قلت لي : أنت كالنمل .
تبحث بهدوء ودأب . تبني مدنا ، وتفتش عن دروب جديدة . فتتعثر ، ربما ، لكنك لا تكبو ، لأنك تعاود ثانية . فتحفر الصخر ، وتستخرج القراح من اليباس .
بينما أنا ثور هائج . أناطح الصخر ، وأمسك السماء البعيدة ، وأصرخ بصوت عال . فأدمر ماحولي ، أو أضحك لأفرح كل من حولي .
أخي عدنان :
عندما أكتب إليك ، أتخيل مدينة كبيرة دمرها زلزال مجنون ، فعصفت بأهلها النيران والأوبئة ، وحلَ بها طوفان عاصف .
بل عندما أكتب إليك ، أرى الماضي الحلو البعيد وهما عشناه ، فلما دمرناه وجدنا أننا بأعماقنا نبحث عنه بصورة مشابهة . فصرنا نبكي الماضي ونبكي الحاضر ، ونلعن الماضي ونلعن الحاضر.. وفي كل مرة نجرب ونحاول ، ونطلب سعادة منسربة .
** *** *
في البدء ، وقت تفتح الزهور ، صغنا الدنيا أملا ، فكان الكون أنا وأنت والناس والسعادة الشاملة . لكننا مع الوقت وجدنا أن الكون ليس أنا وأنت والناس ، بل الكون هو الذات . والذات ليست حبا شاملا ، بل حبا متعددا ورغبات كثيرة ، يختلط الحب فيها مع الوحل ، والوحل مع السماء ، والسماء مع الطين . فأردتَ _ أنت ، لا أنا _ النفس ، لأن النفس ليست ما يرسمه الناس ، بل ما تصوغه الذات وترغبه .
فبكيتَ لحظتك ، لأنك أيقنت أنك في بدء أتون سيحرقك ويحرق كل من حولك .
ولأن البدء ثورة ، ألغيت أشياءك لتلغي الماضي الحلو ، الوهم .. فحطمت العالم دون أن تدري ، أو ربما تدري . وخنقت جذور أحلامك وأنت تضحك بجنون .
لكن الماضي ، رغم أنه وقت فائت وميت ، ظل نقطة مضيئة على مسار أيامك لاينطفئ , وثرا عذبا لا ينضب ، وغيثا حافلا ما جف . فسكن أيامك العجاف والقحط والشك .. وكان الماء وقتها قريبا ، لكن النفس قُلََب .
فهل كنتََ تدري أنني وقتها لعنتك ، لأنني لم أعرف أنني سأخطو خطوتك ذات يوم ، وأبحث بحثك ذات يوم ، وأحطم نفسي ذات يوم ، لكنما بصمت وبهدوء ؟!
وهل كنت تدري أن مسافة الزمن بيني وبينك ستأخذ نفسا المسار والشكل ، لكن بأسلوب رصين وصامت ، وبملامح متشابهة تتقارب في كثير من جزئياتها ؟!
لكن ..
ورغم كل شئ , فأنت غير أنا .
أنت أردت أن تحقق ( الكل ) في نفسك ، وتعطي ( الكل ) لنفسك . فترضي أرضك وسماءك وأشواقك وجنونك .. فوحدت المتناقض ، ومزجت الليل ودمع الفجر ، وجمعت الروح وأرق الطين . وقلت لي وأنت تبتسم : نحن خُلقنا من طين مسنون ونفح روح ، فللطين حقه وللروح حقها ، والتوازن يتم بتحقيقهما معا .
كنت متفائلا ، ودفق السعادة يغمرك ، وظننت أنك ملكت الكون ، وحققت السعادة الداخلية بكسر روتين الأشياء ، فصغت فرحك وتوازنك دون أن تلغي من عناصر النفس شيئا .
أما أنا ، ففي داخلي مئة إعصار ، ومئة بركان ، ومئة صحراء ، ومئة زلزال ، ومئة عين تبكي باستمرار , .. وعوالم متفردة تبحث عن الكمال وتصوغه بألف لون ومثال .
أنت صنعت من نفسك ( المثال ) فكنته ، وأنا بحثت عن ( المثال ) في غيري . فكنتَ أنت ( المثال ) لي في البداية ، ثم زدت عليك حتى صار ( المثال ) غيرك ، وما عاد يشبهك إلا قليلا .
كنت أسمو ، وأعانق السماء ، وأقطف النجوم البعيدة ، وأضع جميع أقمار الكون في قلبي ، فيغمرني فرح السمو والرفعة ، وتتفتح أمام عيني طاقات الأمل .
وكانت الأرض تشدني ، والطين يغمس أقدامي ، والوحل يلوث نفسي . لكنني كنت أتطهر كل يوم ، وأستحم بماء المطر وحبات الثلج .
كان قلبي فرحا . والكون صديقي . والله قربي أكلمه بصدق وشفافية مطلقة . وأشعر وكأن الوجود كله خُلق لي وحدي .. ولم أدر أنني ذات يوم سأميت كل ذلك وأمحوه ليظل صورة باهتة وملامح غير واضحة لماض قديم .
لقد قلت لي : النفس سماء وأرض ، ورغبة وروح . فلا تمت عنصرا لتحيي وجود الآخر ، لأن لكليهما حياته ومداه .
وكنت ، أنا ، أطلب السماء ولا أعترف بالطين . وأظن أنني أقدر أن أمتلك الكون فأصوغ من الوحل بيوتا من نور .. ولم أعرف أنني كنت أمشي نحو الهاوية بقدمين ملوثتين .
لقد قال لي أخونا مأمون : لم التعقيد ؟ الحياة حلوة والعمر قصير ، والأمور تأخذ ببساطة ، ولا داعي لكل الأوهام ، وليكن كل شئ طبيعيا : تأخذ النفس حدها وتأخذ الروح حدها .
لكنني لم أقتنع . وظللت أفتش في غيري عن ( المثال ) ، فأراه مرة فيك ، ومرة بديوجين ، ومرة بسارتر ، ومرة بالمسيح ، ومرة بكولن ولسون ، ومرة بأصحاب الوجد وآهات المتصوفة . وفي كل مرة كنت أشعر بإحباط شديد ، ويمتلئ فمي بمرارة وبطعم قابض حاد ، فأكاد أختنق .
أنا حزين يا أخي ، وأشعر أنني شجرة كبيرة ، وأن نفسي رجل عجوز ، بل بحر هرم اختزن في صدره أشجان الذكريات .والدنيا حولي معتمة . والطريق غير واضح .والكون كله بلا ملامح . وأنا وعصاي أتوكأ على الوهم وأطلب المستحيل .
ورغم أن الأشكال قد أخذت صورتها واستعادت صوتها ، إلا أن حلقي جاف وصوتي مبحوح ، ويسكن في قلبي ليل معتم بلا انتهاء وإصباح بلا نور. أنا حزين . وحزني قديم قاس يغلف ذاتي ، ويشكل ضبابا كثيفا يغطي ناظري . وكل شئ لدي بلا جدوى وبلا إحساس .
لقد مات فيَ كل شئ ، وفقدت كل شئ ، وبقيت بلا شئ .
أعرف الخطأ ، وأتلمسه ، وأمسكه ، حتى بت أحفظ دروبه ومسالكه ولمحات خطوه ، لكني لا أريم .
أطلب ( المثال ) في غيري ، و(الكمال ) في غيري ، فأصنع التمثال وأعبده ، وأخلق الطين وأعبده ، وأصوغ الشوق وأعبده . وعندما أرى ( الإنسان) في معبودي أحطمه وألعنه ، وأحطم نفسي وألعنها . فملََ معبودي ، وملَت ذاتي من ذاتي ، وغدوت مع الرعاع وأنتظر غودو ، ليمد يده ويصافحني ، ويغسل بطهره كل أشواقي وكل أحزاني وكل آلامي .. ويلغي من ذاتي ( المثال ) أو ( القدوة ) أو الوصول إلى (الكمال ).
أخي الحبيب :
نفثة هذه .. قد تقرؤها وأنت في عملك أو في بيتك ، أو ربما قد لا تقرؤها لأنك تعرف أكثرها ، وتعرف أن مخزون الأرض إن زاد صار بركانا ، ومخزون البحر موجا عاتيا ، ومخزون الشعوب ثورة أو حقدا ، ومخزون النفس كلمات وآهة .
لك حبي يا حبيبي ، والى لقاء .
10 / 6 / 1985 م
أخي د . منذر صاحب العينين الذابلتين :
كم يعتريني القلق حين أديم النظر في محياك . وكم يعذبني هذا الحزن السرمدي الغائر في عينيك ، المحفور في ثنايا جبينك ..
، فأتيه في دوامة التساؤلات اللا متناهية عن منبعه ومصدره !
لم هذا الاصرار يا ايفان كارامازوف على التفنن في أنماط تعذيب ذاتك ؟ وكم من الوقت يعوزك لاتخاذ القرار أيها ( الهاملت) ؟
وهل ستقضي ما كتب لك من الحياة ، في نحت التماثيل ، والبكاء في المحاريب ، داعيا الاله أن يقذف الروح فيها ، أسوة بصاحبك بجماليون !؟
أفق من ذهولك . وانظر في ذاتك أيها الواهم ، هل تجد الا الحركة النابضة المتجددة ،التي توحي بالحياة ، وتنفي وجود أي انطباق في أي جزء من مكوناتها ؟!
انه الدفق المتجددة التي توحي بالحياة ، وتنفي وجود انطباق في أي جزء من مكوناتها .. انه الدفق المتجدد بلا انقطاع للوجود الحي الذي لاينثني عن التشكل بصور متباينة ، دالا على التمايز بينه وبين الوجود الساكن كالحجارة والملائكة..
ولو أننا حاولنا أن نستشرف آفاقا جديدة في قوله سبحانه :( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) لقلناان قلوبهم فقدت ذلك الرباط الوثيق مع الحياة ، ألا وهو التجدد الحي . اذ أنها ، أي القلوب ، فقدت ذلك الرباط الوثيق مع الحياة ، ألا وهو التجدد الحي . اذ أنها لم تعد قادرة على متابعة الحركة ، فتجمدت ضمن اطار الكفر.
وأردت ، أنا ، النفس ! ولم لا؟! هلا أمعنت الدراسة في حروف النور حينما ترسم الصورة الجلية للموقف البشري على مدارالتاريخ ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من سواها وقد خاب من دساها ) فواجب الوجود هو الذي سواها ، وهو الذي خطَ القانون الفاصل بين فجورها وتقواها ، بينما تمركزت غاية الوجود البشري في عملية (التزكية )و(التدسية)،هذه العملية الديناميكية التي تريك هذا المخلوق ملطخا بالوحل تارة ، ومصافحا الملائكة تارة أخرى .
انها العملية التي بدأت بتشكل بذور المجتمع الانساني مع ذلك الذي زكَاها ، فرفض أن يبسط يده ليقتل من دسَاها ، ووقع فيفي حمأة الطين الآسن حين قتل .
** ** **
انها عملية خلق متجدد غير مكرور . وقد أرهق أعصابك الى حدود فقدان التوازن ، أنك وجدت بناء شامخا فيك ، أو في غيرك ، وقد دمره لوهلة زلزال مجنون ! انه زلزال أسمى من أن تصفه بالجنون ، فهو كيمياء هذه الحياة !
هو نهاية خطوة وبداية أخرى ، بتركيبة دياليكتيكية غريبة ! وأجدني مدفوعا لاستعارة لعبة ( الدومينو) من طفل صغير لتقريب هذا المفهوم بعبارات ميكانيكية .
النفس هي هذه الأحجار الملونة ذات النتؤات والمفاصل . والألهام يتجلى في هذه المخططات المتعددة للأشكال التي يمكن لهذا الطفل أن يقوم بتركيبها , ولملمة شعث هذه الأحجار المبعثرة ، وفق المخططات المطروحة ، هي التزكية والتدسية التي تُثبت
خراقة الطفل أو تفوقه أو نبوغه. وابقاء الأحجار ، دونما محاولة تجميعها ، هو السكون والموت.
اننا نقوم بشعور ، أو بغير شعور ، بعملية تركيب وتحليل مستمرة داخل نفوسنا . وهذا ما أسميه الحياة ، رغم العذابات المضنية التي تكتنف هذه العملية ، وأخص بالذكر أولئك الذين كان لديهم من الادراك ما يخولهم أن يرقبوها عن كثب ، ويرصدوا حركتها باحساس مرهف .
الباحث عدنان أبوشعر