[gdwl]سِـفرُالتـّكوين السّوري[/gdwl]
[frame="10 75"]وبعد سنوات أهديها:
إلى روح السوري الحبيب باسل علي يوسف
في البَدءِ فاضتْ عـَبرةٌ مَحزونة ٌ
من عين (بـَعلٍ) يـَشتكي قـِفـْـرَ المـَكانْ
يَـبغي أنيسًا عندهُ.... بسمائهِ
لتـَضجَّ بالسُّمارِ هاتيكَ الجـِنانْ
لكنـَّها سالتْ إلى الأرض الدُّنى
قـَبعتْ بكهفٍ عـُمقهُ عُـمقُ الزَّمانْ
رحمٌ يـُلقــَّح ُبالدّموع وفـَيضِها..!
عن بيضةٍ كاللؤلؤ ِالمَنظومِ في جِـيدِ الحِسانْ
فـَقسَتْ.. فقام جـَنينـُها السّوريُ في
..التـَّاريخِ والعَهدين والأسفارِ..
لـيُـمجـِّدَ السّوريُ هـَيبةَ نـَفسهِ
وبقولهِ: ...أنثى تـَكوني..
..ربَّما قالت : تـَكـُنْ ذكـري فـَكانْ
واستـَحسنوا الخـَلقَ الفريدَ وصَنعة ً
وبنشوة ٍيَستـَعـْذبانْ..!
أبأي آلائي.. وحرفيَ تـَكـْذِبانْ..؟
في ومضةِ الإشراقِ قـَامتْ..
..تـَرقـُصُ الإبداعَ في طـقسِ الهـُيامْ
تـُغري أنوثـَتـُها صَبابةَ زوجِها
لمّـا طـَغى أوجُ الغـَرام ْ
في حَـمأةِ الصَلصالِ تـَشوي طـينـَهُ
بالنـَّشوةِ الكـُبرى يُعانـِدها الكلامْ
..إلى رُقـُم ٍ يُسمّرها..
بتلكَ الضَّربةِ الأولى يـُؤبـجـِدها..
..فكان الفـَتـْقُ بعدَ الرَّتـقِ في شَهقاتِهمْ
وتـَفجرتْ كلماتُ بـَدءٍ وارفٍ في ظلـِّها يـَتعانقانْ
ليمجـِّدَ السُّوريُ مَـولد ََحـَرفـِه
أبأي آلائي وحَـرفيَ تـَكـْـذِبانْ *.؟
* خطاب المُـثنى لعالم الإنس بالغرب والشرق
[/frame]
[frame="13 98"]
قراءة في قصيدة (سفر التكوين السوري)...
للشاعر حسن إبراهيم سمعون
د. وحيد عجوز
[align=justify]
مع وافر احترامي لمن أهدى الشاعرُ قصيدتَه هذه إلى روحه، ودون أي غضِّ من مكانة المُهداة إليه، خصوصاً وأنني أظنه شهيداً، لديَّ بعض ملاحظات على النص الشعري الذي تضمنته هذه القصيدة، وأرجو أن يتسع لهذه الملاحظات صدر مؤلفها.. الشاعر حسن.. كما اتسع صدري لقراءتها..
ولكن قبل أن أذكر ملاحظاتي، أود الإشارة إلى انني لستُ شاعراً، ولكنني مجرد قارئ يتذوق الشعر ويحبه.. وعلى هذا، أعتقد أن لي بعض الحق في إبداء رأيي بما أقرأ من قصائد، حتى ولو كنتُ مجرد قارئ.. كما أعتقد أن شاعراً بقامة الأستاذ حسن إبراهيم سمعون، لابد أن يكون رحب الصدر يتسع حلمه لأمثالي من المتطفلين الذين دعوا أنفسهم بأنفسهم إلى مائدة الشعر العظيمة..
القصيدة بعنوان (سفر التكوين السوري).. وأعترف أن عنوانها فاجأني بقوة، بل ربما الأصح أن أقول: صَدَمَني، فكانت نتيجة الصدمة تفجير طاقة هائلة من الفضول في نفسـي لقراءة ما تحت ذلك العنوان الغريب.. ذلك أنني، وحسب معلوماتي المتواضعة، أعرف أن سفر التكوين هو عنوان أول أسفار التوراة.. أي بداية الكتاب المقدس لأعدائنا.. وإذا كان كذلك، فلماذا نستعير منهم ونحن لدينا ما هو أفضل بكثير؟
قلت لنفسـي: لا تقف عند العنوان، فصحيح أن (الكتاب يُقرَأُ من عنوانه) كما يقول المثل، ولكن تبقى للشعر خصوصيته التي يتجاوز بها كل الممنوعات كي يتمكن من مفاجأة قارئه.. وهكذا، وبحسن نية، تجاوزتُ العنوان، رغم غضبي منه، وبدأت قراءة القصيدة.. فماذا وجدت؟
كما فاجأني الشاعر بعنوانه، فاجأني بأسلوب المقطع الأول من قصيدته، إذ حاول نسجه مستعيناً بالأسلوب التوراتي تارة، وبالإشارات المسيحية والأسطورية تارة أخرى، ثم بالأسلوب القرآني الذي حاول التأسِّي به في صياغة خاتمة هذا المقطع والذي يليه، لتأتي الخاتمتان مُتَشَبِهَتَين بأسلوب سورة الرحمن الرائعة، فماذا كانت النتيجة؟
في الواقع، كانت نتيجة مؤلمة وفادحة.. فالخالق هنا هو (بعل).. قلت لنفسي: لا بأس.. ربما يكون الشاعر اختاره لرمزيته. لكن ما إن مضيت قُدماً في القراءة، حتى نَرفَزتُ من محاولة الشاعر نسج أساس قصيدته بخيوط فكرة مكرورة وهي عزلة الآلهة في الأساطير القديمة، ثم الزعم بأن هذه العزلة كانت سبب تفكير تلك الآلهة بخلق الإنسان، لا ليحمل رسالة إبداعية عظيمة كما نصَّت كل الكتب السماوية، بل ليُؤنسوا وحدتهم بتعذيبه والتسلي به، كما تشير الأساطير اليونانية القديمة.. وهو ما يجعل خَلْق هذا المخلوق العظيم مجرد عبثٍ وُلِد من وُحشة آلهة تريد الخروج من صقيع وحدتها!
لكن إله الشاعر لم يكون وحيداً ضَجِراً بوحدته فحسب، وهذه هي المفاجأة الثالثة في القصيدة، بل كان على درجة كبيرة من الإهمال، بدليل أنه ترك دمعته التي سيخرج منها الإنسان الأول فيما بعد، تسقط رغماً عنه في كهف! وهو ما يعني أن هذا الإله لم يكن مهملاً فحسب، بل كان عاجزاً عن التحكم بما يفعل أيضاً، وضعيفَ الإرادة والقدرة على التركيز إلى درجة يُرثى لها.. ولهذا، ولولا الصدفة فقط ــ والصدفة بالمناسبة دليلٌ ضعف في النسج الأدبي ــ لما تمَّ لهذا الإله المسكين ما أراد، أي لما كان نجح في خلق الإنسان الذي أراد خَلْقَه ليُسلي به وحدته! إذ ماذا لو أن تلك الدمعة التي ذرفها قد سقطت في غير ذلك الكهف، أو في بحيرة أو بحر مثلاً يا لطيف...؟
حسناً.. ربما كانت هذه مجرد هفوة غير مقصودة من الشاعر، وربما ليست هفوة بل إشارة لتوجيه انتباه قارئ القصيدة إلى أن مؤلفها قد قرر اجتراح المعجزة بدلاً من إلهه، والإثباتَ لقرائه أنه يملك قدرات تفوق قدرة ذلك الإله، بدليل أنه، أي الشاعر، هو من قام بتوجيه دمعة ذلك الإله المهمِل لتسقط في ذلك الكهف بالذات، كي تبدأ عملية الخلق، ولو لم يفعل ذلك لكانت مُسِحَت البشرية من أساسها في القصيدة، وهذا غير معقول.. الأمر الذي يُسجَّل لشاعرنا بحق، فقد أنقذ البشـرية كلها من الزوال، بانتباهته هذه، جزاه إلهه خيراً.. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه، يُسجَّل لشاعرنا أيضاً، ولكن على الصعيد الفني، ابتكاره لأسلوب جديد في (قرض الشعر)، ربما يجوز وصفه بفن (اللامعقول في المعقول المُعَقْلِن للهذيان).. وهو أسلوب ستتضح ملامحه أكثر في باقي القصيدة.
فمن آيات ذلك الأسلوب، على صعيد الإدهاش المضموني الآن، أن ذلك الإله لم يكن هو الذي صنع مخلوقه العظيم بيديه، كما نصت الكتب المقدسة، بل صنعته الصدفة، مرة أخرى.. ذلك أن الكهف الذي أنزل فيه الشاعر دمعة إلهه العاجز، كان شبيهاً برحم المرأة! تصوروا!.. أي كان شبيهاً بعضوٍ في كائن لم يخلقه ذلك الإله بعد.. فأي مفاجأة هذه؟!..
وتشاء الصدفة للمرة الثالثة، أن يكون هذا الكهف، وبقدرة الشاعر لا بقدرة إلهه المسكين العاجز، رحماً من نوع خاص، لأن التلقيح في هذه الرحم يتم بالدموع فقط، في إشارة من الشاعر إلى أن السائل المنوي لم يكن قد خُلق بعد، الأمر الذي يؤكد قدرته على الجمع بين الواقعية والسريالية في سطر شعري واحد!.. وهو ما لم يسبقه إليه أي شاعر قط..
أما المفاجأة الأقسى والأهم فكانت أن هذه الدموع التي لقَّحت كهف الشاعر، والمقصود بها الرحم التي خرج منها الإنسان الأول، في نظره، قد تمخضت في النهاية عن بيضة!..
بيضة؟!! يا إلهي... لماذا لم يقل لنا الشاعر كم كان حجمها.. هل كانت بحجم الكهف الذي كان رحماً لها.. ربما، وربما أكبر أو أصغر.. لكن لماذا هي بيضة؟ أليس عجيباً أن يخرج الإنسان من بيضة؟ بلى، فحسب علمي الضئيل في الأحياء، هناك حقيقة لمستها في أولادي وأحفادي، وهي أن المرأة لا تبيض، لأن الإنسان، كما أعرف، كائنٌ ثديي، أي يتكاثر بالتوالد لا بالبيض، كما هي حال الطيور، فلماذا أخرج الشاعر الإنسان الأول من بيضة، ألكي يُفاجئنا مثلاً؟ ربما من أجل المفاجأة باضَ في قصيدته تلك البيضة التي لا تنزل بميزان ولا قبان.. وللعلم، لم تكن هذه البيضة بيضة الديك، أي بيضة وحيدة، فقد باض غيرها وأكبر منها في باقي قصيدته..
ومن عجيب ما باضه شاعرنا، أطال الله عمره، تشبيه بيضته الأولى التي جعل الإنسان الأول يخرج منها بـ (اللؤلؤ المنظوم في جيد الحسان)، وهو تشبيه يثير الاستغراب من عدة نواحٍ:
فمن الناحية البلاغية والمنطقية، في آن، يُصاب القارئ بالحيرة من تشبيه المفرد، وهو البيضة هنا، بالجمع، وهو اللؤلؤ، بدلاً من تشبيهها بمفرد مثلها، فلماذا يا تُرى؟ هل قَصَدَ الشاعر إثبات قدرته على اختراق قواعد النحو والبلاغة والمنطق، كما اخترق بديهيات علم الأحياء حين أخرج الإنسان الأول من بيضة؟ ربما، وإذا كان هذا قصده فقد نجح، واستحق بنجاحه صفة الشاعر الخارق للقواعد..
ومن الناحية الجمالية، أي جمال في أن تضع الحسان عقداً من بيض الشاعر على أعناقها؟ بصـراحة لم أفهم، ولم أستسغْ هذا النوع من العقود.. كما لم أفهم أن تفقس تلك البيوض ليخرج منها جنين.. فحسب علمي المتواضع جداً في عالم الأحياء، أن ما يخرج من البيضة يُسمى صوصاً أو فرخاً، لكن الشاعر أراد أن يفاجئنا مرة أخرى، فجعله جنيناً.. ربما ليخبرنا كيف تم التحوُّل الأول في الخلق من الصوص إلى الجنين، خصوصاً وأن النساء من عهد أمنا حواء يَلِدْنَ أجنة لا صيصاناً..
ومن الناحية المنطقية الواقعية، لابد من إيجاد تفسير للمعضلة التي يثيرها خروج جنين واحد من عدة بيضات، وليس عدة أجنة.. فبيضة الشاعر تشبه اللؤلؤ المنظوم في جيد الحسان، مما يشي أن المُشَبَّه به عقدٌ من اللؤلؤ، وليس لؤلؤة واحدة، وبالتالي، فقد كان على الشاعر، منطقياً، أن يُخرِج لنا من كل لؤلؤة جنيناً، لكنه آثر مفاجأتنا بلا معقوله، وأخرجَ لنا جنيناً واحداً فقط من عقد يضم لؤلؤات عديدة.. ألا ما أغرب هذه الغرابة! وما أغرب هذا الجمال!.
ونمضي مع شاعرنا المُفاجِئ في مجاهِل قصته غير المسبوقة، عن أحداث بدء الخليقة، لنكتشف أن الجنين الأول الذي خرج من بيضة الشاعر لم يكن نكرة، بل كان، ومنذ اللحظة الأولى التي فقست عنه تلك البيضة، يحمل جنسية، مع أن ظاهرة الجنسية أمرٌ لم يعرفه الإنسان إلا بعد دهور طويلة..
إنه جنين سوري.. يا لله.. وبهذا يكون الشاعر قد أفادنا بمعلومة غير مسبوق إليها أيضاً، وهي أن السوريين هم أول الخلق.. وحسب هذه المعلومة، وباتباع مبدأ القياس الأرسطي، صار بإمكاننا تحديد جنسية آدم نفسه.. فإذا كان آدم هو أول مخلوق بشري، حسبما جاء في سائر قصص الخلق المعروفة، وإذا كان أول إنسان خرج من بيضة الشاعر كان سورياً، فهذا يعني في النتيجة أن آدم كان سوريَ الجنسية!
ولأن الشاعر، وبنيَّة طيبة، أراد أن يخبرنا أن جميع الديانات واحدة، لا فرق بين يهودية ومسيحية وإسلام، جعل رأسَ قصيدته يهوديَ الملامح باختيار (سفر التكوين) عنواناً لها، وجعل المخلوق الأول في قصة الخلق العجيبة الخاصة به مسيحياً، وللدلالة على مسيحيَّته جعل قيامه من البيضة يتمُّ في (فصْحٍ).. ولكن لم يكن أي فصح، بل كان فصحاً خاصاً أيضاً، إنه (فصح البيان): (فقام جنينها السوري في فصح البيان).. ومع أنني لا أدرك ما المقصود بالبيان هنا، وما دخل البيان في قصة الخلق العجيبة هذه، إذا بي أُفاجَأُ مرة أخرى بأن هذا المخلوق الذي قام في (فصح البيان)، قد (قام قبل الدهور ودورة التاريخ).. أما ثالثة الأثافي، أنه قد (قام في كون الكيان)، قبل العهدين والأسفار! والمقصود بالعهدين هنا: التوراة والإنجيل، أما الأسفار، فهي أسفار موسى الخمسة. ومع أن هذا الكم من الرموز يستوجب إشارات تُوضِح المقصود بها، إلا أن شاعرنا آثر الغموض كعادته، فلم يُخبرنا، على الأقل، ما الذي قصده بالكيان.. أهو الكيان الإنساني أم الكيان الصهيوني؟ فإن كان قد قصد الكيان الإنساني، فقصده صحيح، لأن الإنسان كان واحداً في تلك المرحلة، ولم يصبح أمماً كثيرة يحتاج كل واحد منها إلى كيان يُعرَف به، وأما إذا كان قد قصدَ الكيان الصهيوني، فأين الرمز في هذا القصد، والحقائق والبديهيات كلها تؤكد أن ظهور الإنسان الأول سابق لظهور أي كيان بشري، بدهور طويلة ودهور، بما في ذلك الكيان الصهيوني؟ وهنا، ثمة سؤال يطرح نفسه: إذن لماذا أدرج الشاعر كلمة (كيان) في هذا الموضع؟ أهي ضرورة القافية؟ بالتأكيد لا، فالقصيدة حديثة. أم لعله أراد إكساب قصيدته بُعداً سياسياً، يمنحها حق الانتساب إلى ذلك الكم الكبير من القصائد التي تتحدث عن فلسطين والصـراع العربي/ الصهيوني؟ والله لا أدري، ولم أستطع الاهتداء إلى إجابة مقنعة، ولذلك بَقيَ المعنى في قلب الشاعر، فاسألوه..
وبعد، فلماذا كثرة الكلام في التخمينات؟ دعوا ما لم تفهموه، وتعالوا إلى ما هو واضح، وغريب رغم وضوحه.. من ذلك مثلاً، أن ذلك المخلوق الذي خلقه إله الشاعر ليُسلِّي به وحدته، لم يُحقق الغرض الذي من أجله خُلِق.. إذ بدلاً من قيامه بتسلية خالقه، يعزف عنه بعيداً، ويغرق في تمجيد نفسه! يا للهول.. إنها والله ضربة قاصمة يُوجهها الشاعر لذلك الإله، بجعل مخلوقه يتنكر له ويتمرد عليه، فورَ فَقَسانِ بيضة الشاعر عنه!
مفاجأة أخرى، هي التذكير والتأنيث في وصف المخلوق الأول، وبطريقة يصعب على قارئ القصيدة أن يهتدي إلى أن الحديث لم يعد عن مخلوق واحد بل عن اثنين.. هذا فضلاً عن تحييد لدور الإله العاجز في مسألة خلق الأنثى، تماماً كما تمَّ تحييده عن خلق الذكر، حيث اقتصر دوره على إنزال تلك الدمعة التي تولى الشاعر توجيهها إلى الكهف/الرحم، لتتحول إلى بيضة عجيبة تفقس ليخرج منها الإنسان الأول.. ومن اللافت في هذا الموقع أن الشاعر لم يُخبرنا كيف خرجت الأنثى ومتى، كما لم يخبرنا من أين خرجت، أَمِنْ ضلع المخلوق الذكر أم من مكان آخر في جسده.. لأن الشاعر، وحرصاً على موضوعية قصته، أَقرَّ بأنه لا يعرف من أين خرجت تحديداً، ولكي لا يقال عنه أنه يهرف بما لا يعرف، ساق لنا كلَّ الاحتمالات.. فمن المحتمل أنها خرجت من ضلع المخلوق الذكر، ومن المحتمل أنها خرجت من صدره أو ظهره، وربما من أمكنة أخرى، لا نعلمها..
وبمفاجأة لا تقل عن سابقاتها إدهاشاً، نلاحظ أن هذه الأنثى الحديثة الخروج، تمتلك قدرات تفوق قدرات إله الشاعر، تماماً كالذكر الذي خرجت من ضلعه أو صدره أو ظهره.. ومن أهم قدراتها الخارقة أنها تستطيع ممارسة الخلق كذكرها، بدليل تبادلها وإياه توجيه باقي أوامر الخلق، كل واحد منهما للآخر، تارِكَين إله الشاعر في وحدته يندب حظه بهذا المخلوق الذي طَنَّش إلهه فور خروجه من بيضة الشاعر، فخلق أنثاه بنفسه، ثم أعطاها قدرة مساوية لقدرته..
وهنا ربما يجب أن يشكر النساءُ للشاعر لفتته اللطيفة تجاههن، بجعل أنثى المخلوق الأول متساوية القدرات مع ذكرها، إشعاراً منه لهن بأنه من مؤيدي المساواة بين الرجل والمرأة، وبمدِّ تاريخ هذه المساواة إلى فجر الخليقة.. ألا ما أروع هذا الموقف الرجَّالي من النسوان!
إذاً، وصلنا إلى كيفية تنطيش المخلوقين الأولَين لإله الشاعر، وقيامهما بتوجيه أوامر الخلق الباقية إلى نفسيهما.. فها هو الذكر يستعير لغة الأمر الإلهية التوراتية قائلاً لأنثاه: (أنثى تكوني)، فتجيبه بنفس اللهجة (تكن ذكري فكان).. والإله يا جماعة الخير أين ذهب، ولماذا استُبعد من عملية الخلق إلى هذه الدرجة؟ ثم لماذا خلق الذكر أنثاه أصلاً، ألكي يتسلى معها بدلاً من أن يُسلِّي وحدة إله الشاعر.. هذا الإله الذي تركه الشاعر ومخلوق البيضة وحيداً، مما يحمل على الظن أنه مخلوق ناكر للجميل، وكيف لا، وقد تنكَّر، أول ما تنكَّر، لمن خلقه أصلاً.. لذا، وإذا كان هذا المخلوق على هذا النحو من نكران الجميل، فإنني أرجو الشاعر ألا يصفه بالسوري، لأنني حسبما أنا متأكد لا يوجد مخلوق في العالم يُقدر الجميل ويعترف به كالسوري..
ونتابع مع الشاعر، فنراه يقتبس مرة أخرى، من أسلوب التوراة صياغَتَه لأبيات قصيدته، فيقول: (واستحسنوا الخلق الفريد وصنعة).. وما كان ممكناً أن يكون في هذا الاقتباس غرابة، لولا استخدام الشاعر صيغة الجمع في (واستحسنوا)، مع أن اللذين قاما بعملية الخلق اثنان فقط، الأمر الذي يُجب عليه نحوياً أن يقول (واستحسنا)، فلماذا عَدَلَ عن التثنية الواجبة إلى الجمع الخطأ؟ أيكون قد أراد أن يجمع الإله إليهما؟ ربما.. وإن كنت لا أظن ذلك، لاعتقادي أنهما كمخلوقَين ناكرَين للجميل يرفضان ضمَّ إله الشاعر إليهما، وأعتقد أن هذا الإله كان سيرفض، بدوره، الانضمام إليهما، بعدما طَنَّشَاه، إلا إذا كان أبلهاً.. ثم ما المقصود بكلمة (وصنعة)، أيكون في الكلمة خطأ مطبعي مثلاً، وأن قصد الشاعر كان (وصُنْعَه)؟ سأنطلق من حسن النية وأقول: ربما كان الأمر مجرد خطأ مطبعي...
أخيراً، وبعد أن وصلت قصة الخلق الخاصة بالشاعر إلى هذه الدرجة من "الروعة"، إذا به يريد ترويع قارئ قصيدته أكثر، فيقرر تقليد أسلوب القرآن الكريم في سورة (الرحمن)، فيختم المقطع الأول من قصيدته بهذه الأسطر المُرَوِّعَة:
(وبنشوة يستعذبان...
ليمجد السوري هيبة نفسه
أبأي آلائي... وحرفي تكذبان؟)..
يا الله ما "أروع" هذا البيان وأفظعه.. لقد رحت أقفز من طربي به، مرتفعاً في المكان ومتمدداً في الزمان، حتى انتبه لما حدث معي الوالدان، وتوقف عن صخبهم في الشارع الوُلدان، فهتف بعضهم بي مستهزئاً (رجلٌ مجنون) وقال آخرون (خَرفان).
ما هذا يا صاحبي؟ وأي نشوة يستعذبها مخلوقاك اللئيمان هذان، أهي نشوة نكران الجميل أم نشوة الخروج من بيضة؟ ثم لماذا يمجد أولهما، وهو الذكر، نفسه، ألأنه المخلوق الأول، أم لأنه ناكر للجميل؟
أياً كان سبب نشوة هذين المخلوقَين، فإن أحداً لا يستطيع إخفاء سخفهما الذي "برَعَتَ" يا سيدي في رسم أفقه الجنسـي، عبر المقطع الثاني من قصيدتك.. ولهذا، أوافقكَ الرأي بأن أحداً، مهما بلغت قدرته على هضم ما لا يُهضَم، أن يُكِّذب بآلائك وحرفك، في اجتراحك معجزة خلق هذين المسخين اللذين يبدوان حقاً، ودون لف أو دوران، آيتان على نكران الإنسان جميلَ خالقه الرحمن، وهو نكرانٌ يصيب من يعاينه بالهذيان، ويزيد في هذيانه قولك بخروج الإنسان الأول من بيضة، ثم قيامه بخلق أنثاه فور انتهاء بيضته من الفَقَسَان، ألا ساء ما أتيتَ به يا شاعري، من تهافتٍ يُرثى له، ويبكي من خَطْلِه الثقلان....
ومادام المقطع الثاني من هذه القصيدة المؤلفة من مقطعين فقط، لا يختلف عن مقطعها الأول، مضموناً وفناً، أرى أن أكتفي بما كتبته عن أولهما، عازفاً عن الخوض في الثاني، لشعوري بعدم القدرة على هضم ما ورد فيه.. ومن لا يُصدقني، أو يظن أني أُبالغ، أو أفتري، فليقرأ ذلك المقطع، وقد أوردتُه في نهاية هذه الدراسة النقدية..
نصُّ المقطع الثاني من القصيدة
في ومضة الإشراق قامت
ترقص الإبداع في طقس الهيام
إنسانة خلاقة
تغري أنوثتها صبابة زوجها
لما طغى أوج الغرام
فتأوهت
في حمأة الصلصال تشوي طينه
بالنشوة الكبرى يعاندها الكلام
فمضى بنشوته إلى رقم يسمرها
بتلك الضربة الأولى يؤبجدها
فكان الفتق بعد الرتق في شهقاتهم
وتفجرت كلمات بدء وارف في ظله يتعانقان
ليمجد السوري مولد حرفه
متألهاً
أبأي آلائي وحرفي تكذبان؟
خطاب المثنى لعالم الانس بالغرب والشرق
[/align][/frame]