· لقد خلقتنا يا الله ، وسيبقى قلبنا قلقا حائرا حتى يرتاح فيك أنت خالقه.
أخي عدنان :
أتدري كيف تتشكل المعاناة ، فتحيا ، فتصبح هاجسا ، فقلقا ، فتوترا دائبا يحفر في الذات مساربه ويعمق جذوره وبصماته ؟
وهل يكفي رصد المعاناة،ومعرفة ولادة بداياتها وخلقها وتكونها لإلغاء دفقها المضني ؟
نحن نعرف بواعث الألم ، فنتجنبه ، ونبتعد عنه . لكن ، هل نستطيع إماتة الألم فينا ، ونفي كل جراحه ؟ وهل يكفي أن نعرف الفرح ،فنرصده ، فنتمنى دوام لحظاته ، لنكسب السعادة ؟
ثم ما السعادة ، وما الفرح ، وما الغبطة ، وكيف تتشكل عوالم الصفاء في الذات ، ومم تكون ؟
أتراها تكون حلما ، أم تراه الحلم هي ؟ أم تكون حبا ، والحب هي ؟ أم وهما ، والوهم هي ؟ أم تراها تعني ( كسر روتين الأشياء ) و(إلغاءجمود اللحظة ) ؟
ثم كيف نمسك الفرح ، فنعانقه ، فنذوب فيه ، فنشرب نسغه وروحه ، فتنطبع بصماته على مدار النفس ، فتمتد بساتين الأمل وكمال الوجود لتصوغبناء الذات ؟
أبالتوازن يكون ذلك ؟ نربط الليل واصباحات الفجر المبللة بالشهد ودفق الدموع ؟
نعطي كل ذي حق حقه ؟
نوائم ، ونوازي ، ونفاضل ، .. فنستعيد الطفولة الفائتة : وهجها ، وتفتحها ، فنطلب استمراريتها ودوامها ؟
ثم كيف نستعيد الطفولة ؟ وإذا استعدنا الطفولة ، فهل نستعيد لحظتها ، واللحظة هاربة تتشكل باستمرار : تتشابه ، لكنما لا تتكرر ولا تعود ؟
** ** **
في الماضي ، في ذاك الزمن الغافل ، الموغل في أيام التاريخ . أيام تَََشَكُُُُُُل بدء ميلاد الوجود . وقتما قال الله كن فكان ، فصُوِر الطين نفسا والحياةنفح روح .
في ذاك الزمن ، وُجد ( الأول ) . ومع ( الأول ) بدأ الألم أو المعاناة أو القلق ..، ليستمر ويُورَث لكل الخلق بكل الألوان .
في ذاك الزمن البعيد ، الموغل في أيام التاريخ ، طلب ( الأول ) سعادة سرمدية . وظن أن السعادة ستكتمل بوجود آخر ، يحقق توازن الطين ونفحالروح ، ليتمم حلم رغبة وهج البقاء .
في تلك اللحظة ، وُجدت (الأولى ) . ومع (الأولى ) تم اللقاء بين اثنين . وبدا أن (الأول ) قد حصل على راحته ، ونعم بالاستقرار المنشود .
ولم يدر ، أنه بعد مضي وقت ليس بالقصير , سيطلب شيئا أكبر من اللقاء ، وأعمق من الاستقرار ، وأسمى من لحظة الطين .. فتساءل هو ذات يوم عن الكمال ، وتساءلت هي عن الكمال .. وتطلعا حواليهما ، وكان الكون فسيحا ، تشرق فيه ألف شمس ، ويصهل فيه ألف خيل ، ويبزغ فيه ألف فجر.
وبحثا عن شئ مفقود ، غير اعتيادي . وظنا أن الشئ المفقود ( ثمرة محرمة ).
فاقتربا ، وكان المطر يهطل بغزارة . ولما أكلا من الثمرة ، شعرا بالخزي والخيبة والدمار الداخلي . فالثمرة شئ ملموس ، وضوء خُلَب . والأمل المنشودربيع فسيح وسماء بعيدة .
ولأول مرة ، أحسا بالإحباط وبالعدم . وبصوت ضعيف يائس قال ( الأول ): ربي ، لقد ظلمت نفسي .
كان الكون مظلما . وتكاثف الهم كجبل . وخفتت في النفس كل الأضواء ، ولم يعد يُسمع سوى حسيس خافت لرغبة مجهولة .
ثم جاء أولاده وأولاد أولاده رسلا ومبشرين على مدار السنين . وكان الناس وقتها غارقين في بحار الجهل والتلوث .. فدعت الرسل إلى الراحة والرضى، باكتساب التوازن النفسي بصورة أو بأخرى .
لكن هل طبق (الأول ) ، ومن ثم أولاده ( التوازن ) المطلوب ، فعرفوه ، فصاغوه صورة حياتية ؟
وإذا طبقوا التوازن فلما نمت صورة المطلق على حساب الصور الأخرى على مدار الأيام وعلى اختلاف مر السنين ، بدءا من جلجامش ، فنوح ، فإبراهيم، فالمسيح ، وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم ( كان يتهجد حتى تتفطر قدماه ) ؟
وكيف يكون التوازن في ذاتهم وهم يطلبون المطلق ، ويعانقون سر الوجود ، ويشعرون ، بل يوقنون ، أن الله قربهم يكلمهم ويحدثهم ويهديهم سواء السبيل ؟
نعم ، كان الله معهم . ولأنه معهم ، والنفس أرق أرضي وهبة سماء . ولأنه سماء ومطلق وغاية لا تدرك ، كانوا يلغون أرضهم ، ويرتقون ، ويرتفعون،ويعانقون النجوم وأقمار الكون وأمدية الطبيعة .
لقد قضى جلجامش نحبه وهو يريد سر موت أنكيدو ، وصُلب المسيح وقلنا رُفع من أجل الخلاص ، ورُجم الرسول صلى الله عليه وسلم وعُذب وتشققت قدماه الشريفتان، وكان يبكي باستمرار .
ثم كنا نحن من بعدهم ، وأردنا الاقتداء بهم ، فصرعتنا الحياة وصارعناها ، وعركتنا الأرض وعاركناها . ثم ذُللنا وعُذبنا وقُهرنا . ولما يئسنا ، قلنا بالتوازن.. ونسينا (ذاتية ) القدوة الأولى و(جوهرها ).
** ** **
أنا ، يا عدنان ، لا أريد من يبرهن لي على استمرارية ثبات الدين وصلاحيته لكل زمان وعصر ومكان . ولا أريد من يقول لي إن الدين يعطي الحياة حقها ،بل يأمر بذلك . بل أريد أن أكون (ذات) الأول ، و(جوهر ) الأول ، و(رغبة ) الأول .
أغني كما العصافير ، وأشرق كما الشمس ، وأزخر كما البحر ، وأرحل كما القوارب وسفن الصيد إلى الموانئ ومدن الأسفار البعيدة .
أريد أن أكون الكل والكل فيَ . أصوغ فرحا حقيقيا ساميا ، فيضج الكون في أعماقي وترقص حقيقة كل شموع الأمل .
أنا رغبة وتوق ويقين وبحث دائب للوصول .
ولأن طريقي صعب وطويل ، فقد فتتت الأحجار ، وجرحتني الأشواك ، وانغرست في قلبي مئة سكين ، ومئة مدية ، ومئة سيف .
كنت في صحراء حقيقية موحشة . أرفض الأرض . وأكره الطين . وأبتعد عن الوحل .. وكانت الأرض تتبعني ، والطين يمسكني ، والوحل يلوثني . وأنا أصرخ باستمرار ، وأبكي باستمرار ، وأهرب باستمرار .. فأقترح حلولا كثيرة ، وهمية لا تتحقق . ولم أدر أن ما أريده ٍسهلا وواضحا وبسيطا : يبتدئبزرع بذرة صغيرة ، أولها التسبيح الصامت ، ونهايتها معانقة المطلق .
فالمعاناة وكل ضروب الألم والعذاب ستنتهي إن أمسكنا مفاتيح القلب ، ففتحنا مرتج بواباته ، وبدأنا بتعمير جوانبه الخربة .. والتعمير لن يكون افراديا ،أو ( شكليا ) . بل تعميرا شاملا ، يأخذ من النبع ، ويشرب من النهر الصافي الأزلي القديم .
ان (الأول ) صاغ حياته بصوغ قلبه . وأولاده صاغوا حياتهم بصوغ قلوبهم . فكانت الدنيا عندهم عَرضا ضروريا . والعرض يبقى عرضا وليس جوهرا ،لأن الجوهر قمة ، والقمة فضاء وسماء ونجوم وأقمار كثيرة تضئ غيابات الوجود .
وقد وصلت بعد أن أمضني القلق وغالني السفر ، وشحطتني الغربة ، وأمضَني ليل الهموم .
وأنا الآن في مدينة بيوتها من نور وسكانها من نور ومداها من نور ، ويظللها نور على نور . أفتح ذراعي على ملئهما ، وأعانق النسم وحبات المطر .
وأنا فرح ، وفرحي بحور بلا ابتداء وبلا انتهاء . وأنهاري تزخر بالعطاء والخير والأمل بغد مشرق آت .
أما الحزن ، ذاك القديم المترسب في عيني ، فهو وردة غرسها القلب ، وسقاها طول الطريق ، ونمتها الأفكار ، وتعهدها الزمن .
الحزن ، كان ، فقدان الدرب ، وضياع الروح ، والبحث المضني الدؤوب للوصول إلى المطلق .
وفقدان الدرب ، كان ، مزيدا من الألم والقلق والخوف والخيرة .
ولما عرفت الطريق ، وخطوت فيه ، صار الطريق يعني الألم الحلو والقلق الحلو ، ومزيدا من الدمع والأمل واليقين .
فالتوازن ، لن يكون بإعطاء كل ذي حق حقه ، بل بإعطاء طاقات الروح حقها . وحق الروح إهداؤها مفاتيح المطلق لتُشرِِِع النفس بواباتها ، فتفنى بالوجودوالفضاء اللامتناهي ، وتصوغ الكون كله بحركة متجددة لا تنتهي .
فالمطلق حركة ، ولأنه حركة فهو بقاء ، ولأنه بقاء فهو الحياة ، والحياة تعني أرضا سماوية : أرضا كاملة ، وسماء كاملة .
وعندها ، عندها فقط ، ستكون الرغبة صلاة ، والطين صلاة ، والوحل صلاة ، والصلاة وصلا وبحرعطاء ومزيدا من دموع التوبة والفرح.
وعندها ، ستشرق كل الأنوار ، وسيكون البناء داخليا خارجيا . ولأنه داخلي ، فهو أس ، والأس غير مهدوم . ولأنه خارجي ، فهو مظهر وشكل وراحة، وواحة كل تعب .
أخي عدنان :
قد أكون أطلت . وقد يكون فاتني الشئ الكثير ، وخانتني الأداة . لكن ما أكتبه هو البداية ، والبداية قد تكون حبوا أول الطريق .
لك حبي يا حبيبي ، والى لقاء .
15 / 7 / 1985م
** ** **
أخي د.منذر أبوشعر:
تعال لأضمك إلى صدري ، وألهب وجنتيك بالقبلات . هلم أيها ( الإنسان )لأفتح لك مغاور قلبي لتنيرها بمشعلك الدائم التوهج . احفر بأصابع النور يا ديوجين ، فلا بد أن تعثر بين الركام على الأيقونة المفقودة .
فأنا ، عندما أرصد مسارك بشئ من التركيز ، أصاب بالرعدة تكتنف جوانحي ، ويأكلني القلق والعصاب ، وقتما أراك تجتاز النار بهدوء دونما خوفمن شواظها ، كهندي عجوز يمارس طقوسه براحة مطلقة . وأسمعك وأنت تناجي نفسك ، فأطرب لصوتك الذي يملأ كل زوايا الكون ، دون أن يُسمعأحدا . وقد يداهمني الفزع ، عندما أراك تعثرت في حفرة ، فأهرع نحوك لأمد لك يد العون ، كما في الأحلام ، فلا تصل إليك ، رغم تحوُرها إلى ذراع طويلة طويلة ، لأفاجأ بك وأنت تغرس أظافرك في التراب وتقبض بأسنانك الجذور اليابسة على الحافة ، وتصعد رويدا رويدا باطمئنان وثقة .
كم تعوزني الكلمات لأصف بدقة أكبر هذا الحدث العظيم .. هذا الكائن الذي يصر على بلوغ القمة السامقة ، رغم الطريق الشائكة المظلمة المقفرة .
انني أتذكر بروميثيوس ، ذلك المسكين الذي احترق شوقا للحصول على( نار المعرفة ) ، وكيف كان التنكيل به من قبل زيوس ، فصلبه على قمة شاهقة، وترك رأسه ،الذي فكَر وتدبر، لقمة سائغة للطيور الجارحة .
فكأني بزيوس يمارس نوعا من التصوير لحالة البروميثيوسيين على مدار التاريخ ، وكتب عليهم أن تقتات رؤوسهم أنواع البلايا ، وأن لا يفرحوا ، ولولحين ، طالما أنهم في البحث ماضون عن سر الوجود ونار المعرفة .
ان المعاناة لا تنتهي يا أخي ، بل الروعة فيها وبوجودها . بل إن الحياة السامية البعيدة عن حياة الخفافيش والديكة ، هي الحياة التي يُفني البروميثيوسيونأنفسهم من أجل تحقيقيها ، ويلهثون سعيا لاستشراف مرابض نورها .
فالتشتت الفكري ، والآلام المبرحة التي ترهق أدمغتهم ، هي اللذة عينها ، وهي سر الوجود ، وسر الخلود ، ومكمن القوة في هذا المخلوق الضعيف .
أولم يكن الحزن المنسرب في تلافيف دماغ إبراهيم عليه السلام ، وهو يصر إصرارا مرهقا للوصول إلى الحقيقة ، ضربا من اللذة الكائنة ب( القوة ) ،انتقلت إلى لذة كائنة ب( الفعل ) حين تلقى الهدى ، وتفتحت بصيرته لاستقبال خيوط النور المتدفقة من السماء .
ان المعاناة دفق مستمر في حياة ( الإنسان ) ، تشد أزره ، وترفع شأنه ، وتعلو به في معارج النور . وتوقُف المعاناة لاقتناص لذة الفوز بالمنشود ، ضرب من الخبل، إذ انه وثيقة ممهورة بطرد هذا المسكين من مرابض النور إلى عالم الديكة والخفافيش.
وان استمرارية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بمجاهدة نفسه ، والإصرار الرائع لتحقيق صياغة ( العبد الشكور) ، هي الدليل البين عن عزوفه عن الاستغراق في اللذة المؤقتة للمنشود ، والوقوف أمام أسوار مملكة النور الفسيحة .
الباحث عدنان أبوشعر .