لا جديد – إنّها حالة عشق جديدة
الإهداء
الأديب العزيز عبد الحافظ بخيت متولي – لا تهجر الأدب، أنت تعرف بأنّ مصر أمّ الدنيا.
هكذا أنا دومًا، أدرك تجلّيات العشق في اللحظات الأولى. أعرف بانّ السيدة التي تأتي في اللقاء الأول مرتدية ملابس بيضاء، هي سيّدة عاشقة، لا تقدر على إخفاء شرارات العشق المشتعلة في عينيها. العاشقة تصبح كاللبؤة حين يطلق سراحها بعد سجن طويل، تتلفت في كافّة الاتجاهات كي تحدّد موقع ضحيتها، عشيقها! كيف حدث كلّ هذا وأنا الرجل الهادئ الرزين. لا لقاء يخضع للمصادفات، خاصة لقاءاتي التائهة. كي تفهموا هذا الشأن لا بدّ من العودة إلى الماضي قليلا.
قبل سنوات كنت أقود سيارتي بسرعة كبيرة، كنت خلال ذلك اليوم عصبيًا متوترًا دون أسباب واضحة محددة. فجأة وبعد أن طال بي الدوران في شوارع المدينة، رأيت رجلا عجوزًا على وشك أن يقطع الشارع، وقد خطا بضع خطوات نحو منتصف الطريق. عندها وجدت نفسي مرغمًا على فحص كوابح السيارة لمعرفة قدرتها على الوقوف الفوريّ المفاجئ. حمدت الله كثيرًا حين توقفت قبل أن أصدم الرجل لينجو كلانا من تبعات الحادث، من عقاب وحساب وتأنيب للضمير. توقّفت السيّارة ونجا الرجل. ركنت السيارة بالقرب من الرصيف وخرجت لأعتذر للرجل عن حماقتي، لكنّ حبل المفاجآت لم ينته، لم يكن هناك أيّ أثر للرجل المعنيّ. تلفتّ في كافة الاتجاهات لعلّي أراه لكن دون فائدة، علمًا بأنّ سنّه المتقدّمة لم تكن تسمح له بالركض، ولو فعل ذلك لكنت رأيته دون محالة! بعض لحظات ظهرت من البعيد ناقلة وقود وقد فقد السائق القدرة على التحكّم بمقودها، سرعان ما انقلبت الشاحنة واشتعلت النيران بهيكلها، ليس بعيدًا عن المكان الذي كان من المفروض أن أتواجد فيه، لو بقيت أتجّول بسيارتي كمراهق، يافع، أحمق، متهوّر وأنا لست كذلك! نجوت بأعجوبة من موت محقّق، لكن كما أخبرتكم لا مكان للمصادفات في حياتي، وما زال في القصّة بقيّة.
لا لم أخرج عن الموضع كثيرًا، كلّ ما في الأمر هو رغبتي توضيح بعض الملابسات بشأن المصادفات الغريبة المتكرّرة في حياتي. الآن وبعد سنوات أتيحت لي الفرصة للسفر إلى القاهرة لإنهاء أطروحة بدأتها بالتعاون مع إحدى دور النشر العزيزة على قلبي، أعتقد بأنّها (نون للنشر والترجمة)، التي يشرف على إدارتها الصديق الأستاذ محيي الدين إبراهيم والأستاذ معتز تميم. المعذرة، قد أخلط أحيانًا الخاص بالعام، لكن صدّقوني لا مكان للمصادفات، هناك دائمًا للأقدار دورٌ غير مرئيّ، وأكبر دليل على ذلك هو تعطّل الطائرة قبل صعودي على متنها! لماذا تلعب الظروف دائمًا دورًا غبيًّا يحول دون سفري تحديدًا إلى القاهرة. أشار علينا طاقم الطائرة بالمغادرة والعودة في صباح اليوم التالي. كنت قد اشتريت تذكرة على متن رحلة رخيصة توفيرًا لبعض المال، وها هي النتيجة، العودة إلى بيتي في صوفيا للحصول على قسط آخر من النوم بعد أن اضطررت للاستيقاظ في الساعة الخامسة صباحًا. مرّة أخرى يختلط الخاصّ بالعام، قد أكون في صوفيا الآن، لكنّي لا أدري أين كنت أقود سيارتي قبل سنوات. ربّما في عمّان أو دمشق قبل الحريق الذي أشعل أوصالها أو في بيروت أو بغداد! لا أدري، المعذرة، لكن لا مكان للمصادفات فحالات العشق واحدة، وأنا دائمًا أخشى النساء اللواتي يحضرن مرتديات الملابس البيضاء في اللقاء الأول. ربّما تمّكنت الآن بعد مرور بعض الوقت فهم شيء من هذه المصادفات. هل هناك مكان للعشق في القاهرة المقهورة اليوم؟ هل يخفق القلب المفعم بكلّ العشق المداهم لحالة الوجوم التي انتابتني قبل أن أصعد مغادرًا إلى القاهرة، للقاء قد يكون وهميًا أو غير متوقع؟ أذكر بأن القناة الأولى قد طلبت منّي الذهاب برفقة أحد أهمّ الصحفيين الدوليين العاملين لديها إلى القاهرة، لتصوير الأحداث الدامية في ميدان التحرير، ولإجراء بعض اللقاءات الرسمية قبل سقوط إمبراطورية الرئيس السابق حسني مبارك، لكن المشروع فشل في اللحظات الأخيرة! لا أذكر السبب، صدّقوني لا أذكر السبب، لكنّ الدمع سال سخيًا من عينيّ، لماذا تبدو القاهرة عصيّة؟ لماذا ترفض السماء التوجّه إلى هناك. أكثير على عاشق أن يتوجّه لحرم الأهرام، هناك قد أجد جزءًا من ذاتي التائهة. لا مكان للمصادفات كما ذكرت، لأنّ العواصم العصيّة كثيرة.
بعد ظهر ذلك اليوم، وبعد أن نلت قسطًا كبيرًا من الراحة. مضيت لأمضي بضع ساعات في إحدى المقاهي الإيطالية، حيث تكثر شجيرات الزيتون بين المقاعد، ويتجلّى الصيف بكلّ أبّهته وحضوره المؤلم فرحًا وانعتاقًا من الهمّ اليومي والكآبة والوحدة والغربة والاغتراب وتصدّع القوافي في مذكراتي وصهيل البيانو المتمطّي بين أصابع ابنتي، والحنين الذي لا يفارق تجلّي العود والناي. يعرف طاقم المقهى مكاني المفضّل وسط الحضور الكثيف بسبب روعة أجواء الصيف، وعادّة ما يحجزونه كرامة للشعر وتذوقًا لرومانسيتي المفرطة. قد تكون هناك علاقة ما قد نشأت بيني وإحدى العاملات هناك، لا أدري إلى أيّ مدى تفاعلت العمليات الكيميائية مع تلك الحسناء، لكنّها كانت كافيّة لحجز مكاني المفضّل، وكانت تلك العزيزة لا تنسى عادة أن تضع شمعة صغيرة لتضفي على المكان ظلالا، يصعب تجاهل سحرها وأثرها، ولم تُحرم الأماكنُ الأخرى والكنبات العريضة من كمّ كبير من الشموع. في اليوم التالي سأطير مجددًا إلى القاهرة، قلت لها مرحًا، ثمّ أخرجت الحاسوب لأكتب ما يعتمل في صدري وهو كثير في هذه المرحلة من الزمن. مضى بعض الوقت والشمعة ترفض أن تتراقص لاختفاء أثر الريح والهواء الرطب الذي غالبًا ما كان يحضر لرفقتي والجلوس قبالتي، لكنّ الشمعة رقصت أمامي حين أطلّت هي مرتدية ثيابًا بيضاء! آه..الملابس البيضاء ثانية تفضح عشقك، وانجذابك يا لك من امرأة! أنت التي أجبرت أعناق الرجال جميعًا أن تلتفت نحوك لتغازل طلّتك وهذا أضعف علامات الرجولة. لكنّك توجهت نحوي، نحو مقعدي مبتسمة. أخشى النساء اللواتي يظهرن في لقاء عابر مرتديات الأبيض، وأنت التي لا أدري كيف ومن أين حضرت تتقنين فنون السحر الأبيض، إذن فليكن. مددت يدك مصافحة وشكرتني لحضوري في الموعد المحدّد لإجراء مقابلة صحفيّة. لا مكان للمصادفات، كنتُ قد تلقيت مكالمة هاتفية من صحفية، رغبت بإجراء مقابلة صحفية معي بمناسبة صدور روايتي الأخيرة، وكنت أنا من حدّد المكان والساعة، ألهذا تعطّلت الطائرة وأجبرتني على العودة لألتقيك؟ إذا كان اللقاء بريئًا بهدف إجراء لقاء صحفي، لماذ حضرت إذًا مرتدية الأبيض! ألا تعرفين مدى تحسّسي من لون البراءة في اللقاءات الأولى التي تسبق انفجار قصص الحبّ والغرام؟ بل تعرفين كباقي النساء اللواتي يدركن مدى قدرتهنّ على اختراق الحجاب الحاجز للرجولة.
لم تكن رغبتي خلط شأني الخاص بالعام، لكنّي في مرحلة ما بعد هذا اللقاء، قلت لك بأنّي "أحبّك!" وأنت يا لئيمة ضحكت وأجبت بأنّ الحبّ حلالٌ في الشرائع الإنسانية والسماوية، ثمّ أزحت نظراتك إلى البعيد، لأنّك عاشقة أيضًا، ولو كان الأمر مختلفًا لما حضرت بالأبيض يا أنتِ، حتّى الشمعة أدركت ما سيحدث ما بيننا من خطيئة منتظرة، لهذا تراقصت طويلا احتفاءً بحضورك. والآن قبل انتهاء هذه القصّة أرجو أن تخبروني عن مكان وجودي، هل سافرت في اليوم التالي إلى القاهرة، أم بقيت رهن السحر الأبيض؟ هل يمكنكم أن تخبروني قبل أن تنطفئ السمعة، علمًا بأنّها تتراقص تتراقص تتراقص أمامي.
هامش
- هل تتعمد خلط العام بالخاص؟ لماذا تجنّيت على متن القصّة ليصبح النصّ خليطًا ما بين أحلامك ويومياتك وتمنيّاتك وطموحك وولعك باللون الأبيض؟ أنت كاتب قصّة وربما رواية وخاطرة، لكنك تخلط العام بالخاص، تتأرجح ما بين هنا وهناك، هل نحن مضطرون لتحمّل كلّ هذا الرحيل من وإلى الأوطان الكامنة في ذاتك؟
- المعذرة، لا أدري كيف أجيب، لكنّي ما زلت أتساءل، كما فعل الشاعر الغنائي محمد حمزة قبل عقود طويلة من الزمن، أتساءل "نبتدي منين الحكاية؟".
[/size][/b]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|