الموضوع: الدروب
عرض مشاركة واحدة
قديم 27 / 06 / 2008, 59 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
طلعت سقيرق
المدير العام وعميد نور الأدب- شاعر أديب وقاص وناقد وصحفي


 الصورة الرمزية طلعت سقيرق
 





طلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond reputeطلعت سقيرق has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: مدينة حيفا - فلسطين

الدروب

[ALIGN=CENTER][TABLE1="width:95%;background-image:url('http://www.nooreladab.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/12.gif');border:4px ridge green;"][CELL="filter:;"][ALIGN=justify]
المقبرة باردة جافة، محايدة إلى حد غريب.. قرأ الفاتحة، وسورة ياسين.. دقق النظر في الشاهدة، كان الاسم بارزاً، وتحته تماماً تاريخ رحيل المغفور له فياض.. سنوات خمس مضت.. قبلها كان فياض يضحك ويمرح، ويحكي أشياء كثيرة عن البلد والأهل وطعم الحياة هناك. كان يلذ له أن يذكر الشوارع والحارات والأزقة بأسمائها. ولا يتردد حين يسأله أحد، عن ذكر أسماء الأشخاص.. كنا في بعض الأحيان نظن أنه يخترع أسماء لا وجود لأصحابها. لكن الأيام اللاحقة، أثبتت لنا، أن الجل كان صادقاً إلى أبعد حد، وأن كل ما كان يذكره، لا ينفصل عن الواقع ولا يبتعد عنه..
وها هو الآن تحت التراب.. خمس سنوات مضت.. ترى هل يحكي لهم هناك عن شوارع البلد وأسماء الأماكن والأشخاص؟؟
صرّ باب المقبرة الأسود صريراً حاداً حين أغلقه.. وقف قليلاً أمام الباب، وأخذ يفكر عن غير قصد بفياض الذي كان يملك ذاكرة مدهشة.. ذاكرة كانت مليئة بكل شيء عن فلسطين.. حتى أنه تصور ذات مرة أن بإمكان فياض التحدث عن فلسطين لسنوات دون توقف.. والآن بعد أن مات.. هل بقيت تلك التفاصيل في الذاكرة على حالها؟؟ نظر إلى باب المقبرة. اقترب منه.. دفعه.. وبخطوات سريعة اقترب من القبر. وضع يده على الشاهدة.. صاح: “انهض يا فياض.. يجب أن تخبرني يا صديقي عن ذاكرتك.. يجب أن تخبرني”.. فجأة شعر أن هناك أشياء غريبة تحدث.. ودون مقدمات، كان فياض يقف أمامه.. اجتاحته قشعريرة لم يعرفها من قبل. أخذ يرتجف.. تمنى أن يطير ليبتعد عن فياض والقبر وكل الأسئلة المحيرة.. لكنه كان مشدوداً إلى الأرض..
جاءه الصوت حاداً غريباً: “ومن قال لك أن الذاكرة تموت يا أبا المجد؟؟” أبو المجد هز رأسه، أو هكذا ظن.. كان ينظر إلى فياض غير مصدق، فالأموات لا يتركون قبورهم ويتجولون.. كأنما قفز التساؤل من داخل رأسه، ليستقر في رأس فياض الذي قال مباشرة “وماذا تعرف عن الموتى يا رجل؟؟ أنت سألت.. وها أنا قد أتيت لأجيبك.. صدقني الذاكرة لا تموت” فكر أبو المجد وهو يرتعش: “ما دام كل شيء في الجسد يفنى.. فكيف للذاكرة أن تبقى؟؟”.. وجاءه الجواب: ( يا أبا المجد.. الفكرة تنتقل إلى الآخرين لتحيا.. كذلك الذكريات.. كل ما كنت أقوله وأحكيه يعيش فيكم”.. هز أبو المجد رأسه.. أراد أن يقول شيئاً.. لكنه حين فتح فمه للمرة الأولى، كان فياض قد غاب.. والأغرب أنّ أبا المجد كان واقفاً هناك أمام باب المقبرة المغلق..
مد خطواته على الرصيف، تساءل: “هل كان ما شاهدته مجرد حلم.. أم أنه حقيقة؟؟” كان الجواب ابتسامة باردة على الشفتين.. قال محدثاً نفسه: “فياض مات.. والأموات يبقون داخل قبورهم..” رطَّب شفتيه بلسانه، ومط رقبته.. قال “لكن لماذا خفت من طيفه أو خياله إلى هذا الحد.. الرجل صديقي وصاحبي..” أجاب: “كلنا نخاف من الموتى.. الموت غريب.. أو لأن الموتى حين يسيرون لا نسمع وقع خطواتهم” أعجبته الصورة الأخيرة، فأطلق ضحكة طويلة، وأخذ يصفر لحناً مشوشاً مضطرباً..
قبل أن يصل إلى بيته، التقى واحداً من الأصدقاء القدامى، غاب الرجل سنوات، وها هو يظهر من جديد.. فاجأه بالسؤال: “ماذا قال لك فياض يا أبا المجد؟؟” حاول أبو المجد أن يتماسك.. قال: “ماذا تعني يا رجل.. فياض مات منذ خمس سنوات” قال: “أعرف يا أبا المجد.. أعرف.. لكن ماذا قال لك.. عن الذاكرة والذكريات.. ماذا قال؟؟” بلع أبو المجد ريقه غير مصدق.. أخذ يحكي وهو يرتعش عن الذاكرة والذكريات التي تنتقل من يل إلى جيل، عن الحكايات التي تورق كلما امتدت..
كان يحكي بتدفق وارتعاش وذهول.. الصور تتحرك.. الأطفال في شوارع الوطن يركضون.. الحجارة تحلِّق وتنقض.. أبو المجد يحكي.. فياض يفرد ذاكرة لا تموت.. الرجل يهز رأسه وكأنه يحفظ كل كلمة.. الأموات ينهضون من قبورهم ويستمعون.. الشبابيك تنفتح، وتمتلئ بالوجوه.. أبو المجد الذي امتلأ الآن بالحياة والحيوية والفرح، كان يحكي.. فياض يحكي.. الرجل يحكي.. والدروب كلها تشع بالنبض وتحكي..

[/ALIGN]
[/CELL][/TABLE1][/ALIGN]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
طلعت سقيرق غير متصل   رد مع اقتباس