وأنا أعبر الشارع ، وجدت قطعة من جريدة ممزقة تعبث بها الرياح ، تناولتها من على قارعة الطريق، وارتأيت مشاركة من يود الإطلاع على محتواها، ربما يكون له رأي آخر:
رازا
كانت البنت الصغيرة الخضراء تطل من الشرفة وتنشر حكاياتها على جبال الريح .
البنت الصغيرة الخضراء اسمها رجاء. لكن موظف الحالة المدنية الثخين-هي تتخيله ثخينا- كتب اسمها هكذا: رجا..بدون همزة غياب الهمزة عن آخر الإسم زرع في نفس الصغيرة إحساسا مزمنا بالنقص.لكنهم في البيت عوضوها خيرا. فأمها تناديها :
حتى فتيان الحارة الذين بدأت أصواتهم تخشوشن أصبحوا يتوددون إليها بشعارهم الأخضر: "ديما ديما راجا"
المشكل الوحيد الآن هي الجدة. جدتها رقية التي تقضي سحائب أيامها الكسولة في السطح . تظل منشورة تحت الشمس، وحينما تعطش تبدأ في الصياح : رازا..أرازا ، جيبي لي شريبة !
منذ سنوات ورجاء تسمع هذه الجملة المملة . نفس الرتابة . نفس اللحن . نفس العطش. نفس "الزاي" الطارئ على اسمها..
_ إسمعي جدتي . إسمي رجاء.. رجا.. وليس رازا
رجاء تنتظر بفارغ الصبر موت جدتها رقية ليلتئم الجرح المدسوس وسط اسمها.ولأنها ملت سماع نفس الموال العطشان الذي يباغثها وهي تلعب. وهي تشاهد التلفاز . وهي تراجع دروسها. وهي.. في المرحاض.
في الأفلام يشع النور من وجوه الجدات. جدات الأفلام رائعات وحنونات. ودائما لديهن هدايا صغيرة وجميلة تدخل البهجة في قلوب الأطفال.
وفي القصص الجدات جرار حكايات . . لا ينمن إلا بعد أن يرسلن الحفدة إلى حدائق الجنة ليلعبوا مع الأمراء والحوريات ويطاردوا فراش الغابات الزرقاء.
أما أنت يا جدتي فالنهار وما طال وأنت منشورة في الشمس ككوزة الدرة. وكل ما تجدينه هو هذا الموال المقرف الذي يطن حوله الذباب وتفوح منه رائحة جفاف قديم .
رجاء اليوم لم تعد صغيرة . على الأقل ليست تلك الطفلة الخضراء ذات التنورة "البيج " القصيرة والظفيرتين المرحتين. لقد بدأت تكبر. هي الآن في الخامسة عشرة. وكأي بنت في الخامسة عشرة فإن لها أسرارها الصغيرة التي لا تريد أن تبوح بها لأحد . أسرار عن جسدها الصغير الذي بدأ يكبر . أسرار عن أصدقاء المدرسة ..عن خالد الذي يتودد لها بألواح الشكولاطة .. وعن سعيد الذي سحرها بعينيه .. عن أستاذ الفرنسية الذي مذ ربت على كتفها مرة وهي تحلم بيديه فقط. بالشعر الأسود الخفيف الذي يغلف يديه .
رجاء الآن لم تعد صغيرة . أصبحت لها هي الأخرى أسرارها البيضاء . وأحلامها التي بألوان الطيف . لذا حينما تدخل غرفة الضيوف وتفتح الشرفة فلكي تنشر حكايتها وأسرارها الصغيرة على حبال الريح .
لكن لا أحد يحترم رغبتها في الخلو إلى نفسها .. حاجة بنت في سنها إلى العزلة . فقط إلى قليل من العزلة . فأمها دائما تناديها من المطبخ : راجا .. أ.. راجا وجدتها تصرخ في السطح : رازا .. أ .. رازا . حتى الأطفال الذين بدأوا يكبرون يرفعون أعينهم إلى الشرفة وهم يتصايحون " ديما ديما راجا" .
ورجاء لا تريد من العالم سوى أن يصمت . أن ينسى اسمها قليلا ويدعها وشأنها لتسرح ولو للحظة في عيني سعيد .. وشكولاطة خالد .. وفي الزغب الذي على اليدين.
بقلم/ عدنان ياسين/ جريدة الأحداث المغربية/
عدد/2817/ بتاريخ/ 18 أكتوبر 2006