مستوطنات عصية على التفكيك
حين تُنهي الإجراءات الرتيبة، وينظرُ ضابطُ الارتباطِ الفلسطيني في أوراقِك، ثمّ يقدمها للمرة الألفِ للضابطِ الإسرائيلي، يُسْمح لك بمغادرة الجسر، المعروفُ لدى السيدة فيروز بجسرِ العودةِ أو اللاعودة، ثم تغادرُ محمَلا بعرباتٍ سريعةٍ قديمةٍ إلى المدنِ الفلسطينية المختلفة، كرام الله وجنين وطولكرم. غزة مشروع سفر موقف لإشعار آخر!. بلا شكّ ستصل إلى ما يسمّى بالأراض الفلسطينية، وهي عودةٌ غرائبيّةٌ إذا طالت غربَتُك عن الوطن، لأن الفلسطينيةَ التي تبحثُ عنها نسبيّة للغاية. بمعنى أنّ العلم الفلسطيني مطعّمٌ من حواليه بالعلمِ الأزرق المزيّن بنجمة داوود، في كلّ مكان يمكنُ أن تقعَ عليه أنظارُك. لا تتساءَلْ إذا كنتَ طارئًا على وطنِك "أينَ أنا؟"، لأنّك تتواجدُ في وطنِكَ المعمّد بقراءة عاملية جديدة. يمكنكَ أن تشربَ قهوةَ الصباحِ في مدينتِكَ الفلسطينية، ولكن تحتَ أنظارِ المستوطنات التي بُنيتْ فوقَ كلّ تلّة محيطة لهذهِ المدائِنِ اليتيمةِ المتراميةِ فيما تبقّى من كيانِ الوطن.
هناك كذبةٌ أخرى عليكَ أن تتخلّص منها حال وصولِكَ لمدينتِكَ المغيّبة، وهي إمكانية تفكيك المستعمراتِ العصيّة من حولك، لأنّها بنيت بثباتٍ وفوقَ أسسٍ قويّة لتبقى، هذه ليست مستعمرات طارئة، وقريبًا سيصبحُ شتاتُ المدنِ الفلسطينيّة مجرّد مَعْلمًا تاريخيًا وسط المعمّرات ((بإسقاط حرفي السين والتاء، وتشديد حرف الميم نكاية بمريم ومستقبل الشتات الفلسطيني)). معمّراتٌ قادرةٌ على الصمودِ في وجهِ عبثِ المفاوضاتِ التي قد تستمرّ إلى ما شاء الله، لأنّ الهدف منها هو المفاوضاتُ بحدّ ذاته، والوقتُ يعملُ دائمًا لأسبابٍ يدركها صانعو القرارات في تجاهٍ واحدٍ فقط. الوقتُ يخدمُ إسرائيلَ الدولةَ الفتيّة الديمقراطية في نظرِ العالم.
كيف، كيف بُنيت كلّ هذه المعمّرات في وهلةٍ من الزمنِ لا تتجاوز نصفَ قرن أو يزيدُ قليلا؟ كيفَ، كيفَ أصِبْنا بالخبلِ وضاعتْ منْ بينِ أيدينا القدرةُ على تعدادِ المعمّرات، وأخذنا نراهنُ على العودةِ القريبة، لأنّ إبريقَ الشايِ يا سادةَ ما يزالُ فوقَ النار، ولم يبقَ سوى أمتارٍ قليلةٍ لعبورِ المساحةَ الفاصلةِ ما بينَ نجيب محفوظ والسكريّة وسيناءَ وغورِ الأردن والسيّاب ونزار قبّاني إلى غزّة والضفّة!
هذه فلسطينَ التاريخية، لا يا سائقَ العربة، أنا طارئٌ هنا، حضرتُ بحكمِ التسلسلِ التاريخيّ الذي قد ينقطعُ مِنْ بَعْدي! كيفَ يمكنُ إبقاءَ أثرَ الزيتونةِ وشجرةِ التوتِ في مُنْتصفِ قريَتي "دير شرف"، طواعيةً في ثنايا ذاكرةِ أبنائي؟ كيف، كيف يمكنُ لجيلٍ جديدٍ صاعدٍ أن يدركَ المسافةَ الشاسعةَ ما بينَ عالمَيْنِ يلتقيانِ وينفصلانِ عندَ حدودِ شراييني، ثمّ ينفرجانِ فوقَ أخشابِ جسرٍ بُنيَ فوقَ أشلاءِ نهرٍ جَفّتْ مياهُهُ ولمْ يجرؤ أن يعاتبَ الزمنَ الحاضرِ، لأنّهُ غيرَ قادرٍ على التمييزِ ما بينَ الماضي فهوَ الشاهدُ الوحيدُ على المستقبل. يستشفّهُ ويعرفُ بأنّ أخشابَ الجسرِ قد تُسْتبدلُ يومًا ما بطريقٍ سريعةٍ معبّدة، توصلُ إلى المزيدِ من المعمّرات الجديدةِ اليانعة، ليعلنَ جسرُ العودةِ استقالتَهُ نِكايةً بفيروز.
ما أجمل المومياء في التابوت ترفض أن تموت
من قائل هذه الأبيات؟ وما كلّ هذا الوفاءَ لمصرَ في مراحلِ تطورِها منذُ الفراعنةِ وحتّى يومِنا هذا؟. مضى معين بسيسو وحيدًا في غرفتهِ في أحدِ فنادقِ لندنَ! ابتلعتْ لندنَ كذلك ناجي العلي، وابتلعت ولايةُ تكساسَ ما تبقى من مشاريعِ درويش الشعرية! وابتلعت باريسَ ما تبقّى من جسد ياسر عرفات!. الموتُ في الوطن فضيلة، فهلْ يُعتبرُ لجوءُ العراقيين والسوريين إلى مراكبِ الهجرةِ أسوةً بالفلسطينيين رذيلة؟.
ليتني أمتلك تفاؤلك يا بسيسو! ليتَني أرى بأمّ العينِ مومياءَ مصرَ ترتفعُ مجدّدًا نحوَ القممِ التي بلغَتْها يومًا! بسيسو رأى جمالَ المومياءَ دونَ حاجةٍ لتسليطِ المزيدِ منَ الأضواءِ على الأهرامَ، فهيَ أعلى قليلا من قامةِ التاريخِ وأقصرَ قليلا من الخيانةِ واليأس!.
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|