[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"]
[align=justify]قصة أين ذهب ديفيد
سماعة الهاتف تتدلى على جانب المكتب مثل يائس من الحياة غادرها لتوّه ، غير أنها تتكلم ... أصابع الهواء تعبث في أرجاء الصالة.. وأضلاع الستائر الكاليفورنية الزرقاء المترنحة لترنيمة هواء صامتة ، كانت تَشِي بفتح نافذة الجدار الخلفي للمكتب.
الصوت، الممزوج بصدى الإلحاح ، ينبعث من ثُقُب السماعة.. حيث لا يمكن فك رموزه إلا باقتراب أكثر: ((...))
أثر تفتيش غير مُـجْدٍ ــــ ربـما ـــ يبدو من خلل أوراق مبعثرة على سطح المكتب ، وأُخرى متناثرة على الأرض، و غيرها متساقطة من مصنفات زرقاء مفتوحة ، حيث لم يزل بعضها عالقا خلف الباب الزجاجي الـمحطم لخزانة من خشب اصطناعي براق ، لعلها كانت أنيقة وشوِّهت مثل باقي الأثاث للتو ــ كما يبدوــ على إثر حرب أو عاصفة مرت قبل ثوان أو دقائق من هنا.. أو.. بهكذا توحي حرارة ذلك الصوت الـمُلِـحّ: - ((...))
- هل أحمل السماعة وأكشف السر ؟ أم أغادر وأتصل بالشرطة ؟ ولكن من قال إنّ.. إن هذا أثر جريـمة أو إن في الأمر ما يستحق تبليغ الشرطة ؟!
مازالت سماعة الهاتف تتدلى وتستجدي فضوله:- ((...))
-.. الباب لم يكن مقفلا ، وليس عليه أي أثر للعنف ، ولكن عاصفة أكيدة خرجت من هنا.. قبل أن أدخل، وربما..؟ سأعرف صاحب الصوت ، أو على الأقل .. تحرك ، أفعل شيئــــــــا..
الفرصة الوحيدة للخروج من الحيرة كانت معلقة في طرف تلك السماعة ، وإلا فالعودة من حيث أتى.
- ..لا ، سيبقى السر يطاردني إذا عدت خالي اليقين .. يا الله!.. أنا متأكد أنني في... تــماما في الـموعد الذي اتفقنا عليه ، لقد طلب منـي أن آتي إلى هنا ، بالضبط كما هو اليوم ، وفي أول ساعة للعمل كما هي منذ قليل .. "رقم عشرة ، الطابق الخامس والخمسون".
صحيح ، لم نكن نلتقي في مكتبه ، إلا في المرة الأولى.. حين اخترت أن يكون هو الذي يترافع في قضيتي . شهور مضت لم يكن مكتبه مرتبا كما أرى الآن .. لا ، أقصد كما كان قبل العاصفة .. يومها مازحته بحقيقة أن اسمه أَرفعُ بكثير من مكتبه ، كما أن تلك الفوضى لم تكن أبدا لتليق بمكان يعرفه كل من رأى أو قرأ أو سمع عن هذه المدينة الشمس ، حتى إن مساعده الوحيد ضحك حينها ، وقال إنه وأغلب من مر من هنا أخبروه بذلك .. ولم يَلْقَ استفزازنا لدى حضــــــــرته أيَّ صدى .. إنه أبدا مشغول بقـــــــضايا موكليـــــه: ((.. دائما تنظرون إلى الأشكال وتغيب عنكم المعاني. عشرون عاما من الاشتغال في القانون ، علمتني أن الجوهر هو الذي يغطي المظهر وليس العكس ، ولكن فقط حين نفهم الجوهر، لأجل ذلك كنت أكسب كل قضية أقبل الترافع فيها.))
- وقد قَبِل المرافعة في قضيتي.. لا.. لا يمكن أن يكون اقتناعه بتحسين هيئة المكتب قد قلب قناعاته الأخرى فأصبحت قضيتي واحدة من هذه الأوراق ، في مهب النسيم.. وإن كان يبشر بخريف معتدل ـــ أيضا ـــ في أسواق البورصـــــــــة.. ياه ! أين أنا.. مما أرى الآن ؟! .. العنوان لم أخطئه ، كما أن مستر ديفيد لم يخبرني بتغييره في اتصال الأمس ، ولا أظنه ينسى تفصيلا مهما كهذا ، أو يغير مقر مكتبه ، رغم نفقة الكراء المتصاعدة.. الكراء ! وهل كان يدفع شيئا من حسابه لولاي .. ومثلي من عزف علينا قانون هذا البلد ؟!.
الصوت الملح : ((...)) يلوّح له بآخر فرصة ، والسماعة تكاد تتوقف عن الدوران حوله.
- عفـــوا..
- آ .. يا إلهي ، أين ذهبت ؟ ديفيد ، تركتني أصارع الظنون.. غبت فجأة دون سابق إنذار كما.. كما أن الخط بقي مشتغلا ولم ... أَعْلَمُ أن عملك مجلبة للمتاعب في كثير من الأحيان ، لكن لم يقع هذا من قبل .. تكلم أخبرني ما الذي جرى..؟
- لكن سيدتي.. أنا..
- آ !.. أنت لست ديفيد ، أين ذهب زوجي؟ قلي مستر ستيوارت ، هل التقيتما في الصباح ؟ أم ..
- ولا ستيوارت .. اهدئي سيدتي ، وسأخبرك بكل ما رأيت..
- من أنت؟ أين ديفيد ؟ وأين مساعده ؟ وأنت.. ماذا تفعل في المكتب ؟ سأخبر الشرطة .. قل ماذا فعلت بـ.. ؟ أين زوجي، أيـْـــــ..؟
- سيدتي لا فائدة ترجى من كل ما تفعلين، أرجو..
- قل أين ديفيد وإلا ..
بصوت عال:
- سأقطع الخط إذن..
- هه ! ..
- حسنا، أنا أحد موكّلي المستر ديفيد ، ضرب لي موعدَ عمل لهذا الصباح ، وحين جئت لم أجد أحدا في مكتب مساعده .. اكتفيت بإذن الموعد ، وهممت بالدخول ، وعندما...
هذه المرة ، لم تـهتم مسز ديفيد بانقطاع الخط ، بل سقطت السماعة من يدها حين صُعِقت لِذلك الدَّوي الـمفزع الأقوى على سمعها ووعيها منذ سكنت هذه المدينة .. دفعها الخوف والذهول فسحبت رجليها بخطى متقاطعة إلى الباب الخلفي لغرفة الجلوس ، وحيث الشرفة المطلة على السماء والأرض.. توقف لسانها عن بث القلق ، ولم تفهم شيئا .. تمتمت بنصف جهر:
- ..يا الله.. إنها نهاية العالم .. وديفيد كذلك ، كلنا سننتهي الآن..
ثم رسمت بين كتفيها إشارة الصليب ، ولم تتكلم..
بعدها لـم يُعلم أيُّ شيء عن رجل الأعمال أحمد حسن ولا عن المحامي الشهير "مستر ديفيد" ومساعده "ستيوارت" ، ولا حتى عن مسز ديفيد ، وهذا منذ ذلك الصباح الخريفي العاصف على سماء مَنْهَاتِن في ولاية نيويورك الأمريكية ، يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر، عام ألفين وواحد.
***
[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]قصة قوية الأسلوب، وتقنيات السرد فيها عالية، مما أكسبها قوة جذب على الرغم من موضوعها العادي، وهذه نقطة فنية تُحسب للقاص، بغض النظر عن مضمون قصته.. ومن أسباب قوة القصة أيضاً، ذلك الغموض الذي نجح القاص في لفِّ شخصياتها به دون أن يحولها غموضها إلى شخصيات غير واقعية أو شخصيات تبدو مصنوعة.. كذلك القصة بعيدة عن المباشرة، قادرة على الإيحاء بأكثر مما تقوله سطورها القليلة.
[/align][/cell][/table1][/align]
[/align][/cell][/table1][/align]