[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"]
[align=justify] قصة ميكروباص
لم يكن سائق الميكروباص رحيما بي عندما دفع بتلك السيدة ذات الجمال الأخاذ إلى جواري ، بل أنه لم يتح لي فرصة الاعتراض أو التبرم ، لتشاركنا السيدة الكرسي ذاته ، ورغم أن هذا الكرسي معد أساسا لثلاثة أشخاص إلا أن تحايل السائقين بإضافة مقعد صغير جعله جاهزا لاستقبال أربعة ركاب ليس من بينهم بدينا .. جلست تلك الأنيقة التي يزكم عطرها الأنوف والتي تخفي عينيها خلف نظارة بنية اللون إلى يميني بينما جلس رجلان إلى يساري أحدهما بدينا .. شعرت بحرارة تطغى على حرارة الجو في ظهيرة يوم حار من أخريات شهر أغسطس .. تقدمت إلى الأمام بالقدر الذي يسمح به طول رجلي ، كما انحرفت إلى اليسار متشبثا بالكرسي الذي أمامي ، مفسحا لها قدر استطاعتي ..
أدار السائق محرك السيارة وقبل أن ينطلق أكد على أن الأجرة مائة قرش للفرد ثم ما لبث أن تحرك مخترقا الزحام .. بدأ الركاب يجمعون الأجرة فيما بينهم ،غير أن راكبا تمسك بدفع خمسة وسبعون قرشا فقط وهي التعريفة المقررة من الجهات المختصة ..أوقف السائق الميكروباص بعصبية وهو يتمتم بعبارات غاضبة لم أتبين منها سوى لعنات متناثرة هنا وهناك لم تسلم منها السيارة وقائدها .. ثم عاد واستغفر ربه ، وألقى باللائمة على الركاب معاتبا :
أنا أكدت عليكم يا جماعة .. حصل ولا لأ ؟
حاول البعض إقناع الراكب ، لكنه تمسك برأيه ، أردت أن أنهي الموقف سريعا ، فالنار التي لا يشعر بها غيري والتي تكوي شقي الأيمن بدأت تسري في جسدي وتدغدغ ماردا حبيسا بداخلي ..عرضت دفع الفرق ، لكن الراكب رمقني باحتقار فأنا كما قال لست بأفضل منه حتى أدفع عنه .. سحبت كلامي سريعا معتذرا وأنا الملم كرامتي .. وتحت رجاءات واستعطافات وتبرم الركاب دفع صاحبنا الأجرة كاملة مرددا : برغبتي وليس رغما عني ..
تحركت السيارة مرة أخرى ، تخطت حدود المدينة وعبرت ذلك الكوبري المتهالك صوب الطريق الزراعي الذي بالكاد يتسع لسيارتين متجاورتين ، لم تمنع سوء حالة الطريق السائق من السير بسرعة هائلة .. و مع انعطافات ومطبات الطريق رحنا نتمايل يمينا ويسارا ونرتفع ثم نهبط ، وفي كل مرة أحاول عبثا ألا أمسها ، لكن هدوءها الذي مازالت عليه يعطيني الانطباع أنها تدرك مدى الجهد الذي أبذله تفاديا لملامستها .. كنت أشعر بعيون الركاب تلاحقني.. منهم من يحقد علي ، ومنهم من يرثى لحالي ، وآخرون يعدونني آثما لأني قبلت بهذا الوضع .. نظرات الريبة لدى السائق عبر المرآة تقتلني ، بدأ العرق يتسرب إلى جسدي حتى ظهرت آثاره في مواطن عدة من قميصي الأبيض .. وددت لو شمرت عن ساعدي و فتحت رابطة العنق قليلا .. لكن لا مجال للحركة .. آثرت الانتظار ساكنا منكمشا في مكاني..
في إحدى المحطات نزل أحد ركاب الكرسي الأمامي الذي أتشبث به ، والذي يتسع بالأساس لأربعة أشخاص ، كدت أتنفس الصعداء ، غير أني سيدة في الأربعين من عمرها سبقتني و ألقت بنفسها مكانه وهي تحمل سلة وضعتها على رجليها وانطلقت السيارة من جديد ..
مضت اللحظات بطيئة ثقيلة وأنا في انتظار محطتي القادمة .. كنت أحاول مستميتا أن أقف حائلا دون وصول النار التي تغزوني إلى ذلك المارد القابع ساكنا بداخلي منذ وعيته ، منذ عشر سنوات ونيف .. كنت خلالها أسمع قصص العشق وأقصها وكأنها قصتي .. كان حيائي يمنعني أن أتحدث إلى النساء .. ولو حدث يتصصب العرق مني ولا استطيع أن أجمع كلمتين على بعضهما .. رحت اكتم أنفاسي المتسارعة واثبت قدمي التي أصيبت بالرعاش.. رحت أشغل نفسي بالموت والقبور وأشياء أخرى علها تخرجني بعيدا .. أشعل الراكب البدين نارا أخرى إلى جواري ..عندما أشعل سيجارا .. ورغم أني أكره الدخان إلا أني استحييت أن أطلب منه أن يطفأ السيجارة .. تلاقت رغباتنا .. خرجت عن صمتها .. التفتت نحوي في كبرياء وهي تخاطبه ، تراجعت قليلا وكأني أفسح الطريق لكلماتها لتصل إلى هدفها ، وبوقار مازالت محتفظة به : ممكن تطفئ السيجارة لو سمحت؟
ظلت على وضعها وكأنها في انتظار الرد وأنا أرمقها من طرف خفي ..إلى أن جاءها الرد على مضض : أوي أوي.. ثم أطفأ السيجارة .. لكن كلماتها أشعلت جدلا واسعا بين الركاب حول حرمة السجائر لم تتح لي الفرصة لمعرفة منتهاه ..توقفت السيارة ، استأذنتها بأدب جم .. لم يكن أمامها بد من النزول حتى تفسح لي الطريق .. نزلت وتوقفت إلى جوار الباب .. وبمجرد أن حطت أقدامي الأرض وجدت نفسي أمامها وجها لوجه .. وكأن الزمن قد توقف للحظة ، ثم ما لبثت أن دلفت إلى الميكروباص الذي انطلق من جديد ، مخلفا وراءه دخانا كثيفا ..
-------------------------
[align=center][table1="width:100%;"][cell="filter:;"][align=justify]القصة من الناحية الفنية جيدة جداً.. ويعود ذلك في رأيي إلى نجاح مؤلفها في جعلها قصة موقف واحد يتحرك حدثياً، في إطار زمني محدد ومكان محدد، يعالج حالة خاصة يمكن أن تعرض لأي كان، ولكن بردود فعل مختلفة، حسب التربية والسلوك والخلق.
ومع أن موضوع القصة عادي، كما قد يبدو في رأي البعض، إلا أن أسلوب عرضه، وطريقة سرد حدثه، وتصوير الشخصيات وردود أفعالها، ورسم ملامحها دون إفاضة لا لزوم لها، ودون إخلال يحرمها من الوضوح، كل هذا جعل من ذلك الموضوع العادي بشخوصه وتطور حركية حدثه، قصة جميلة قادرة على الجذب فنياً، بغض النظر عن الفائدة التي يمكن أن يجنيها قارئها.. إلى ذلك، حبذا لو تلافى مؤلفها الأخطاء النحوية والإملائية التي أشرت لها باللون الأصفر.
[/align][/cell][/table1][/align][/align][/cell][/table1][/align]