الموضوع: ذكريات
عرض مشاركة واحدة
قديم 08 / 09 / 2013, 43 : 12 PM   رقم المشاركة : [1]
رشيد الميموني
أديب وقاص ومترجم أدبي ويعمل في هيئة التدريس -عضو الهيئة الإدارية / مشرف عام على المنتديات والأقسام / نائب رئيس رابطة نور الأدب


 الصورة الرمزية رشيد الميموني
 





رشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond reputeرشيد الميموني has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: المغرب

ذكريات

[align=justify]ذكريات

لو كان صيادا لأجاب القبرة وهي تحاول الإفلات من يده محذرة إياه من تصديق ما لا يمكن أن يكون :" بلى ، لأصدقن كل شيء ، فهذا عصر يستنسخ فيه المحال قبل الممكن ، والعجيب قبل البديهي من الأمور .".. وما دام أقرب الناس إليه قد تحــول من شخص إلى آخر- حتى خاله شخصين – فلا شيء بعد هذا يثير استغرابه . وإنــه ليتساءل كم من صفــعة تلــقاها لسبب أو لآخـر، ومتى كانت آخر لطمة أحس بوطئها الموجع على قفاه ... ما أصعب تذكر أشياء معينة في أزمنة متعددة ... ولكن ما الذي جعــــل مخيلته تعود القهقرى لتنبش في الماضي البعيد ، وتفرغ من جوفه الغث والسمين ؟
سهم برهة مبتسما وهو يتأمل صفحة من دفتر ابنه ، تتوسطها صورة قلب أحمر وقد انغرس فيه اسم أنثوي علـى شكـــل سهم . ما أشبه الــيوم بالأمس . إنه يرى نفسه منطـلقا يذرع الشارع العريض بالحي المدرسي ، بوجه نحيل زاده الأرق شحوبا ، واللهفة ارتباكا ، زائغ النظرات ، مرتعش الخطوات . يتطلع بوجل إلى البوابة المشرعة التي سرعان ما تقذف بصاحبات البذلات الزرقاء و ربطات العنق المحكمة في أناقة منقطعة النظير .
تمتلئ الأرصفة ، فيتقدم خاشعا ، متمتما في ابتهال ... لكنه يلمح الأب مقبلا . رباه... يا للحظ التعس . سيصفع أمام مرأى الجميع ، فهل يستطيع كبح جماح نفسه الثائرة ، الرافضة لكل شيء ، صالحا كان أم طالحا ؟.. فليجابهه بأنه لم يعد طفلا وليتحده بما لم يكن يجرؤ عليه في السابق.. سيدخن سيجارة و يتجرع قنينة نبيذ إن اقتضى الحال . و إذا صفع ، فلن يعود أبدا إلى البيت وسيذهب ليعيش وحده ويحصل على قوت يومه بنفسه .. إذ لم يعد أحد يفهمه في هذا العالم... الكل ضده .
يدنو منه الرجل مبتسما و مستفسرا عن حصة الصباح الدراسية فتخمد ثورته ، لكنه يظل حذرا منكمشا ، ثم يطمئن قليـلا حين يربت الآخر على كتفــيه قائلا :" أريدك في مهمة."... أية مهمة ؟.. لقد نســيها في خضم الأفــكار المتضاربة والأحاسيـــس المتأرجحة بين الأمل والقنوط والدهشة ، بل والفرحة أيضا... حقا لقد ضاعـت فرصة التملي بطلعة واظب على الرنو إليها ضحى كل يوم . لكن ، حصل ما هو أهم وأغرب . هل يصدق ؟.. وهل تخبئ الأيام مفاجآت أخرى ؟
لم يكن يتوقع أن يصل الأمر إلى مفاتحته في هذا الموضوع الذي بات يؤرقه ، لا ليتلقى نصيحة بالكف عن ذلك والاهتمام بما هو أجدى .. بل ، و يا للعجب...أصغى إلى محدثه وهو ينبهه إلى كيفية عدم الوقوع في الخطأ ، ووضع خطة مدروسة لتوفير فرص النجاح في محاولته . فأمثال "دون خوان" و"كاسانوفا" لم يعظم شأنهما اعتباطا ... كم هو عذب هذا الكلام ، وما أسـرع ما استسلم إلى هدهـدته ليسبح به في عالم الأماني و الأحلام . فما لبث أن لـقي نفسه حاملا حقيبة ظهره ، مواظبا على المشــــي والقــفز وتنمية عضلات جسده النحيل ، مستسلما للممرن وهو يكاد يــدك عظامه . ثم هاهــو منهمك في تحصــيل أقصى ما يمكن تحصيله للتفوق على الأقران وإبعاد المنافسين . عندئذ تينع الثمرة ويسهل منالها... وما يكاد يفرغ من الاعتناء بمظهره وهندامه حتى يجد الرجل ملازما إياه كظله ، يذرع به الآفاق... يلتمس رأيه .. يمازحه.. يلمح تارة ويصرح تارة أخرى ...
يجب أن يصدق عينيه وأذنيه . فهذا هو أبوه الذي لم يره قط إلا وهو يزمجر ويصرخ لاعنا ، مؤنبا ، صافعا أو راكلا ، مذ فشل في أن يكون عمدة بلدته ، واغتصبت فدادينه كما يفضل أن يسمي مساحة أرضه . فهو شغوف بكل ما هو مصري . و الويل كل الويل لمن يتعرض لعبد الناصر ولو بتلميح قدحي ... حقا ، إن الولد سر أبيه . فهو أيضا فقد فدانه بعد أن غمرت مياه النافورة منتجعه المفضل . ويشبهه أيضا في كونه يميل إلى الانعزال عن الخلق . حدثته أمه كيف عزفت نفس الرجل عن كل طبخة أعــدت على طبق من الحناجر التي صودرت أصواتها حتى بحت ..
وما بــين بوح أمه وما يحــدث الآن ، تتسارع الأحداث وتتلاحــق مسببة الدوار. حتى إنه ، وفي أوج محاولاته الجنونــية لإبراز عضلاته ونبوغه ، ينسى أنه يفعل ذلك من أجل حلم جميل . بل إنه ، وفي لحظـــات انعزاله ، يتساءل هل كل ما يفعله حــقا قربان لذلك الحلم . وحين يعجز عن الإجابة ، يتطلع إلى الصورة العملاقة متأملا الوجه العريض بشواربه الضخمة وعينيه اللتين تطفحان شررا وحدة فيتمتم :"- رغم أنك لم تعد تصفعني فإنني لا زلت أهابك."
- هل تعجبك إلى هذا الحد ؟
يلتفت مذعورا حيث ينتصب الأب مبتسما. هل سمع ما قاله ؟.. لا يبدو عليه ذلك . في عينيه كلام كثير وهام.. ماذا وراءه ؟ سيعرف ذلك حين يأزف موعد الإحرام ، وسوف يحس كم هي قاتلة الوحدة وكم هو هام وجود أبــــيه بجانبه ، فيلجأ إلى التعبـــــد ويطيل المناجاة ، بينما أصابعه تعبث بالمسبحة البلورية التي كانت تتراءى له صولجانا ، فألح على ألا تفارقه .
وحين تطول خلوته ، تلج الأم الحجرة وتربت على رأسه بحنو منبهة إياه إلى ميعاد تسليم مفاتيح المتجر للمستخدم... صار هو، إبن الثمانية عشر ربيعا ، يتربع على عرش أسرة بما لها وما عليها ، وينشغل عن أشياء لم يكن يتوقع نسيانها. لكنه يواظب كل صباح باكرعلى التسلل إلى الشارع العريض بالحي المدرسي ليقف قبالة البوابة الخضراء متأملا . ثم يعود مبتسما عبر شارع النخيل ، وقد أنعشت نفسه المتأججة نسمات الصباح الباردة .
ينتفـض وهو لا يزال ممسكا بالدفتر ، والقــلب الأحمر يتوســط إحدى صفحاتـه . يـتفرس فيه مليا ، ثم يتهـالك على الكنــبة متنهدا... ينظر إلى ساعته اليدوية ، و ينهض . فاليوم يوم خميس . سيذهب إلى هناك وفي يده ريحان . وسيجلس بعد العصرعلى التلة المعشوشبة مفكرا ، معتبرا ، مبتهلا ، متأملا جسده النحيل تحت وهج شمس الأصيل . [/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
رشيد الميموني غير متصل   رد مع اقتباس