14 / 06 / 2013, 58 : 12 AM
|
رقم المشاركة : [1]
|
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
|
حبيبي أصولي - قصة للدكتور منذر أبو شعر - في الميزان على بساط النقد
[align=justify]
[frame="1 98"] أقدم لكم هنا قصة الأديب الدكتور منذر أبو شعر: (( حبيبي أصولي )) في ميزان النقد ، وهي تتناول ذلك الشرخ الاجتماعي الذي بدأ يظهر عميقاً في مجتمعنا العربي المسلم العقيدة خاصة وفي المجتمعات الإسلامية عامة، بين فئة تأثرت بالثقافة الغربية وحضارتها وعاداتها الانفتاحية وبين ما ظهر كرد فعل مضاد لهذا التغريب في فئة تقوقعت تمسكاً بالقيم الإسلامية إلى حد التمسك الأصولي المتشدد وانعزلت تماماً عن المجتمع وكونت ما يشبه الغيتو الخاص بها...
في هذه القصة يحاول الأديب الدكتور منذر أبو شعر علاج هذه الهوة الشاسعة التي عزلت كل طرف منهما عن الآخر، ويبحث من خلال سرده عن آلية لبناء جسر بين الطرفين النقيضين وإيجاد صيغة تجمع بينهما وتكسر هذا الحاجز، وليترك لنا الكثير من الأسئلة التي تحتاج إجابات والنهاية المفتوحة على الفراق الذي لا يدرك كل طرف إلى متى سيمتد وإن يكن بالإمكان أن يلتقيا أم أن المرارة واليأس من لقاء كل طرف بالآخر سيزداد أكثر مع الأيام؟؟!
أترككم مع قراءة لهذه القصة راجية أن نجد في دراستها شيئاً مما نبحث عنه ولنثير نقاشاً حياً
بانتظاركم
دمتم وسلمتم[/frame]
[frame="2 10"]
1
وقتما دخل إلى قاعة المحاضرات لأول مرة ، كنتُ غارقة مع صاحباتي في حديث عابر ،فقالتْ لي إحداهن وهي تغمز بعينها :- انظروا إلى وسامته ،وطوله الفارع !
:- لكن يبدو أنه أصولي ! رأسه دائما في الأرض لاينظر إلى أحد ، وقليل الكلام !
فقلتُ وأنا أعبث بشعري الثائر:- وإذا جرجرته نحوي !
:- بالطبع أنت تمزحين ! جميع الشبان في كلية الهندسة يتمنون ظفرك !
فقلتُ بتصميم ظاهر: - لستُ أمزح ! ( معتز ) منذ زمن طويل في دماغي !
:- ألم تجدي غيره ؟!
:- وما عيبه ؟ (وبطرف مباهاة خالطتها ميوعة ) اسم الله عليه ! أناقة ووسامة وذكاء ، ومن الأوائل دائما ! ( وبعد دقيقة صمت ،تابعتُ بصوت جريء ،ونحن نتضاحك) وأيضا ملاءة مال !
:- ودينه ؟!
:- يا مسكينة ! لو صحّ ما تفكرين به ،فآخرتك فازة جميلة في بيت فخم!
:- المهم فخم !
:- لكن فازة !
لم أحر جوابا ،وتابع الجمعُ الحديثَ:- ستكونين تتمة ركن !
:- بل تتمة ديكور !
:- أنا لا أصدق ذلك يا جماعة ! (سهير قولي) مع ( معتز قباني) ! هذه دعابة !
:- أكيد دعابة سخيفة !
:- رجاء.. لا تحوّلوا المزح إلى جد !
لم أعد أحتمل هذا الهذر ،وضربتُ بيدي على مقعد قاعة المحاضرات، فوسوس جَمْع ُأساوري بصخب :- أنا أقرر ماذا أريد ، وكيف أريد ،ومتى أريد ! إنه شأني ! بل أنا أستغرب كيف تناقشون أمراً هو من خاص خاصتي ولا تأبهون لرأيي ! أنا المعنية به ! ما أدراكم ؟! ربما أحب أن أتحداه!ربما أريد اختبار قوة نفاذ سحري فيه ! بل ربما يكون هو غافي حلمي !
تعالى ثانية الهرج من حولي ،وتوالت الجلبة واختلاط الأصوات،فأحسست أن جميع من حولي فقاعات صابون تتطاير بهَوَج دون غاية ثم تنطفيء دون أثر.
:- سهير قولي ومعتز قباني !
:- يا جماعة أرجوكم جملة مفيدة لو سمحتم !
:- أين الثرى من الثريا !
:- أهل مصر يقولون : يُطْعم الحلاوة للذي ليس له أسنان ، ويعطي الحَلَق للذي ليس له أذان !
وضربَ أحدُ الزملاء بيده على صدره:- أحبيني أنا ! أنا أدفع عمري عن طواعية لهاتين الفتنتين !
:- هذا هو الجنون بعينه !
:- الأخ لا يتزوج أخته !
الضحك قاصف رَعْد دون مطر.. يتتابع بجنون ثم يهدأ خافتا ، وأنا في قمة الاستياء ،أرقب معتز من بعيد ، ويداخلني تحد غريب!
2
جاءتني فرصتي على طبق من ذهب !
سجّلتُ اسمي معه مشارِكة في المشروع الذي سنقدمه للكلية ! ورفض هو ذلك بإصرار سافر! لكني بقيتُ على موقفي بصرامة، أنْ ليس معي أحدٌ أشاركه في المشروع ، فالكل كوّن جماعتَه الخاصة به، وبقيت دون أحد ، فطبيعي أنْ ليس لي سواه !
وبجرأة قلتُ له :- لماذا رفضتَ مشاركتي معكَ في المشروع ؟!
كانت عيناه ،كما عهدتُه ،على الأرض ، وقال باقتضاب وجفاء:- لا أريد مشاركة أية زميلة !
:- هل تظنني من غيلان الأقفار؟! (ثم وانا أستثير كامنَ انفعالِه ) قل لي من أيّ عالم أنت؟ أمن سقطات عصر جدي أم إنك إحدى جهالات سِتّي !
فرفع عينيه العسليتين نحوي ، وكانتا واسعتين فيهما خبء نزق وحدة ،كأنهما لسانان ناطقان:- الأمر يتعلق بكِ ! بصراحة أنا لا أحب الأسلوب الذي تنتهجينه في حياتك ! أنتِ في واد ،وأنا في واد ! (وعاود النظر إلى الأرض) بيننا مفازة واسعة !
:- لم أفهم !
:- أسلوبكِ في الحياة لا يروقني !
فقلتُ بتحد:- وأنا لا أحب أسلوبكَ أيضا !
:- اتفقنا إذن ! فكيف تريدين مني أن أتعاون معكِ ونحن على مثل هذا الخلاف ؟!
:- لا يمنع هذا عن هذا .. سيكون حديثنا محصوراً في تفاصيل المشروع ! لن نتحدث بغير ذلك أبداً !
:- اتفقنا ! ( ثم وهو يعاود النظر إليّ بصرامة ) يا بنت الناس ، أنت لا تعرفينني جيداً ! أقسم أنني سأتخلى عن المشروع ، راضياً بالرسوب ، إن حدث بيننا ما أكرهه !
استفزّ كبريائي :- قل هذا لنفسك أيضاً ! أنت لا تعرفني أيضاً !
ومددت يدي لأصافحه فاعتذر ! فقلت في نفسي :- مهندس همجي ! ما الذي شدّني إليك ؟!
3
أحب الأناقة ،والظهور بالشكل الملفت ..لا يهمني تحرّي الاحتشام، أوالمظاهر التي اعتاد عليها أغلب الناس ! فأنا من أسرة ألفت الحرية في كل أمر،بل من أسرة تجاوزتْ كل الخطوط الحمراء التي وضعها الجهلةُ لمفاهيم الدين ودعوا إليها عادة وشكل أسلوبِ حياة ! فالدين في رأيي عمار قلب بحب الله ،والتزامٌ بالشرائع الصحيحة التي نادى بها الإنسان الأول : لا تزني ،لا تسرق ،لاتنظر إلى زوجة جارك .. وما قال أحد يوما ما :لا تبتهج ، أو انزوي في كسر بيتك !
الدين فضاءات حرية وكسر قَيْد وحضورٌ مع عظمة الخالق .
الدين في القلب ،قنّنه المتزمتون بشكليات فارغة ،فانفلت الزمن منهم ،وبقوا على جملهم الأعرج ومِزَقِ خيمتهم ينتظرون وهماً آتياً !
وقلت لمعتز:- بداية سنقسم العمل بيننا ،أنا أبحث في الإنترنت وأجمع كل مايتعلق بالموضوع ،وأقرأ كل المراجع، وأنت ستكتب على الورق ما أجمعه، بعد التنسيق والتبويب !
:- هذا لايصح أبدا ! إنكِ بذلك ستبذلين الجهد كله ، وآخذ أنا ثمرة عملكِ على بارد الماء!
أعجبني موقفه :- لا يهمني ذلك ! المهم أن يكون المشروع متميزاً ،ويحمل اسمي واسمك !
:- أبداً .. هذه سرقة ! أنا لن أقبل أن أنجح بالسطو وسرقة جهد الآخرين ! العمل سيكون مناصفة تامة بيننا : نحدد معاً صورة المشروع، وكل واحد منا يبحث ويطالع ويكتب ملاحظاته ، ثم نتقابل ، ونعطي ملاحظاتنا ،ليأخذ العمل شكله النهائي ، ويأخذ كلانا بجدارة ثمرة تعبه وجهده .
4
بذلت عزماً مضاعفاً في مشروعنا المشترك ، وكانت رغبتي أن أثبت لمعتز أن الحرية التي أستمتع بها ليست انفلاتاً وكسلاً وخمولاً، بل هي دأبٌ وجديةٌ وتوقُ وصول إلى صحيح هدف ونبل غاية ..ولم أنس أنني وضعته في دماغي وأريد أن يحبني بالإكراه !
:- بونجور ..ما الجديد عندك يا عزيزي ؟!
:- ولماذا البونجور؟! هل التمدن والحداثة ومجاراة العصر تقتضي ليّ اللسان ؟!
أحببتُ أن أريه أنني أعرف جيداً تراثنا الذي أحبه لكن دون تعصب،فقلت دون تردد:- قال الجاحظ في كتابه البيان والتبيين: إن الأعرابي قد يتملّحُ بأن يُدْخِل في شعره شيئاً من كلام الفارسية .. وذكر شعراً للعُمَاني في مدح الرشيد ، وليزيد بن مُفَرّغ الحميري ،وأسود بن أبي كريمة .فقل لي أنتَ: ما الضير في استخدام لغات أخرى في الكلام ؟!( ثم وأنا عامدة لمرامي كلامي ) أيها الجميل المتعصّب ، فعلاً إنك تُحَجّر واسعا ! (كانت تلك أول كلمة مني أطريه بها : فهو جميل حقا ،كامل الملاحة ) !
ويبدو أنه لم ينتبه :- ذاك يصح في زمن قوة المسلمين ،ولا يصح اليوم أبداً في زمن الاستخذاء والتبعية والفوضى والتخبط في الفتنة وضياع الهوية ! أكره الضعف وشعور المهانة ! وأنا قوي بيقين ديني،وليس بالتشبه الأجوف لسهل الاتباع !
:- هذا رأيكَ ! على كل ،أكره الوصاية على سلوكي وأفكاري ومنطقي في أيّ صورة !
:- بالطبع أنا لستُ وصيّاً عليكِ..هذا شأنكِ ! (وتمتم):كل عنز مُعَلّقة من عرقوبها ! غدا يلقاكِ عملكِ وليس عمل غيرك !
فقلت في نفسي : حرام أن يضيع هذا الجمال والحماس في متاهة التعصب .وبعد دقيقة صمْت قلت له :- سأطلب منكَ طلبا غريباً عليكَ بعض الشئ ! أنا أدعوك إلى فنجان قهوة !
:- لماذا ؟!
:- سأسألك بعض الاستفسارات التي تتعلق ببعض مفاهيم الدين !
:- أنتِ ؟! ألم نتفق ألا نتحدث في هذا الأمر ؟!
:- لكنني أحب أن أعرف بعض المفاهيم! هل ترفض طلب توقي إلى المعرفة ؟!
:- أبداً .. لكن مثل هذه الأمور لا تكون على هذه الصورة !
:- وكيف ؟!
:- البداية تكون عادة بصدق الطلب !
:- أنا جادة ! لست أمزح !
:- فلماذا أنا إذن؟! هناك من هو متخصص في أمور الدعوة !
:- لستُ أريد تخصصاً ! سنتحادث بأمور عامة ..سأستفيد منك ،وربما أفيدك بتصوّر ما !
كنتُ واثقة من قدرتي على الإقناع ،وكنتُ واثقة أيضاً من أنني سأجعله يحبني ! لكنْ هل أنا أحبه حقاً ؟! أم هذه نزوة عابرة لأثبت لصديقاتي ولنفسي أنني مطلوبة من كل الناس؟! لقد قال لي صحبي ذات مرة : أثخن شنب لايقف أمام سحرك ! فهل أنا أريد إقرار ذلك وتحقيقه ؟! أم أنا أطلب منه المعرفة حقاً ؟! أم أنني أريد أن أؤكد له واسع ثقافتي ؟! لا أعرف ! حقاً لا أعرف !
5
في بهو فندق الشام التقينا .ارتديت ثوباً سماوياً مزيّناً بعقدة كبيرة حمراء على الظهر، مستور الأكمام ،وعقصت شعري إلى الخلف ،وأضفت إلى ملامحي قليل ماكياج ،وطبعا لم أتوقع من معتز أية كلمة مجاملة !
بينما ارتدى هو "تي شيرت" ناصع اللون وبنطال "جينز" وحذاءا رياضياً أنيقاً !
:- اسمحي لي أن أستعير في بدء حوارنا كلام الأستاذ محمود محمد شاكر، الذي يشير إلى انسياقنا بشكل أعمى خلف زخرف الألفاظ المبهرجة ، كقولنا :القديم والجديد ،والأصالة والمعاصرة ،والتخلف والتحضر،والثقافة العالمية ،والحضارة العالمية ،والتقليد الأعمى ، وألفاظ أخرى كثيرة مبهمة مغرية ،لا تنقضي، لكن جميعها تحمل وهماً وإيهاماً ،وزهواً فارغاَ !
:- على مهلك ! لن ندخل في موضوعنا مباشرة !
:- لقد أخبرتني أنك جادة !
:- تمام الجد !
:- فلماذا نضيّع الوقت ؟!
:- كما تريد ! (وشتمته في داخلي وأنا أغلي غيظاً ).
:- أفهم من كلام الأستاذ شاكر أن جهالتنا بهويتنا بدأت بتفريغنا الدؤوب من ماضينا المتدفق في دمائنا ،وملئه بقشور مقتطفات من علوم وآداب وفنون، هي في الواقع قشور مقتطفات توهم النفس أنها نالت شيئاً ! وما ذلك سوى غطاء مموّه لسيطرة أمة غالبة على أمم مغلوبة ! أساس ثقافتها غير أساس ثقافتنا وبناؤها غير بنائنا ! فأفضى ذلك إلى تيارين متماثلي الغاية : تيار ظاهر الرفض للقديم والاستهانة به ،دون أن يكون الرافض مُلمّاً إلماماً ما بحقيقة ( القديم ) . وتيار سافر يغلو في شأن ( الجديد ) ، دون أن يكون صاحبه متميزاً تميزاً صحيحاً يؤهله أن يكون جدّد تجديداً نابعاً من نفسه !
واسترسل معتز في الكلام بمفرده ،كأنه مخزون مطر كان حبيس سحابة ! ولم أقاطعه ،وانتظرتُ أن ينهي كلامَه ! وتابع بمنتهى الثقة:- نتحدث عن (الجدة ) و(التجديد ) ،وذلك لا يمكن أن يكون مفهوماً ذا معنى ،إلا إذا نشأ نشأة طبيعية من رحم ثقافة حية متماسكة في أنفس أهلها ..يبدأ من حوار ذكي بين التفاصيل الكثيرة المتشابكة التي تنطوي عليها هذه الثقافة ، وبين رؤى جديدة نافذة تزيدها قوة ومتانة وسلاسة .أما إذا كان القطع والحل مُراداً لذاته ،وكانت الأفكار المجددة ترديداً لصياغة غريبة مباينة ، نشأت من غريب عن الثقاقة ناقص الأداة، يضمر التدمير والاستهانة، أو كانتْ سطواً منه يراد إقحامها ، لا لحاجة أدّى إليها النظر والفكر والتدبّر ، بل الهوى وحب الظهور، كانت بشاعةُ صدمةِ التدهور المستمر !
:- جميل ..جميل !
وعجبت كيف كان يتكلم بمفرده !
:- إذن اسمعي نحو هذا الكلام من الدكتور طه حسين ، الذي أكّد أن الذين يظنون أن الحضارة الحديثة حملت إلى عقولنا خيراً خالصاً يخطئون ..فقد كانت الحضارة الحديثة مصدر جمود وجهل، كما كان التعصب للقديم مصدر جمود وجهل ! فالتجديد ليس في إماتة القديم ،وإنما في تجديده وأخذ ما يصلح منه للبقاء .فهذا الشاب ،أو هذا الشيخ ،الذي أقبل من أوربة ،يحمل الدرجات الجامعية ،ويحسن الرطانة بإحدى اللغات الأجنبية ..يجلس إليك وإلى غيرك منتفخاً متنفّشاً ،مؤمناً بنفسه وبدرجاته وبعلمه الحديث ،فيعلن إليك في حزم وجزم أن أمر القديم قد انقضى ،وأن الناس قد أظلهم عصر التجديد ،وأن الأدب القديم يجب أن يترك للشيوخ الذين يتشدقون بالألفاظ ،وأن الاستمساك بالقديم جمود ،والاندفاع في الحياة إلى أمام هو التطور ،وهو الحياة،وهو الرقيّ . هذا الشاب وأمثاله ضحية من ضحايا الحضارة الحديثة ،لأنه لم يفهم هذه الحضارة على وجهها ،ولو قد فهمها لعلم أنها لا تنكرالقديم ولا تنصرف عنه، وإنما تُحببه وتحثّ عليه،لأنها تقوم على أساس متين منه.
:- معتز ..مهلا ! ألا تلاحظ أنك أسهبت بالكلام ! لسنا في محاضرة ! أنا وأنت هنا لأسألك وتسألني ! لكنك مصرّ أن تتكلم مع نفسك ! هل لاحظت أنك أخذت زمام الكلام ولم تنتظر سؤالي ،كأنك تملك مفاتيح المعرفة ! كلامك لا شك عميق،وأسرني بعمقه ! لكن ليس هذا ما أبغيه ! وأظن أن النقاش معك لن يفيدني إذا كان على هذه الشاكلة !
احمرّ حياء ،فشعرت بنشوة الانتصار،وبشيء من الشفقة عليه !
وقال لي وهو يعبث بأصابعه:- عذراً ..معك حق ! اندفعتُ لأنني لم أعرف كيف سأبدأ الحديثَ معكِ !
:- ألا تلاحظ أن هذه سقطة شنيعة منك ؟!
:- قلت لكِ عذراً ..صدقيني ! ربما لأنها أول مرة أخرج في حياتي مع فتاة ! وبصراحة أكثر : لا أعرف كيف يكون الحوار بين شاب وفتاة بعيداً عن مقررات الجامعة !
صدمني كلامه :- أنت تمزح ! هذا أيضا في منتهى الغرابة ! نحن في عصر ثورات العلم المتتالية باستمرار ! ( وهرشتُ رأسي بشرود ) هل نسيتَ أنك مهندس! أنا لا أخاطب جاهلاً من عرض الشارع ! (ما زال يعبث بأصابعه ،وتابعتُ :) أحب أن أعرف ،إذا كنتَ على مثل هذه الصفة ،كما تزعم ،فكيف تتجرأ وتخرج معي ؟!
:- لا أعرف ! ربما ..
ولم يكمل ، وفي أعماقي رجوته أن يقول لأني أحببتك !
6
تكررت لقاءاتنا !
واكتشفتُ أنني أحبه ! لكنني لم أسمع منه حتى اللحظة كلمة أحبك !
نعم ، أنا أحببته ! أحببتُ التزامه بما يؤمن به وشدة يقينه وشدة صدقه !
وقال لي ونحن سائران في طريق البرامكة دون هدف ،وكان الوقت خريفاً ،ولذع برد خفيف يتسلل من تحت معطفي، فيشعل في نفسي حماساً لإغذاذ المسير:- سهير!بقيتْ في نفسي أشياء لم نتحدث عنها ! وهي هامة ! بل شديدة الأهمية بالنسبة إليّ !
:- كلي معكَ !
وأمسكَ لأول مرة يدي !
فشعرتُ بدبيب رهبة !
كما أحسستُ بارتباكه :- سهير ..حدثيني عن الله !
(ليته قال لي :أنا أحبك ! وأجبته بعفوية ):- الله عامر محبة وجلال !
:- والإسلام ؟!
:- آخر الأديان ! آآآه .. يا لغبائي ! الآن فهمتُ قصدك !
( وشددتُ على يده ،ونحن ندلف إلى محل عصير قريب).
:- واحد ليمون مثلج مع النعناع ،وواحد كوكتيل فواكه من فضلك !
:- اسمع يا معتز ! قلتُ لكَ الإسلام آخر الأديان ،لأنه يصلح لكل زمان ! لكنكم بمنتهى الصراحة ، أفقدتموه حيويته وقدرته على الاستمرار !
:- سهّلتِ عليّ ما سأقوله ! اسمعي يا بنت الناس ..أحكام الدين شطران :قسمٌ ثابت لايتغير ،وقسمٌ متجددٌ حسب كل زمن ! ( ورشف من كوب الفاكهة قليلا ،وتابع بارتياح ) أحكام العبادات والفروض ثابتة ..فالصلاة ثابتة بأركانها وقواعدها،فلايصح أن نقول سنخفف الفروض الخمسة ونجعلها اثنتين أو واحدة! أو نقول سنكتفي بالصوم أيام الشتاء ولا داعي لمشقة الصيف ! وهكذا الزكاة وكل أركان الإسلام ! جميعها ثابتة لاتتغير!
:- لكنكم لم تقبلوا أيّ رأي آخر وكأنكم تملكون وحدكم مفاتيح الجنة !
:- الأمر أبسط من هذا بكثير! ما دمنا اتفقنا أن هناك ثوابت ،وهذه الثوابت أصلها رب العباد عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، فلماذا نعتمد على غيرهما ،وهما الأساس والركيزة في كل أمر ؟! أمّا ما عدا ذلك ،فالباب مفتوح دون انتهاء ودون أدنى قيد !
فقط تذكري دائما (الثوابت) ،ومخافة الله ،ثم اسمحي لنفسك أن تتحرك بمنتهى الحرية في كل شأن !
:- لكنكَ اعترضتَ أن أشارككَ المشروع ! هل نسيتَ !
:- كان اعتراضي على أسلوبك وطريقة تفكيرك !
:- واليوم ؟!
وأصابه كما المسّ ! تغيّر لونه فجأة ،وشحب وجهه ،فخفتُ منه ،وقلتُ وأنا ألملم شجاعتي :- معتز! مابك ؟!
وضع يده وهي ترتجف على جبينه :- لا شيء ! لا شيْ ! السلام عليكم ، أنا ذاهب !
:- هل هي بوادر ( الشقيقة )؟!
:- لا ! فقط أريد أن أذهب !
:- هذا بعيدٌ عنك ! والله إنني لن أدعك تذهب قبل أن أعرف ماذا حصل لك !
:- أرجوكِ ! دعيني أذهب ! السلام عليكم !
:- أبدا ! لا بد أن أعرف !
:- قلتُ لكِ لا شيء ! لا شيْ ! مجرد عارض بسيط !
:- قبل لحظات كنا نتحدث ونتباسط في الكلام ! أخبرني ماذا حدث ثم اذهب حيث شئت !
:- سهير.. أنا ..بصراحة ..( وابتلع ريقه ) سهير ..أنا .. أنا أحبك كثيراً !
وضحكتُ باستغراب :- وأنا كذلك ! ما الضير في ذلك ؟!
:- وآخرة هذا الحب ؟!
:- سيزداد ألقاً ودفئاً وإشراقَ نفس ! وسنتمم جمالَه بالصورة التي تتمناها أية فتاة !
:- سهير.. حبيببتي ! ( قالها بصوت خافت فيه حياء )كان في مكة رجلٌ زاهدٌ اسمه عبد الرحمن بن أبي عمار الجُشَمي ،يلقب بالقَسّ لعبادته، من أعبد أهل مكة ! وذات يوم سمع غناء سَلاّمة ،إحدى مغنيات المدينة ،على غير تعمد منه لذلك .فبلغ غناؤها منه كل مبلغ .فرآه مولاها ،فقال له:هل لك في أن أخرجَها إليك أو تدخلَ فتسمعَ؟ فأبى ،فقال مولاها :أنا أُقعدها في موضع تسمع غناءها ولا تراها ! فأبى !فلم يزل به حتى أخرجها، فأقعدها بين يديه ،فتغنّت، فشُغف بها وشُغفت به .وعرَف ذلك أهل مكة .فقالت له يوماً :أنا والله أحبك .قال :وأنا والله أحبك .قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك .قال: وأنا والله أحب ذاك .قالت: فما يمنعك ! فوالله إن الموضع لخال ! فتهدج صوته وهو يقول:قال الله (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين ) وأنا أكره أن تَحول مودتي لك عداوة يوم القيامة ! وخرج من عندها وهو يبكي ،وما عاد إليها بعد ذلك !
فخبطتُ غاضبة الطاولة :- لا داعي لتبريرموقفك مني بقصة تصلح للأطفال ! (ولم أنس رغم حساسية الموقف أنني أتحداه،فتابعتُ ) هل تعرف أن هذه القصة الساذجة كانت من أوائل الأفلام التي مثّلتها أم كلثوم ! ( وقمت وأنا أحجز بصعوبة دموعي أن تسيل ) معتز.. أرجوك ! إلى هنا وكفى ! الحب ليس استجداء ! والحب لا يعرف الحدود !
لم يتوقع تصرفي ،وببرود قال لي :- ستفهميني يوما ما !
:- ماذا أفهم ؟! منذ البداية كان اختياري خطأ ! كما أن اختيارك كان خطأ أيضا !
(وحملت على عجلة حقيبتي ) نتوهم بسخف أننا نستطيع جَمْع الليل والنهار !
وركضتُ على طول شارع البرامكة وأنا أبكي مرارة ويأساً وندماً . [/frame] [/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|