عرض مشاركة واحدة
قديم 14 / 05 / 2012, 44 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
خيري حمدان
أديب وقاص وروائي يكتب القصة القصيرة والمقالة، يهتم بالأدب العالمي والترجمة- عضو هيئة الرابطة العالمية لأدباء نور الأدب وعضو لجنة التحكيم

 الصورة الرمزية خيري حمدان
 





خيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond reputeخيري حمدان has a reputation beyond repute

كلّ ربيع وأنت بخير


أشعر بأنّني قد عدت إلى الحياة مجددًا بعد انتهاء كلّ شتاء! في الوقت الذي ينتحر الربيع والخريف، يتقلّص يفقد قوّة حضوره، يهدي الكثير من أيّامه للشتاء وللصيف. أنا لا أرغب بالقفز من الشتاء إلى الصيف، لديّ رغبة عارمة بتذوّق مرحلة انتقالية تحمي القلب تمنع انفجاره، تخفف من وقع غربتي وعدم قدرتي على تذوق معنى العودة إلى قريتي! ليس إلى مدائني بل إلى قريتي المحكومة بالبقاء قبل حافة النسيان بقليل!.

أشعر بأن الربيع قد ملّني، رغب بتمزيق دفاتري، لأنّها مليئة بالوجع بناءً على آخر التصريحات التي أدلت بها رياح الخماسين. اختفى الحنّون من حواكير البلد، لأنّ الحنّون خجل يخشى مداعبة النسيم. كانوا يتعللون، يتسامرون، يتحابّون، يتعاتبون. يميل أحدهم إلى الآخر قائلا ((إسمع يا "أبو" العبد، اللي راح راح، خلينا نفتح صفحة جديدة منشان الله يا رجل، كرمال عشرة العمر الطويلة!)) وينصاع أبو العبد للنداء، لأن القلب العربي قادرٌ على الغفران.

أنا يا ربيع تعبت من البوح، أرغب بإنهاء إحدى القصص التي بدأت كتابتها في أثناء تساقط الأمطار والثلوج، حتى حسبتني رجل الثلج. قصّة ما أسميتُها جدلا "حكايتي مع الذئب" الذي حلّ ضيفي، لكنّي لم أتمكّن من إنهائها لأنّ البوح خنقني، أمسك بتلابيبي وقذف بي عند حدود البلد مجددًا. البوح غالبًا ما يهاجم المهجّرين حتى في مواطنهم، ليتمكنوا من البقاء والعودة للمشاريع الإبداعية، للانتهاء من القفز على حواجز القهر والنسيان. هذه هي ضريبة الإبداع والعودة إلى البوح لا تنتهي، تبقى تلاحقنا حتى بعد صدور المجّلد الأول والثاني وملحقاته، وآهاته، وكلّ العتب المتراكم منذ اللقاء الأخير، الذي يفصلنا عن بدايته ثلاثة عقود قصيرة تقاس بطول اللحى وبعدد الشعر الأبيض الوقح، الذي لا يرحم الرؤوس فيشعلها رجالا ونساءً.

هل لك أن تنفلق شعرًا؟ أن توصل الماضي المتوقف في لحظة الغياب مع القافية التي تحررت من عوامل الجذب والضغط، لتصنع أغنيتك أنت دون غيرك!، يتحلّق المتآمرون الأصدقاء، يشعلون النار لشواء الذرة والكستناء بانتظار هطول المطر. ما أشبهنا بالهنود الحمر - أجدادي في المعاناة، أجدادي المقتلعون من الأرض ليعيشوا عمرًا آخر في المحميّات بحثًا عمّا تبقّى من رموزهم وآلهتهم.

أين؟ أداة الاستفهام التي تؤرق فلسطينيتي. لا "أين" أبدًا. عودتي محفوفة بكلّ علامات الاستفهام الممكنة. ما تعني هذه الأداة وهذا السؤال المحفوف بالمخاطر؟. عودتي مرهونة بحسن نوايا الاحتلال المعدومة. مرهونة بموافقتي على استخدام جواز سفري لأعود زائرًا لوطني، الأمر الذي فشلت بالقيام به بالرغم من توطئة الربيع، ووعود الصيف بالحصول على بدرٍ لم أحلم به بعد! أكره الأين لأنّها تحيّرني، تربكني، تدخلني إلى مفارق طرق لا تنتهي، معظمها لأسباب ما زلت أجهلها حتى اللحظة التالية.

ألجأ للبوح لأنه المخرج شبه الأخير نحو الشواطئ الآمنة. إنّه الكلامُ الحرّ الخارج من سياق الحديث المحكوم بالقواعد. البوح لا ينصاع لقافية أو لمقدّمة قبل الولوج في صلب الألم. البوح حالة من التوحّد مع الزمن لا المكان. لأن المكان بالنسبة للفلسطينيّ وللمهجّرين عنوة متوقّف عند حدود الاحتلال الدامية. المكان هو بقعة الضوء الذي أضعنا في ظلمته أسماءنا وألقابنا وبريق العينين العسليتين لابنة الجيران، التي ربّما أصبحت أمًا أو جدّة شابّة! البوح هو محاولة للقفز فوق حواجز التفتيش وإلغاء قدسيّة المكان. البوح هو الفوّهة التي تسمح للبركان لقذف حممه عاليًا نحو مراكز السفر المؤقتة. كلّنا مشروع سفر حين نفقد مفاتيح الوطن التي اعتدناها. أعرف بأن المسافة لبروكسل وفيينا وباريس ولندن والمغرب وتونس والقاهرة وعمّان وبيروت لا تستغرق سوى ساعات بالطائرة. يسهّل المهمّة الحصول على جواز سفر أوروبي يفتح مداخل ومخارج الشنغن. لكن كلّ هذه الأولويات تصبح مقيتة لأن في الانتظار دومًا غرفة فندق لا نملك من مقتنياتها شيئًا يخصّنا. وجودنا هناك مؤقت، حضورنا مرهون بقضاء الحاجة لقراءة القصيدة في المهرجان، ثمّ الانتقال إلى حالة مؤقتة أخرى.

ما معنى الوطن؟ ولماذا الآن كلّ هذا الإلحاح لاستجداء الوطن والبحث عن بقاياه في الذاكرة؟ الجواب يعرفه الكثيرون، الذين ذاقوا طعم الجلوس لساعات طويلة في مقاعد الانتظار في المطارات وأروقة الانتظار. في أثينا وقبل عقد من الزمان، أزالت السلطات الأرائك المريحة والمناسبة للنوم، لأن المسافر العربي يضطرّ للبقاء لأيام في صالة الانتظار إذا تصادف وتأخّر عن الصعود إلى الطائرة لأنّه وبكلّ بساطة قد غفا ونام. في الوقت نفسه تصل عدد الرحلات المغادرة إلى ألمانيا خلال اليوم الواحد حوالي 15 طائرة خلال موسم السياحة، لكن الطائرات المتوجهة لأوطاننا محدودة، وعلى المسافر أن ينتظر أيامًا للصعود إلى الرحلة التالية!. هذا الشرق يبدو صعب المنال، وجهة غير مفضّلة وعصيّة. لا تناموا حين تجدون أنفسكم تجلسون في أريكة مريحة بانتظار الطائر الميمون.

ما معنى الوطن لملايين المهجّرين من العراقيين والسوريين، وللمغاربة الذين يصل تعدادهم في بلجيكا قرابة المليون وللجزائريين في بريطانيا وللبلغار الباحثين عن فرص عمل وحياة أفضل في تشيكاغو، حيث يصل تعدادهم إلى قرابة 300 ألف مواطن، وللغجر الرومان الذين توجّهوا إلى باريس بحثًا عن أجدادهم! يبدو الوطن مشروع سفر متواصل في عصر العولمة، القابع فوق العجلات. لكن هناك دائمًا متّسع للحبّ ولكأس من النبيذ أو عصير الجزر والموز. هناك دائمًا متّسع لقبلة ولهمسة ولأمنية بعودة سريعة ميمونة، قبل أن يتوفّى معظم الأصدقاء والأقرباء وقبل أن تنسى القرى والمدائن، وقع أقدامنا وصدى أصواتنا وبقع الحنّاء على أكفّ العذارى والعرائس.




نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
خيري حمدان غير متصل   رد مع اقتباس