قال أبويزيد طيفور البسطامي (ت ، 261) : يا رب كيف الوصول إليك ؟ فقيل له : اترك نفسك وتعال إلي .
 أخي عدنان :
 عندما ستبتدئ بالخطوة الأولى ، ستحترق اللحظات الماضية كلها . وسيصير الحاضر جذوة متوقدة تُشَكِل أمس واليوم والغد الآتي .
 وقتها ، ستعيد تشكيل ( الدومينو ) ، وتحدد البصمات ، لأنك سترجع حتما إلى الطفولة ، وستعرف حتما كيف تتعرف ، هذه المرة ، على نفسك .
 وقتها ، سيكون الحلم واقعا ، والواقع حلما ، واليوم غدا ، والمستقبل حاضرا وماضيا . ويلتغي الزمان والمكان ، وتتشابك الرؤى والألوان ، ويصطبغ الكون بابتسامة رضية . 
 وقتها ، ستقول : يا الله . فتشعر أن قلبك قد خفق بالحب ، وصارت نبضاته أملا وراحة ، وأن الكون كله قدسبَح معك :الله ..الله .. الله .
 فتنزل دموعك ، دموع توبة وندم وفرح . وترفع يديك خاشعتين ، وبصوت خائف وحب متناه تعاود الدعاء : الله .. الله .. الله .
 فيضج الكون بأعماقك . ويلتغي الزمن . وتتفتت الأرض . ويفنى الوحل . وتشعر لساعات أنك صرت دفئا وخيرا وعطاء ، وأن لوجودك معنى ، ولحياتك معنى،ولعمرك معنى .
 فتبكي ثانية . تبكي ضياع لحظاتك الماضية ، وجمال لحظاتك الآتية ، فيختلف تشكُل الدمع في كل مرة .
 وتغمض عينيك محاولا السمو أكثر ، والارتفاع أكثر ، فتجد نفسك خفيفا بلا أخطاء ، وبلا غفلة ماض ، وبلا آثام . وعندما تلامس النجوم ، تجد السماء فسيحةواسعة ، فتهمس بصوت حنون : الله .. الله .. الله .
 فتنهمر دموعك أكثر . وتفتش في ذاكرتك عن معنى ما ، فتجد أن مراد الكلمة صار أصغر مما تعيش فيه . وأن اللغة خواء ، والعبارات صفر لا تُشَكِل أي شئ .
 وعندما تعجز عن الكلام ، توقن أن الدمع لغة العشق ، وأن لغة العشق تعني مزيدا من الحب ، وأن الحب يعني فتح بوابات القلب وكنز نور الله فيه .
 وعندما ترجع من رحلتك ، تجد أن قلبك ، وأنت على أرضك الكاملة ، صار ملكا للفضاء وفسحة الكون ونجوم الطبيعة ، وأنه صار يردد بلا انتهاء :
 الله .. الله .. الله .
 ولأن قلبك خير وعطاء وأمل ، ستصير نفسك خيرا وعطاء وأملا : روح كاملة ، ونفس كاملة .
 وساعتها ، ستجد أن الله فيض ورحمة وحب ، وأن الخطأ لا يتشكل إلا بصورة خير مطلق .
 وأن الإثم ، مهما حاك في النفس ، فبحر الرحمة ينقيه ، ويوهبه لمسات شوق ومحبة .. وأن الحب ، هو الصورة الوحيدة التي ستشكل تفاصيل العمر .
 فالأرض حب ، والنزوة حب ، والكمال حب ، والحب صلة وشوق دائم ، وكلمة (الله) فيوضات وأغان وألحان سحر .
 وساعتها ، ستجد أنك بقدر ما تطلب ( رفعة ) ، وعلوا ، وقدرة على السمو ، بقدر ما ستطلب كمالا أرضيا تاما ، دون أن يكون الكمال الأرضي هوى أو رغبة .
 .. فترتفع عن الأرض وأنت تملكها ، وتسمو عن الأرض وقدماك ثابتتان غير ملوثتين . فيكون عيشك هنيا صافيا ، وتلحق بالركب الأول الأخيار وأنت أولا ،سلس القياد .
 لقد تصدق عبد الرحمن بن عوف _ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وأحد الذين هاجروا إلى المدينة المنورة من مكة فقيرا لا مال له سوى عطاء الله _بشطر ماله أربعة آلاف ، ثم تصدق بأربعين ألف دينار ، وحمل على خمسمائة راحلة في سبيل الله .
 فكان غنيا زاهدا ، وسماويا أرضيا .. يبكي الليل حتى تتقرح عيناه ، ويناجي الله بصوت خاشع ، فتبكي الطير معه ، وتتردد أصداء الرحمن في نفسه.
 وكذلك كانت الرسل ، والأنبياء ، وأصحاب الرسالات : ملكوا الدنيا ، بل أُمروا بملكها وترفعوا عنها .
 كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبكي خشية ورهبة وطمعا ، ويقوم الليل حتى تتشقق قدماه الشريفتان ، وكان يلبس الأحمر والأخضر ويرجل شعره ويحب  الطيب .
 وكان عثمان عفا فاضلا ، موَََل جيشا بأسره _ جيش العسرة _ ، واشترى بئرا  وهبها للمسلمين . وكان أول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط عليه السلام ..فكان زاهدا تقيا ، لشدة خشيته وورعه ، استحت منه الملائكة ، ورافقه الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة .
 أنت تعرف يا عدنان أنني حتى فترة قريبة ، كنت أظن الزهد فقرا وعزلة . وأن السمو لن يتحقق إلا بقهر النفس وتجويعها المستمر .. فإذا بالزهد يعني تطويع النفس ، وتطويع النفس يعني دنيا وعطاء وخيرا وسرورا حقيقيا ، ولذة متجددة ترشف من كأس شوق أبدي ، فتروي الذات ، وتروي الكون من بحر كبير غيرأجاج : ماؤه فرات ، وطعمه مسك ، ومزاجه عسل وتسنيم .
 ولن أقول لك إنني وصلت ، فالمشوار ، مشوار العطاء والجمال والخير ، طويل . لكنني ربطت راحلتي مع ركب القافلة الكبيرة ، منتظرا محطة الوصول ..
 فهلا تأتي معي ؟ فالطريق مؤنس وجميل ، ويغري بالمسير .
 31 / 7 / 1985 م
                            ** ** **
 
أخي د. منذر أبوشعر:
أنا لا أخشاكم . ولا ترتعد فرائصي كما كانت جدتي فاطمة     ( المنسوبة ) تصاب بنوع من الفزع لدى سماع الآخرين يخوضون في سيرتكم .. ولم أتردد يوما في الحكم على قريبي ( الشيخ محمد ) جامع قصاصات الورق المنثورة في أزقة وشوارع مدينة دمشق ، بأمر من شيخه العارف بالله ، في خلع لقب (جاهل ) وليس( عارف ) عليه وعلى المدرسة التي ينتمي إليها . 
 قل لي : من هم العارفون ؟
 أظنَ ، من أطلق عليهم هذه الصفة ، أنه أفرزهم بحيث لايبقى بمقدور الآخرين من ( العلماء ) و (المفكرين ) و ( المشايخ ) الاقتراب من مرابضهم المحصنة بالنور الإلهي ؟! .. بلى ، هو كذلك !
 فمفتاح  الدخول إلى الله عندهم ليس ( كتابا ) أو ( ترنيمة ) أو ( تعويذة ) أو قانونا ، بل هو ( فتح ) الهي ..
 فمن ، بعد هذا التقديم ، يمكن أن ينسب لنفسه إمكانية البت في موضوع ( معرفتهم ) ؟! .. أجيب فأقول : لا أحد !
 عندما كان ( العارف ) بالله الشيخ محي الدين يرقد متكأ على جدار الكعبة _ وتمعن معي في اختيار المكان _ أتى إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبيده كتاب ، وقال له : بلِغ هذا الكتاب لأمتي !
 ولو وضع القارئ نصب عينيه الحديث الصحيح قاعدة ثابتة : من رآني فقد رآني حقا _ ثم ألحقها بالقاعدة القرآنية : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) ، لخلص إلى النتيجة المنطقية : إن مرتبة الكتاب الذي أمر ابن عربي بتبليغه ، هو القداسة بعينها ،وهو الفتح الإلهي الذي لا يناقش ، ولا يختلف في أمره .
 أخي الحبيب :
 تعال معي نستعرض سوية حشد الأنبياء والمرسلين عبر التاريخ _ تلك الصفوة التي اختصها الله لنفسه ، لتقوم بأعباء رسالته _ فأنك لن تجد واحدا منهم حاول نقل مفاهيم رسالته من خلال لغة مشوشة أو فلسفة معقدة . بل لم يكن لواحد منهم اهتمام بفلسفة سائدة أو بائدة . ولم نسمع بواحد منهم أنه كان فاحش القول أو سفيها . بل كان كل واحد منهم جم الأدب وسهل العبارة ، غير ممتنع عن الفهم لكافة الناس .
 ولم يُذكر لنا ، حتى في الإسرائيليات ، أنه كان نبي يحتكر الفكر ويجعله ( تابو).
 وأستدرجك ، بعد هذا التقديم ، لتلقي الضوء على شخصيتين من ( العارفين بالله ) : الشيخ محي الدين ، والشيخ أحمد الحارون :
 الشيخ محي الدين بفلسفته ومدرسته ، والشيخ أحمد الحارون ببساطته وسيرته الذاتية المنقولة على لسان العامة والخاصة من أتباعه .
 ماذا أفاد كل واحد منهما على حدة العالم الإسلامي ؟! فان كان أتباعهم يرفضون فكرة الفائدة الاجتماعية ، ويحصرون الطريقة (بالسالك ) كفرد لا ( بالسالكين)كمجتمع ، فإنهم بذلك يوقعون أنفسهم بشرك الأنانية المذهبية ، إذ يصبح همُ السالك الوصول إلى الحقيقة بمنأى عن التفاعلات الاجتماعية المغيبة عن ذهنه كليا .
 فقارن بين من هم جديرون بأن يتخذوا مثالا وقدوة ، وهم صفوة الأنبياء والرسل ، وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وبين أي واحد من أولئك ( العارفين بالله) . ولاحظ  كم هو الفارق المذهل بين السلوك الاجتماعي للرسول صلى الله عليه وسلم وانغماسه داخل مشاكل المجتمع واختلاطه بالناس ومعاشرتهم وديمومته بصحبتهم : ذكيهم وغبيهم ، وثريهم وفقيرهم .. وبين أولئك المنثورين كنقاط علام على مدى التاريخ .. لتجد انغلاق الذات ، وقمة الأنانية !
 ان جميعهم يعيشون بين القبور ، وفي مغاور الجبال ، وينقطعون عن الناس و ( الدهماء ) ، ويمارسون نوعا من الفوقية على أتباعهم ومريديهم ، ويحلولهم أن تكون أفكارهم و (مصطلحاتهم ) بحاجة إلى قواميس ومراجع للتفسير ، بل يطلبون من الناس أن من يفقه مدلول عبارتهم( الذكية) موجود بالبلد الفلاني على وجه الحصر والقصر ، ولا بد من تحمل وعثاء السفر للاستفسار عن ( مصطلح ) أو ( عبارة ) أو ( رمز) ! 
 ولكي تكتمل هذه المأساة في عصرنا الحديث ، فإننا بحاجة إلى بروفسور يترجم لنا مدلولات الاصطلاحات والرموز التي ابتدعها الشيخ محي الدين .
 ولو قلت لي إن القدوة التي تتمناها  قد انحسرت كحياة وحركة ، وأنك بحاجة إلى قدوة حية تمسك بيدك نحو الحقيقة ، وهو الهدف الدائم الذي تبحث عنه ،
 فإنني أوجز فأقول : إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قد مات ، ولكن كتاب الله وسنة نبيه سرمديان أبد الدهر . 
 والطريق إلى الله ليست بحاجة إلى رموز وإشارات وأنوار وأضواء ومصابيح كشافة .. بل هي أبسط ماتكون .. قريبة إليك والي والى ذلك الأعرابي البسيط وقتما قال : والله لا أزيد عليهن شيئا .
 دعك ، يا أخي ، من أوهامك . وكفاك بحثا بين الأشواك عن الدرة المفقودة ، فقد أدميت يديك .
 الله قريب قريب ( وإذا سألك عبادي عني فاني قريب ) وأنت مصر على كونه بعيد بعيد وأنت بعيد بعيد ، بحاجة إلى الوصول اليه ، وهو أقرب منك إليك .
 الباحث عدنان أبوشعر