الرائع الأستاذ د. منذر..شكرا لك على وجهة النظر التي أحترمها كثيرا..وأضيف على ماجاء في المقال ما يلي:
قد يكون فعلا في بعض الأحيان نقدا متشنجا..
فالنقد الذاتي ـ أخي الأستاذ منذر ـ قد يرتبط بمبدإ آخر هو مبدأ صورة الذات لدى الفرد.. ما هي الصورة التي أكونها عن نفسي في أي مجال من مجالات الحياة حين أنظر في مرآة نفسي ؟.. إن هذه الصورة هي التي تحدد قدرتي على ممارسة النقد الذاتي .. إن تقدير الذات بطريقة موضوعية صرفة تحتاج إلى مران على الديمقراطية وممارسة لأساليبها طوال الحياة مادامت الديمقراطية هي تحمل المسؤولية الفردية والجماعية في أسمى معاني المسؤولية..
لقد كانت صورة الذات لدى شاعر كبير في حجم الحطيئة مثلا صورة منحطة مزرية تنم عن رفض للذات ربما حتى في وجودها حين يقول:
أبـَت نفسي اليومَ إلا تكلُّـما ـ بسوء، فما أدري لمنْ أنا قائـــــــــــــــــــــــــلهْ
أرى اليوم َ لي وجهاً، فلله خلقه ُ ـ فقــُبّـح َ من وجهٍ، وقُـبّح َ حامله ْ
لا يتعلق الأمر هنا بقبح الوجه أو وسامته.. ولكنه نقد ذاتي مرير لتراكمات الإخفاقات التي جعلت من صاحب موهبة كبيرة في الشعر لا ينال حظه من العيش الكريم الذي يناسب تلك الموهبة، وتراكم الإخفاقات لم تترك مجالا للشاعر ليرى قدراته الأخرى التي جعلته بعد موته في مصاف كبار الشعراء..
ويقابلهذه الصورة المتطرفة في تقدير الذات تقديرا سلبيا صورة أخرى في شعرنا العربي، هي صورة تقدير الذات إيجابيا إلى حد التمركز في الذات .. وهي حالة الطفولة في سنواتها الأولى والسابقة للالتحاق بالمدرسة حين يرى الطفل العالم كله امتدادا له وفي خدمة مطالبه ونزواته.. يقول المتنبي في شبابه متحدثا عن نفسه التي يقدرها تقديرا إيجابيا بلغ بها كبد السماء:
أي ُّ محل ٍّ أرتقي ـ أي عظيم أتقي؟..
وكلُّ ما خلق اللـــــــه ُ وما لم يخلـقِ
محتقرٌ في همّــتي ـ كشعرة في مفرقي
وهو الموقف الذي ظل عليه طيلة حياته، ولا يتنازل عليه حتى في الظروف الحالكات وها هو يقف أمام سيف الدولة يخاطبه في مجلسه مادحا أو بالأحرى والأصح معاتبا :
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ـ بأنني خير من تسعى به قدمُ..
واضطر أحدهم أن يقول له: وماذا أبقيت للأمير بعد هذا؟!!.. بمعنى أن المتنبي ذهب في صورة تقدير الذات حدا تجاوز بها كل حد، على نقيض الحطيئة الذي كانت صورة الذات لديه منحطة .. ولعل اسمه ذاته مستمد من الانحطاط النفسي الشامل الذي كان عليه..
النقد الذاتي إذن على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة، ليس هو رغبة ذاتية نتحكم فيها بل هو واقع موضوعي متشعب يفرض على الذات الفردية أو الجمعية توجها ما سلبا أو إيجابا ..
إن التوازن النفسي، من خلال النشأة في بيئة غنية متوازنة تتوفر فيها عوامل الحياة الكريمة وتخلو من التوترات والصراعات هو ما يسمح برؤية الأبعاد المختلفة على حقيقتها، ويسمح بتقدير الذات تقديرا قريبا من الواقع ومن الحقيقة.. ومن ثمة صدور نقد موضوعي للذات يسمح للشخصية أن تتجاوز نقائصها وأن تزدهر وأن تطلق العنان لكل إمكاناتها لأن تنمو إلى أبعد مدى تلك الإمكانات.. وحالة الفردبالضرورة تنطبق على الجماعة .. إن النقد في أي حالة من أحوال التوتر والاضطراب والعوز والألم سيتجه ذات اليمين وذات اليسار ولن يكون مفيدا لأنه سيكون نقدا متشنجا.. لقد كانت نفس الحطيئة متأججة بالكره لمن حوله حين وجد نفسه فردا غير معترف به حتى في نسبه، فصب جام غضبه على الدنيا حوله، ولما لم تسع الدنيا حقده آذى نفسه.. ولم يستطع قط أن يرى تلك القدرات العظيمة وتلك الموهبة الفذة في فن القول.. وظل وجهه القبيح ماثلا أمامه في صفحة ماء البئر .. في حين زُرع في المتنبي فكرة أنه ابن الأكرمين وأنه هو في ذاته معدن الذهب الإبريز.. فقدر نفسه كما سلف، وقدّر موهبته حق قدرها؛ يسهر الخلق جراها ويختصم..
النقد الذاتي تابع لتقدير الذات .. والتربية الصحيحة التي يتلقاها الفرد في أسرته وفي المدرسة وفي المجتمع تسمح له بتوجيه نقد محدد وفق تلك التربية على أن أقوَم نقد هو النقد النابع من الشعور بالآخرين في شتى أحوالهم باعتبارهم من المصادر الثرية التي تغني شخصيته وتغني الوجود حوله، والمنبثق من الاعتراف بالكفاءة والقدرة حيث هي بعيدا عن روح الكره أو الجحود أو الانتقام، وإن الناقد الذاتي الذي ينصف نفسه مسؤول يتحمل المسؤولية الفكرية والأخلاقية فيما يصدر عنه، ولذلك هو القادر على إنصاف الأفراد والجماعة التي حوله، والناقد القادر على رصدالعيوب والمحامد في نفسه أولا هو القادر على إنتاج أحكام متوازنة يعول عليها في كل تقويم؛ ورحم الله امرأ عرف مقدار نفسه، وأنزلها منزلتها .. وقديما قال المعيدي عن نفسه مبينا جوانب قوته ونقاط الضعف في شخصيته:
(أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه..)
أي أنه رجل فكر وحكمة .. ولكنه على وجه المشاهدة والمعاينة لا يسمو لتلك المكانة..
شكرا لك لأنّك جعلتني أسهب في الردّ..وعلى الخير نلتقي..