رد: قصيدة النثر رؤية جديدة
لقد كثر الجدل حول تاريخ قصيدة النثر فى الدب العربى ومنهم من يرى انه ممتدة الجذور فى التاريخ العربى القديم ويعتبرون ان قصص الامثال وما رواه السمعانى عن الاخبارى الجهشيارى وقصص الف ليلة وليلة والأدب الصوفى يمثل الجذور الاولى لقصيدة النثر والحقيقة ان هؤلاء يقدسون التراث ويرغبون فى ان يجعلوه مصدرا للظواهر الادبية وفى هذا تعنت شديد فى تفسير ظاهرة قصيدة النثر وتقديس غير مبرر للتراث
ان قصيدة النثر العربية جاءت مستوردة من الادب الفرنسي على يد شعراء مجلة شعر اللبنانية سنة 1957 وهم توفيق صايغ , شوقي ابو شقراء , محمد الماغوط , انسي الحاج , يوسف الخال واودونيس , ولدت قصيدة النثر العربية نتيجة ثأثر هؤلاء الشعراء الشباب بالادب الفرنسي , حيث ترجمت جميع الكتابات والرسائل التي ارسلها بودلير الى هوسيه حول قصيدة النثر ناهيك عن سوزان برنار التي اخذت شهادة الدكتوراه برسالتها الموسومة ( قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا) فنتيجة هذه الكتابات التي كانت طاغية في الادب الفرنسي تأثر شعراء العرب فانتجوا قصيدة النثر , اما قبل عام 1957 لا يوجد شي يدعى قصيدة نثر حتى كتابات جبران او المقطوعة النثرية التي نشرها خليل مطران في الجزء الاول من ديوانه تحت عنوان ( شعر منثور) لا تعتبر قصائد نثر او كجنس ادبي يتوجه اليه النقد والتحليل بجميع معاييره انما كانت عبارة عن خواطر او هواجس وليس قصائد يشار اليها وليس لها ذكر لو لا الثورة التي جاء بها شعراء مجلة شعر على كسر الرتابة والتقليد بل ان كل هذه الجذور الوهمية التي تم اصطناعها بعد ان تربعت قصيدة النثر على عرش الادب العربي ليس لها أي قيمة لو لا هذا الانقلاب الذي حصل في لبنان عام 1957 وبعد ثلاث سنوات أي في عام 1960 اصدر انسي الحاج ديوانه الاول" لن" عن دار مجلة شعر الذي ضمنته مقدمة اصبحت فيما بعد اشبه بالبيان الاول لقصيدة النثر . وثمة سؤال يطرح نفسه هل ان شعراء مجلة شعر استنبطوا قصيدة النثر من داخل اعماق التراث العربي ام نتيجة تأثرهم بترجمة الادب الفرنسي الجواب واضح وقد ذكرته فيما سلف اذا لا يوجد أي غرض او ضرورة لهذا التمسك بالماضي وهل هناك خجل اذا قلنا بان قصيدة النثر مستوردة استيرادا فرنسيا نحن اليوم في عصر العولمة فهل يستطيع ابسط انسان ان يخلع رداء العولمة عن جسده وهل ان المذياع والتلفاز والجوال والانترنت كانت لها جذور في تاريخ اجدادنا فلماذا نستقبل جميع مفردات العولمة من مأكل وملبس ووسائل نقل واتصالات وثقافة شاملة واخبار عامة وطب وفلسفة وهندسة وكل حياتنا بفضل الغربنة وعولمتها لماذا نستقبل كل شي ونرفض قصيدة النثر هل يوجد مبرر لهذا الرفض , انا من وجهة نظري القاصرة ارى قصيدة النثر العربية يبدأ تاريخها من عام 1957 , اما قبل ذلك العام لا يوجد شي ترجع اليه قصيدة النثر كمصدر ابتدائي او مرجع ادبي وثقافي .
وهنا سيكون الاشكال اكثر تعقيدا وسوف يطرح اكثر اسئلة اولا : ماذا نقول عن الحكم في العصور الجاهلية او بعض كلام المتصوفة وبعض الادعية ومزامير داود او ملحمة جلجامش جميعها اشبه بالقصائد النثرية فاذا لم تكن هذه جذور القصيدة النثرية فماذا نعتبرها ؟ ثانيا : ان اهم سمة من سمات قصيدة النثر عدا كسر الرتابة في الوزن والقافية انها جاءت تعبر عن هيام كوني عن مخاض عاطفي لم تخضع قط لسطان او تعرف شي اسمه الممدوح او المقدس تماما عكس التقليدي الذي نشأ على المدح والقدح والهجاء والرثاء ولكن لا نستطيع ان ننكر ان تراثنا العربي لا يخلو من شعر عاطفي لم يخضع لسطان او طاغية وفيه من الجودة والروعة ما لا يستطيع الشعر الحديث ان يأتي بمثله وخذ مثلا ذا الرمة الذي اطلقوا عليه ربع شاعر لانه لا يمدح ولا يهجو ولا يتنسب او يفتخر فقط شعره عاطفي وجداني اذن هذه السمات التي وجدت في شعر ذي الرمة اليس هي نفسها عند الشاعر الحديث ؟ , الا يوجد في التراث بعض سمات قصيدة النثر ؟ ثالثا : اليس اكثر الكتابات عن قصيدة النثر تشير الى وجود الموسيقى الداخلية في القصيدة , اليس القران مموسقا ولا ريب في ذلك وهو ايضا نثر وليس شعرا اكل هذه الكتابات لا تعتبر كجذور لقصيدة النثر ؟
لتوضيح هذه الاشكاليات فنحن ذكرنا فيما سلف ان هذه الكتابات التي وردت في تراثنا العربي كاشعار المتصوفة والادعية ولغة الجاحظ ورسائل اخوان الصفا وغيرها من الكتابات التي اطلق عليها بـ(النثر الفني) جميع هذه الكتابات في تلك العصور لم تعتبر جذورا للقصيدة النثرية لان النثر الفني برمته كان في عداد النثر وليس في عداد الشعر أي انه لم يحصل على القيمة التي حصل عليها الشعر , اما اذا كان العرب يستسيغون الاستماع الى الشعر ولا يحبذون الاستماع الى النثر فهذا خلل في منظومة التلقي العربي , اذن منظومة التلقي العربي منظومة عرجاء بل عوراء تبصر بعين واحدة وتغلق الاخرى حتى لو كانت صالحة للابصار , فما زال الى يومنا هذا ومن شريحة المثقفين يستمعون الى القصيدة ولا يصغون الى القصة حتى لو كانت صغيرة , ينصتون الى المحاضرة ولا يستطيعون ان يغلقوا افواههم عندما تقرا عليهم المقالة فرغم هذا الكم غير القليل من النثر الفني في تراثنا العربي الا انه لا يوجد له اصغاء او قراء كما للشعر , وخير دليل هو ابو حيان التوحيدي الذي قتله الجوع والعوز وعضه الفقر عضا وهو ينتقل من بلد الى بلد ومن امير الى امير لانه كان من كتاب النثر وليس من ُنظام الشعر , ولولا احد أصدقائه وهو ابو الوفاء المهندس الذي قدمه الى وزير الدولة ابو عبد الله الحسن المشهور بابن العارض لما ألف كتابه ( الامتاع و المؤانسة ) , فهل كان الناثر جدير بالحضوة عند الامراء والناس كما الشاعر طبعا لا , ولو كانت منظومة التلقي العربية منظومة كاملة وصحيحة لأبتكر العرب قصيدة النثر في زمن هارون الرشيد وألقيت القطع النثرية والنصوص المسرودة في المجالس بدلا من القصائد المنظومة , لان النثر الفني ذو قيمة عالية ولكن قيمته نثرية وليست شعرية , رغم عدم خلوه من اللغة الشعرية وخضوعه الى جميع صور البلاغة , الا ان النسق الثقافي العربي هو نسق شعري سمعي مموسق , اذ كان العرب كما هو معلوم يفتخرون بشاعرهم وليس بناثرهم حتى لو كان هذا الناثر ابلغ وافصح واعلم من الشاعر , اذن ما قيمة ذلك النثر الفني في تلك العصور وهو لا يصل الى المتلقي كما يصل الشعر .
وهنا تبادر في ذهني مثالان اضربهما للقارئ , الاول بالذهب , لو كان الذهب في تلك العصور معدن لا قيمة له كاي معدن من المعادن الاخرى على سبيل الفرض واليوم عرف الذهب ذو قيمة عالية وثمن باهض فهل ان الذهب الذي كان في تلك العصور له قيمة الذهب في هذا العصر , الجواب العقلي والمنطقي طبعا لا, فلو كان في تراثنا العربي جذور لقصيدة النثر او ثمة قصائد نثر كما زعم الخفاجي , هل يشار اليها كجنس ادبي كما هو اليوم , اما المثال الثاني هو الذهب الاسود المدفون في بطون الاراضي العربية ( البترول ) انه بالتأكيد كان موجودا منذ العصور القديمة , العباسي والاموي وحتى لو هم الذين علموا بوجوده في باطن الارض ولكن لا يعرفون كيف يستخرجونه ويستخدمونه اذ لا توجد بحوزتهم أي آلة تعمل على الوقود فهل يكون للبترول قيمة كما هي اليوم , وهل يسجل تاريخ البترول منذ اكتشافه واستخدامه للآلات ام منذ وجوده في باطن الارض قبل آلاف السنين , خلاصة القول ان تاريخ أي شي في الحياة يبدأ متى ما كان هذا الشي هو نبض الحياة , نعم نقول في تراثنا العربي ما يشبه قصيدة النثر صحيح ولكن اعتباره جذرا لقصيدة النثر هذا هو الخطأ لان الجذر هو الامتداد الطبيعي للاصل ولو الجذر لما كان الاصل موجود الا ان قصيدة النثر جاءتنا ليس من هذه الكتابات التي تطلقون عليها جذرا بل جاءت من قبل ترجمة الادب الفرنسي اذن تاريخ قصيدة النثر العربية تبدأ من عام 1957 .
|