الحجم؟ أنا معنيّ بهذا الأمر بالطبع، واعلموا بأنّ سلامتها واجب عليكم، وإذا تجرّأ أحدٌ منكم بالاعتداء عليها فإنني سأعتبر هذا التعدّي عليّ وعلى خصوصيتي وشرفي.
انتهى اللقاء عند هذا الحدّ، وبدأ القلق يشغل بال عادل، فقد كان يعرف حقيقة هذه الأجهزة، لن يسكتوا طويلاً على هذا الوضع، وكانت عبير في أوج نشاطها.

-6-

حضر الجنرال رمزي لزيارة عائلية إلى بيت عادل، كان رمزي على وشك الترقي ليحتلّ مكانًا فاعلاً جديدًا في قوات الجيش. تعانق الصديقان طويلا وأخذت النسوة لاحقا في الثرثرة، تناولت سلمى وحنان شتى المواضيع ومشاغل وهموم الحياة والأبناء. بعد ذلك طلب رمزي من عادل أن يجلسا منفردين لأن لديه حديثًا خاصًا، أدرك عادل مغزى الزيارة ولم يكن هناك بدّا من تلبية رغبة زميله القديم، وهو على أية حال ذو وزن كبير في مركز القرار.
- بصراحة يا عادل .. أخشى على ابنتك عبير من الأذى. لقد تجاوزت جميع الحدود المسموح بها في البلاد!
- ابنتي لم تهاجم وطنها ولكنها تطالب بحقوق مدنية عادلة يرغب بها أيضًا الكثير من أبناء هذا الوطن يا رمزي. ألا ترى بأننا أصبحنا غارقين في بحر من الفساد والقذارة؟
- أنت من يقول هذا يا عادل! .. لا أدري كيف أجيب على طرحك! جميع الأنظمة العالمية في الشرق والغرب تعاني من فساد، هذا أمرٌ طبيعيّ وظاهرة تصاحب السلطة مهما كان لونها. هؤلاء الشباب متهورون يا عادل، إنّها المراهقة الفكرية، ومن الواضح أنّهم قد تمكنوا من التأثير على حياتك وولاءك يا جنرال!
- أنا لم أعد جنرالاً يا صاحبي .. تخلص منّي النظام الذي تدافع عنه في اللحظة التي شعر بها بضعفي، وربما وقّعت أنت أيضًا على كتاب استقالتي.
- نحن حجارة شطرنج يا عادل.
- وماذا كان دوري فوق الرقعة؟
- وما الفرق .. حصان أو فيل؟ لا يمكننا أنا وأنت أن نكون الوزراء أو الملوك فوق الرقعة وأنت تعرف ذلك، وفي لحظة من اللحظات يضحّى بنا. على أية حال، حاول أن تقنع عبير بأن تغادر البلاد لفترة من الزمن. دعها تسافر إلى فرنسا مثلا لزيارة أخيها. والآن اسمح لي أن أغادر فلديّ الكثير من المشاغل.
كان العناق عند فراق الأصدقاء أقل حرارة من العناق عند اللقاء.
أدرك عادل بأن ابنته حقيقة في خطر، اجتمع بها وتحدثا طويلاً، قال لها بأن عليها أن تغادر البلاد أو أن تنزوي بهدوء في مكان ما حتى تعبر العاصفة. واقترح عليها بأن تذهب لزيارة أخيها في باريس. وافقت بعد تردد ولم تكن راغبة في زيادة معاناة والدها.

كان عادل وسلمى في وداع ابنتهما عبير في المطار الوطني، والتي كانت قد اتخذت قرارها بعد أن وجدت بأن الفرصة مناسبة للسفر إلى باريس في هذه المرحلة. خُتم جوازُ سفرها وتوجهت نحو صالة الانتظار لتعبر بعد ذلك إلى النفق المؤدي للطائرة. كان قلبها منقبضًا طوال الوقت، وكانت تشعر بأن ما تقوم به خاطئًا. هناك أمر لم تفهمه فقد كانت تتوقع استجوابًا وتحقيقًا أمنيًا لدى مغادرتها. عند مدخل النفق أوقفها ضابط المطار وقال لها:
- آنسة عبير .. لا يمكنك العودة للبلاد في الوقت الراهن.
أصيبت بصدمة كبيرة، كيف يمكن منعها من العودة إلى وطنها، ولكن القرار على ما يبدو كان نهائيًا، ولم يتزحزح الضابط من مكانه بل حثّها للمضيّ نحو الطائرة، ومن خلفه شاهدت بضعة رجال يرتدون ملابس رسمية ونظارات سوداء معتمة، أدركت بأنهم تابعون لأجهزة أمن الدولة، وكان من المستحيل عليها أن تعود أدراجها لمغادرة المطار. كانت في حكم القانون خارج البلاد.

لم تحدّث عبير والدها بما أخبرها به ضابط المطار حين مغادرتها البلاد، لكن أخاها ربيع كان غاضبًا جدًا عندما علم بذلك، وحاول جاهدًا أن يقنعها باللجوء للصحافة ووسائل الإعلام الفرنسية. عبير رفضت عرض أخيها بشكلٍ قاطع، لم تكن رغبتها تشويه سمعة بلدها والنيل من كرامة وطنها، لكنها تحدثت مطولاً مع الجمعيات الحقوقية في محاولة منها لمساعدة الكثير من معتقلي الرأي والكلمة في بلادها، وفي آخر اتصال مع والديها أخبرتهم بالحقيقة، قالت لهم بأنّه لن يمكنها العودة إلى البلاد بأمرٍ مباشرٍ من أمن الحدود. كانت ردّة فعل عادل شديدة للغاية، حتى أن سلمى خافت عليه من الشلل، لكنه تجاوز تلك المحنة وبدأ يفكر بطريقة ما لإعادة ابنته إلى البلاد. اتصل بزميله الجنرال رمزي وصرخ في وجهه غاضبا، اتّهمه بالخيانة والجبن، عندها لم يجد رمزي بدًا من إغلاق سمّاعة الهاتف قاطعًا الطريق على عادل للنيل منه وشتمه. بعد ظهر اليوم نفسه كانت سلمى تدقّ جرس باب منزل الجنرال رمزي بإلحاح شديد.
فتحت حنان زوجة الجنرال وكانت مندهشة لدى رؤيتها لسلمى وقالت:
- تفضلي .. يبدو عليك الإرهاق والتعب! ما الذي حدث يا سلمى؟
- أنت لا تعرفين؟
- أعرف ماذا؟
قصت سلمى على حنان القصة من البداية وحتى سفر ابنتها ومنعها من العودة. دهشت حنان كثيرًا، وأشارت على المرأة المكلومة الانتظار قليلا ريثما يعود زوجها رمزي.
لم يكن يتوقع الجنرال رمزي أن يواجه امرأتين دفعة واحدة إحداهن كانت زوجته. تحدثا طويلاً في هذه القضية، وأنهت سلمى حديثها مهددة:
- أنت لا تعرف ما يمكن لأم أن تقوم به من أجل ابنتها وعائلتها. لقد دفعنا الثمن غاليًا، وسأقلب الدنيا فوق رأسك إذا لم يُرفع قرار منع ابنتي من العودة .. جربني يا جنرال .. جربني يا رمزي!

أدرك الجنرال رمزي بأن اللعبة التي تورط بها باتت قذرة، ومن الممكن استخدام ضربات ممنوعة، وهو يعلم جيّدًا بأن لديه ما يخفيه عن زوجته وعائلته وعن المجتمع وعن قادته أيضًا. لا يوجد رجل كامل خاصة إذا كان نفوذه كبيرًا، عندها تتكاثر خطاياه، وتصبح حياة الليل مخاطرة لا تحمد عقباها، والجنرال رمزي يعشق حياة الليل واستثمار الامتيازات التي حصل عليها نتيجة لمنصبه الرفيع، وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع امرأة لم يعد لديها ما تخسره.

الخيارات أمام الجنرال رمزي محدودة، فإما التخلص من هذه العائلة وهذا مرفوض بل وغير قابل للتنفيذ، وإما العمل على السماح لعبير بالعودة إلى أرض الوطن، على أية حال لا يبدو هذا القرار سيئًا للغاية، لأنه من الممكن مراقبة عبير واتخاذ الإجراءات الضرورية عند الحاجة. رفع سماعة الهاتف وقال بحزم "ارفعوا اسم عبير عادل من سجلات الحظر في المطار وباقي حدود الدولة، يمكنها العودة إلى البلاد" وضع رأسه بين يديه وغاب في جحيم أفكاره.

عند المساء، عانقت سلمى رأس زوجها الحزين، وضع عادل رأسه على صدرها وقال لها بنبرة مليئة بالحب والعطف والنجوى والرغبة والانجذاب واللهفة والحنين والوفاء، نبرة كانت قد نسيتها منذ شهر العسل ربما. قال لها:
- هل نسيت بأنّي أحبك يا سلمى .. أحبّك يا زوجتي، أحبّك بقدر الألم الراقد في صدري، أحبّك بقدر الحرقة التي أكلت قلبي .. أحبّك يا سلمى!

لم ينتبه عادل في تجلّي اللقاء إلى قصاصة الورق المحترقة في منفضة السجائر. قصاصة الورق كانت دعوة مفتوحة لسلمى لزيارة جزيرة كورفو وقتما شاءت. قصاصة الورق كانت تحتوي على عنوان واسم ورقم هاتف .. تاسوس.


انتهت

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
خيري حمدان غير متصل   رد مع اقتباس