1
أعرف أنني ِجميلة ! وجهي دائري ، أقرب إلى السمرة . وعيناي ناعستان ، شديدتا السواد .وشعري جعد كثيف ، يسترسل بطيش على جسمي الممتلئ الطويل .وفمي متسع ،غاية في الإغراء بشفته السفلى الدسمة .وصدري مكتنز ،مشرأب الرأس أبدا! ولأنني من بيئة تمتهن بيع الجسد ، وتتباهى بذلك ،كان طبيعيا ، أن يعزّز كل من حولي ،شعوري بجمالي،ويشجعني بحماس وشغف لكل حركة مني، تثير كامل مفاتني، شريطة انتظار ساعة موسم القطاف! فجمالي،إنما هو للآتي (المهبر)! فأنا ، في الحقيقة ،حلم العائلة ! بل أنا مفتاح كنز(علي بابا ) وخيالات مباهج أنس ليالي شهرزاد !
والغريب ، أن والدي كان تاجر أنتيك ، يمتهن تجارة التحف القديمة ،فلا أدري كيف تورّط في وحل الدعارة واستساغ غريب مفاهيمها ! فدائما كان يردد بثقة : - البغاء وبيع الجسد لقاء المال ،ذلك هو العيب كل العيب! وطبيعي أن تحرّمه كل الشرائع والديانات وتعاقب فاعليه ! وما نفعله نحن ، فإنما هو صنعة متعة الجسد ! نعم ! ما نصنعه هو Funوغاية إمتاع متفردة لخاص أناس تقدّر وتتذوق! والأمر عندنا اختياري ، وليس سداح مداح ! فإن شُفِع ذلك بهدية و(مجاملة) فلا ضيرولا خطأ ! (ويتابع بمنتهى الثقة ): أكبر خطأ وَصْفُ بناتنا ببائعات الهوى واتهامهن بالإباحية والفجور! أبدا ! فالمومس ابنةُ رخيصِ الأوتيلات ، مبتذلة ،ابنة شوارع وأمكنة عتمة وظلام ! تُباع وتُشترى سلعة رخيصة ! بينما نحن نصوغ الحب ونسوّقه لمستحقيه ،لأننا وحدنا من يعرف معنى الحب وقيمة عطاء الجسد !
وكثيرا ما كان أبي يأخذني معه إلى مجالس أُنسه!وإذا ماحاول أحد التحرش بي ،ثار غضبه واحتدّ قائلا :- لم يئن الأوان بعد! يا مجانين!ابنتي(ناريمان) تنتظر (المهبر) صاحب النصيب !
وكم فوجئتُ أن صاحب النصيب كان من حديثي النعمة ! ستيني العمر، إلى القصر أقرب ، رياضي الجسم ، منمنم القسمات ، عيناه عسليتان،فيهما نزق وحِدّة وخبيء طيب ! وبهدوء فيه طرف مباهاة قال لي ، وهو يضع خاتما ثمينا في أصبعي :- يجب أن نتفق ! أكره أن يشاركني أحد في هذا الجمال البديع ! أحب أن تكوني لي وحدي ! لكنْ لازواج محكمة ! فقط ورقة شيخ من أجل الحرام والحلال ! بل تكفي ورقة مني ، ولا داعي للشوشرة !
:- كلي لك! أنت حبيبي ! وكل الإجراءات لا قيمة لها! المهم أن أبقى معك!
والتزمتُ معه شهرا ، وربما أكثر قليلا ! وكنتُ معه حيادية المشاعر! لم أحبه ولم أكرهه،كما أنني لم أشعر معه بالأمان والدفء الذي تتمناه كل فتاة!
ودون تدبير، أتتني مكالمة غيّرتْ مسار حياتي معه !
:- ألو ! من ؟! بابا ؟!
:- اشتقتُ لكِ يا نَوَرِيّة ! ضروري أن تأتي إلى بيتنا غدا الساعة الثامنة مساء !
:- الثامنة مساء ! وعندك في البيت ! والله العظيم حَبّوبي عبد القادر إنْ علم بذلك سيقطع رقبتي !( وبعد دقيقة صمت ) عبد القادر منعني من زيارتكم ! بل قال لي بصرامة :من أحب رؤيتك فليأتِ إليّكِ هنا في بيتي !
:- استخدمي أية حجة ! قولي له إنني مريض ! بل قولي له إنني في نزع الموت !
:- بعيد الشر ! حُسّادك إن شاء الله !
:- ضروري جدا حضورك غدا ! ابن المغترب (كميل)، تاجر المقاولات، دعوته إلى منزلنا ! وسأعمل له حفلة كوكتيل على قد الحال، وستكونين كالعادة ،(اللهلوبة) نجمة السهرة !
:- يااااي أورجينال! إن كان كذلك ،فالأمر سيتم بمنتهى اليسر والبساطة ! (وتابعتُ وأنا أضحك بغنج ) بطريقتي سأقنع عبد القادر وآتي معه!
:- هل جننتِ ! لا يصح ذلك ! يجب أن تكوني بمفردك ! أبو الكمل لا يحب الشراكة ! حقّه ! باشا ابن ستين باشا !
وتزينتُ كعروس، بعد جدال ودموع مع عبد القادر! شريطة ألا أتأخر! ولما قلتُ له إنني سأضطر إلى النوم للاطمئنان على أبي ، ثار وشتمني لأول مرة! كما شتم أبي! لكنني ذهبتُ! ودُمّلة وفقأتُها! وضعتُ قناع البهجة والمرح والشغب الذي أتقنه ،ورسمتُ معه فاتنَ سحر ابتسامتي التي اعتدتُ صنعها بدقة على وجهي! وفي ساعة متأخرة دق الباب بعنف!
:- يا جماعة كم الساعة؟!
:- الساعة الثالثة !
:- من هو قليل الذوق الذي يأتي بمثل هذا الوقت ؟!
:- بيت الكريم مفتوح الباب دائما !
(فهمتُ ما يرمي إليه ! فقلتُ له وأنا أضحك):-أبدا ! الباب لا يُفْتح إلا لكََََََََََََََََََََ ! (ووضعتُ خدي على صفحة عنق ابن المغترب كميل وأنا أطوقه بمنتهى الغنج وتابعتُ ) لا كريم بوجود الكريم ! الكون يُلْغى بوجودك يا حبيبي !
وتعالى الدق !
وفوجئتُ بعبد القادر يدخل غاضبا !
:- طبعا لن تفتحوا الباب وأنتم على هذا القرف ! لقد شعرتُ من شدة إلحاحكِ في القدوم إلى هنا أن في الأمر سرا ! ذنب الكلب أعوج ! وبنت الشوارع تبقى بنت شارع رخيص ! (وبصق عليّ بقرف،وأطبق الباب خلفه بقوة وهو يرتجف ) .
** ** **
2
من أنا ؟!
من أبي ؟!
وما هو الحب ،وما المشاعر؟! وما دفء البيت والعائلة وحميمية الأسرة ؟! وما هي اللهفة والتوق والشوق وحقيقة صدق الحنين؟!
لأعترف ،أنني ،لأول مرة، أشعر بمرّ المهانة والاستخذاء !
وغدا وقتما سيطحنني الزمن ، لاشك أنني سأفقد بريق إغرائي، وسيركبني الهمّ والمرض، ولا معيل !
بل غدا ستُزوى عني كل الأضواء ، وأُبْعَد عن كل الناس ، وأصير لا شئ ! رقما ،عددا ، صفرا ! ليس أمامي إلا متابعة مسيرة أبي وأمي،لأني لا أجيد غير ذلك! أتزوج لأنجب ، وأفرح إن كانت بنتا، وعندما تكبر البنت أزوجها لصاحب مال شهرا أو سنة،فأكسب من زواجها وأكسب من طلاقها! ثم يأتي عريس ورقيّ آخر وآخر وآخر !
وهذه هي دنياي! لكن هل هذه هي الدنيا حقا ؟!
بريق أضواء وجاه وزيف مال وحسد وغيرة ، ودموع بلا انتهاء؟!
ما هو الباقي الحقيقي الذي لا تغيّره الأيام ويتحدى قسوة الزمن ؟!
بل ما هذا الملل الطارئ الغريب الذي ينتابني : شئ كما الإحباط والاكتئاب القاتل :لا يعجبني أيّ أمر،وليس في ذهني أيّ هدف ! تركني عبد القادر غير آسفة عليه،وأفدتُ منه مالا وهدايا كثيرة،وعدتُ سريعا إلى معتاد حياتي إنما دونما بهجة ! بل أشعر أنني مللتُ مللي ، ويئستُ من يأسي ! وفي لحظة خَوَر عزيمة ،أو صحوها ! صرختُ:- أريد أن أتغير! أتغيرفعليا! لا أريد صورتي التي اعتدتُ عليها ! أريد أن محو ماضي ناريمان واسم ناريمان وسلوك ناريمان ! أريد أن أكون مثل كل الناس البسطاء الطيبين !
وتركتُ بنزق غرفتي ،ونزلتُ إلى العم أبي محجوب بوّاب العمارة :- مساء الخير عم أبو محجوب !
:- أهلا ابنتي ! هل تريدين شيئا ؟!
:- نعم ! أريدك أنت !
:- أنا في الخدمة !
وأغلقتُ باب غرفته ورائي ، وسحبتُ كرسيا متهالكا وجلستُ عليه، فرفع حاجبيه باستغراب :- حالكِ لا يطمئني ! ما بكِ ست ناريمان ؟!
:- لا أعرف ! أكاد أختنق ! ومرارا حاولتُ الانتحار !
:- سلامتك ! سلامتك ! هذا كله من المشروب الزفت والسهر المتواصل! :- أريدكَ أن تنقذني ! أنا سأنفجر عم أبا محجوب ! أرجوك أفعل أيّ شئ وخلّصني مما أنا فيه !
:- استهدي بالله ! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! سأعدّ كوبا من الشاي أولا ثم نأخذ راحتنا في الكلام !
ولا أعرف في الحقيقة لماذا اخترت العم أبا محجوب! لكني كنتُ أعرف أنني أرتاح إلى صدق طيبته !
:- بصراحة ، حلّ مشكلتك ليست عندي ! تعالي معي نذهب إلى الشيخ مجدي فعنده الدواء الشافي المعافي !
:- الشيخ مجدي ؟! عمي أبو محجوب ! ما دخل الشيخ في مشكلتي ؟!
:- تعالي ! تعالي معي دون نقاش ! الشيخ مجدي وحده من سيفهم عليك !
هيا ! تعالي معي ! ( ونهض بثقة ، لكنه توقف فجأة وكأنه تذكر شيئا ) آنسةناريمان ! سنستبدل ملابسك بثياب أخرى أكثر حشمة ثم نذهب إلى الشيخ!
** ** **
3
:- ما تفعلينه ليس سهلا ! أنت تصنعين ثورة بكل كامل الكلمة ! نعم ! ثورة حقيقية ! ( ثم وهو يرفع عينيه نحوي، فأكتشف أن عينيه خضراوتان وواسعتان ، كأنهما صيغتا من سحر جمال بديع!) لكن هل قدّرتِ عواقب فعلك ؟!
أنتِ اعتدتِ مطلق الراحة والرفاهية والبذخ والإسراف بلا حدود ! والتغيير الذي تطلبينه يعني أنك ستتركين كل ذلك خلف ظهرك،وترضين بحياة فيها تعب وكدح وتخلّ عن مباهج ألفتِها وصارت جزءا من أنفاسك! أنت ِيا بنتي تطلبين التطهير! والتطهير انتزاع عادة وزرْع عادة ! وثقي أن الله سيكون معك حانيا ، كريما . وسعتْ رحمته السماوات والأرض ، فهو قريب من الصادقين التائبين! لكنك حتما ستتعذبين ! نعم ! فترْك العادة ليس سهلا ، لكنه ليس مستحيلا ! والبداية أن تستبدلي المحيطَ الذي تعيشين فيه بمحيط أكثر رحابة وصدقا وخيرا ! محيط يذكّرك ولا ينسّيك ! يقوي عزمك ولا يوهنك، يشد أزرك ويعضده ! يكون بحق جمع خير وود ورحمة وتآلف ونور وبركة !
وودعتُه دامعة العين ، قوية الإرادة . وحاولتُ جاهدة أن أقبّل يده ،فرفض! وفي طريق عودتي اشتريتُ ملابس لم أعتد عليها ، وما فكرتُ بارتدائها يوما ! ولما دخلتُ إلى غرفتي هانئة البال ،فتحتُ خزانتي وأخرجتُ كامل ملابسي بحبور كبير واستبدلتُها بما اشتريتُه ، وسرور العالم يغمرني باطمئنان غريب !
** ** **
4
لم تمر حياتي كما كنتُ أحب ! ويبدو أن خطأ الماضي لعنة ستظل تلاحقني حثيثا دون انتهاء ! فأنا حقا تركتُ حياة الماضي دون أدنى أسف ، لكنني ظللتُ بأعين الناس ناريمان القديمة ! يحذر الكثيرون من مخالطتي أو مشاركتي في أموري ! ويرفضون الاقتراب مني ،لأنني بزعمهم أنني ربما أعود إلى ما كنتُ عليه في سابق عهدي البغيض!
وقد تألمتُ من ذلك كثيرا،ومرارا سوّلتْ لي نفسي العودة إلى بيتي، الذي استبدلته ببيت عجوز قريبة لأمي ، لكنني قلتُ بعزم:- حديث الناس لا ينتهي ! يكفيني أنني أخطو بثقة واطمئنان في اكتساب رضا الله ،والتقرّب إليه بمزيد الطاعات !
نعم ،الناس ،كل الناس ،لم يَدَعُوني وشأني ، لمزاً أوتصريحاَ ! ولم أرتح من ذلك حتى توظفتُ مدرّسة في روضة أطفال خارج مدينتي! لا يعرفني أحد ولا أعرف أحداً ! فأحببت أجواء( النبك ) عروس القلمون على شدة برودتها،وألفتُ أهلها وأجدتُ غريب لكنتهم ! كما أحببتُ وظيفة التدريس وأخلصتُ لها ! وكأني وجدتُ نفسي في بهيج عوالم الأطفال وعوالم أهل (النبك) ،البلدة الوادعة الذكية ! واليوم ،جاءني شاب في قمة التهذيب ، يطلب الاقتران بي،فخفتُ كثيراً ، وتشوشت أكثر! فهل أصارحه بماضي حياتي ؟! بل هل يقبل أن يتزوج بتائبة من ماض أغبر ، أسماها بعضُهم :خائنة البُعُولة ؟! وإذا رضي هو ،هل يرضى بي أهله وناسه ؟!
كم هو مرّ الاختيار ، وكم هو صعب أن تكون حياتي قائمة على كذبة ! صعب أن يقبل بي إذا أخبرته عن فوات حياتي ،وصعب عليّ أن أكذب عليه ! وكما يبدو .. سأبقي لعنة تمشي على قدمين !