قاربٌ خشبيٌّ صغير، بسيطُ الصنعِ، يحمل في مقدمته شراعاً أبيضَ، يدور في بحيرةٍ هادئةِ المياه، صافيةِ الزرقة، تتوسّطُ مروجاً فسيحةً خضراءَ، مزركشةً بألوان الزهور، تصيخُ السّمعَ من حولك فلا تسمع سوى غناءَ الطيور السعيدة، وأزيزَ الحشرات النشيطة.. وما عدا ذلك.. سكونٌ طبيعيٌّ ساحر.
يدٌ عابثة، تنتشل القاربَ من موطنه الذي ما اعتاد العيش في سواه، وتحمله بقسوةٍ لا ترحمُ الخوفَ الذي يعتريه.. يحلّ الظلام.. وتسود أجواءٌ باردة، ورياحٌ هائجة تؤذنُ بساعات مريرة... ولا ينتهي الألم هنا، بل يبدأ، فيُقذف بالقارب في الهواء، ليتلقّفه المحيط؛ محيط من الأمواج المتلاطمة، والمياه الغاضبة، شوّهت الصورة السابقة الهادئة التي لطالما رمزت للسلام.. والأمان.
عاصفةٌ ثائرة، تشتد رياحها لتشعل البركان المستعر في قلب الماء، ويستجيب الموج ويغضب، وقاربنا الصغير في وسط المشهد؛ قد تمزق شراعه، تحاول المياه اعتلاء سطحه مهددةً إياه بالغرق، وهو يظهر بطولة نادرة في ألا ينقلب.. كم عسيرٌ هو الحفاظ على التوازن والعصف يشتد من كل حدب وصوب، والخطر محدقٌ به يتحّين الفرصة ليجعله الضحية... وحيداً في كنف الظلام.. فلا رحمةَ، ولا معين.
تنقضي العاصفة، ترى المياه هادئةً، كأنْ لم تثر بالأمس، وتسطع الشمس بأشعتها اللطيفة، فتنعكس عليها وتغازلها برقّة، وتغمر جسمَ سفينة عريضة الجوانب.. ماضيةٍ بثبات ملفت، تتحدى الماء برسوخها على سطحه، وعلى شاطئ آخر بعيد، تتناثر قطع خشبية مهترئة، منتفخة من كثرة ما ابتلعت من الماء.. كانت يوماً...
قارباً خشبياً صغيراً