[align=justify]
قد ترجع أصول الشعر الشعبي، والحكايات الشعبية فـي المجتمع الفلسطيني إلى جذور عالمية مشتركة، مع المجتمعات الأخرى، توارثتها الأجيال عن الأمم البدائية، ومعتقداتها الدينية القديمة، فضلاً عن عوامل محلية إقليمية أخرى.
ثمة عوامل كثيرة أخرى أثرت فـي الشعر الشعبي عند المجتمع الفلسطيني، لخصوصية هذا المجتمع، الذي وقع تحت نير الاحتلال، لقرون عدة(1).
فهناك قصص حب رائعة، تكشف عن نبل العواطف، تضاهي روائع الأدب العالمي، وأيضاً، قصص كفاحية مرتبطة بالكفاح والنضال ضد الاحتلال، منذ العصر العثماني، حتى الآن، تنتقل من الآباء، إلى الأبناء، ومن الأجداد للأحفاد. وهي قصص ذات إطار سياسي، ومضمون وطني، وطبقي، فـي آن. مثل قصة (ممدوح ومبا)، التي تصور، خلال قصة حب، كفاح جبل العرب ضد الفرنسيين، وقصة حسين العلي، من عرب الصقر، التي تصور كفاح الشعب الفلسطيني ضد الإنجليز. وعليه، فإن التراث الشعبي الفلسطيني غني بقدر غنى كفاح هذا الشعب(2).
شارك الشعر الشعبي بدور واع فـي خدمة القضية الوطنية الفلسطينية، مناهضاً للاحتلال، محفَّزاً على المقاومة، بجوار الفنون الأخرى. كما تعد ثورة 1963، منعطفاً جديداً فـي تاريخ الأغنية الشعبية فـي فلسطين، فـي موازاة المقاومة فـي هذه الثورة(3).
تقول الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي:
يا بريطانيا لا تغالي . لا تقولي الفتح طاب .
سوف تأتيك الليالي . نورها على الحراب .
لقد ركز شعر الثورة الشعبي في ثلاثة موضوعات: شعر المعارك، شعر البطولات الفردية الشعبية، وشعر الحماسة(4).
وقد تناولت الأغنية الشعبية أحداث الثورة، والمجاهدين. واعتاد الشعراء طواف القرى، والمدن، فعمت روح النضال والثورة أنحاء البلاد(5).
تعد الاحتفالات الشعبية واحدة من أهم وسائل التعبير الثقافـي، والتي لاقت اهتماماً كبيراً فـي ثورة 1936، فكان هناك الاحتفال بإحياء المواسم الشعبية الفلسطينية، مع استعراض القوة، التي ترمز لقوة «اللجنة العربية العليا» فـي فلسطين، بزعامة الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، والقائد السياسي لثورة 1936، حيث كان يتغنى به، وببطولاته، فقال الشاعر:
لو في نبي بعد النبي . كان النبي هو الحاج أمين .
ومن الهتافات:
سيف الدين الحاج أمين / حاج أمين يا عمنا نفديك بدمنا(6)
شعراء وثوار:
هناك كثير من الشعراء الذين شاركوا في الشهرة، وانخرطوا فـي صفوف الجهاد والثورة، وخاضوا المعارك، وزج بالبعض منهم فـي السجون، واستشهد البعض الآخر، وكان لشعرهم أثر كبير فـي نفوس زملائهم المجاهدين، خصوصاً، وعلى أفراد الشعب عموماً.
من هؤلاء الشعراء الثوار فرحان سلام، شاعر شعبي، شارك فـي الثورة، وفريد عودة، الشاعر الشعبي الثائر، الذي زج به فـي المعتقل، والشاعر موسى محمد الرحَّال، الذي كان يحرث الأرض بالنهار، ويطارد قوات الاحتلال فـي الليل، والشهيد عوض، ولايمكن أن ننسى الشهيد المجاهد نوح إبراهيم، قائد الثورة فـي منطقة الجليل الغربي(7).
لم يعتمد أكثر الشعراء الثوريين على التجارب العامة للشعب الفلسطيني، وإنما اشتركوا، عملياً فـي صنع تلك الكفاحات، ودفع كثير منهم عمره ثمناً لهذا الموقف، حيث وقفوا فـي الصفوف الأولى فـي المعارك واعتقلوا، واستشهدوا، وحكم عليهم بالإعدام، مما جعل لشعرهم طعما خاصاً(8).
الشهيد عوض ، ابن مدينة نابلس (جبل النار) ، كان مثله مثل آلاف الشباب الغيورين على وطنهم، ولم يكن يملك ثمن السلاح، فباعت زوجته ذهبها، لتشتري السلاح، فيلحق بأخوة له سبقوه إلى الكفاح، لكن عوض يقع أسيراً، ويصدر ضده حكم بالإعدام(9).
ليلة تنفـيذ الإعدام فـيه، تذكر الفتى، ابن الثالثة والعشرين، زوجته، وأطفاله، وشقيقيه، اللذين سبقاه فـي الشهادة، وتذكر شعبه البطل، فأخذ قطعة من الفحم، وسجل بها على جدار السجن أروع القصائد الشعبية، التي عبرت عن التضحية والصمود والإصرار ، قبيل ساعات من تسجيل اسمه فـي سجل الشهداء الخالدين(10).
قام زملاء «عوض» فى السجن بحفظ القصيدة، ونشرها خارج السجن.
ياليل خلي الأسير تايكمل نواحه رايح يفيق الفجر ويرفرف جناحه
ويعاتب الليل بأنه يمرجح المشنوق، ويقف موقف المتفرج من آهاته، وأنه فرق شمل الأحباب. يقول عوض إن دمعه ليس خوفاً، بل على الأوطان وأطفاله، وأيضاً، على أخويه اللذين سبقاه فـي الشهادة، وزوجته التي لم يترك لها حتى أساورها، وفـي النهاية قال عوض:
ظنيت لنا ملوك تمشي وراها رجال . تخسا الملوك إن كانوا هيك أنذال .
والله تيجانهم مايصلحوا لنا نعال . إحنا إللي نحمي الوطن، ونضمد جراحه(11) .
نوح إبراهيم نموذج رائع آخر للشاعر الكادح، والثوري الشجاع حتى النهاية، الذي ضحى بروحه، واستشهد وهو مرابط على السلاح. يتحاكى الناس ببطولاته، بالقدر الذى يتغنى به الصغير والكبير فـي المدن والقرى بقصائده. كان إبراهيم يكتب الشعر، ويلحنه، ويغنية، فكان يسهم، جسدياً، فـي معركة بلاده لمقاومة الاحتلال، ويتجول بين القرى، يخطب، ويرتجل الشعر، ملهباً المشاعر الوطنية للأهالي، لحثهم إلى الانضمام إلى صفوف المجاهدين(12).
سجل ابراهيم لحظات الثورة، لحظة بلحظة، بالكلمة، والغناء. وعندما استشهد الشيخ عزالدين القسام، أبدع ابراهيم قصيدته !
عز الدين يا خسارتك . رحت فدا لأمتك .
مين بيذكر شهامتك . يا شهيد فلسطين .
فالقسام هو الشجاع الذي ضحى بروحه من أجل استقلال فلسطين، ووضع أسس الجهاد، وجمع الرجال، والسلاح، والمال، لكن الغدر والخيانة لعبا دورهما، ووقعت الكارثة. يتمنى نوح السير على درب القسام، والموت على طريق القسام، فداء لفلسطين، ويختتم إبراهيم قصيدتة:
إقروا الفاتحة يا إخوان . على روح شهداء الأوطان .
وسجِّل عندك يازمان . كل واحد منا عز الدين .
يخاطب إبراهيم مستر “دل”، القائد العام للجيش البريطاني فـي فلسطين، أواسط ثلاثينات القرن العشرين، بقصيدة، من أكثر قصائده شهرة، حتى الآن.
دبِّرها يامستر "دل" . بلكي على يدك بتحل .
كما أكد إبراهيم للجنرال البريطاني أن الشعب لن يتخلى عن كفاحه لإجلاء قوات الاحتلال.
فقال:
ياحضرة القائد "دل" . لا تظن الأمة بتمل .
إن كنت عاوز ياجنرال . بالقوة تغيرها لحال .
لازم تعتقد أكيد . طلبك صعب من المحال .
لكن خذها بالحكمة . واعطينا الثمن يا خال .
ونفِّذ شروط الأُمة . من حرية واستقلال .
ندد إبراهيم بمحاولات بريطانيا قمع الثورة، وطالبها أن تمنع هجرة اليهود، وبيع الأراضي الفلسطينية لهم:
بدنا تفهم بريطانيا . حتى تكفينا شرها .
وتصافي الامة العربية . لمنع البيع والهجرة .
فـي نهاية القصيدة، طالب نوح المستر «دل» بسحب جيوشه، وألح على بريطانيا لتنفـيذ وعودها:
مادمت صاحب السلطة . حل هالمشكلة وهالورطة (13) .
يشيد إبراهيم، ويفتخر بوطنه وشعبه العربي الفلسطيني، الذي لم يرض عن الاستقلال والجلاْء بديلاً.
عبر إبراهيم عن روح التحدي، والفداء، وأبرز فكرة الوطن المقدس، فقال:
يحيا الوطن يحيا الدين . يحيا شعب فلسطين .
وانتو يا شعب العرب . عالحكومة منصورين .
تلت سنين بالليالي . مانمنا بالعلالي .
وإحنا برأس الجبال . للحرب مستعدين .
عبرت إحدى أغانى إبراهيم عن حبه الجارف لفلسطين، حين قال:
اطلع راس الجبل وأشرف على الوادي
وأقول يا مرحبا نسَّم هوا بلادي (14)
يخاطب إبراهيم رجال الميناء فـي يافا، عام 1936، على أثر الإضراب، فيقول:
في الإضراب ضحوا كثير . واجهوا الأمر العسير .
وكانوا مَثلَ للجميع . من كبير ومن صغير .
ست أشهر صبر علطول . رفضوا الربح الوفير .
والمثل يحكي ويقول . الشرف عند الفقير .
لم ينس إبراهيم الأطفال من أبناء فلسطين، فغنى لهم قصيدة، لبث روح المقاومة وحب الوطن فـيهم:
أنا العربي ياعيوني . عند الموت أرمونا .
يمحي أُمم الصهيوني . لأحمي بلادي فلسطين .
من كيد المستعمرين
فى السياق نفسه تغنى إبراهيم بشجاعة المرأة الفلسطينية، وتضحياتها:
اسمعوا لي يا سادات . خصوصا ياسيدات .
قصة شاهدتها بالذات . من إمرأة قروية .
قصة عجيبة ياناس . حوادثها بترفع الراس .
واللي عنده إحساس . بتعمق فيها شوية .
إلى أن يختم:
إسمعوا يا أهل الهمة . وخصوصا نساء ها الأمة .
حيوا جميعا ها الحرمة . أم النخوة والحمية .
هلي نكرت إبنها . لأجل إنقاذ وطنها .
تحمَّلوا وخذوا عنها . هالمبادئ العلية .
وترجموا هالحكاية . لكل اللغات الحية .
ازعموها رواية . تقرأها الأمة العربية .
اقرأوا الفاتحة للشهداء . اللي ضحوا ارواحهم فداء .
وهكذا فلتكن النساء . وكل أمرأة عربية (15) .
كان حس إبراهيم القومي وفهمه للمد العربي، لا يقل عن إحساسه بقضية التحرير والمقاومة، حيث أدرك إبراهيم بأن قوة الشعب الفلسطيني من قوة الأمة العربية، ووحدتها، فأنشد:
العمر سوا عايشين . مايفرقنا ملة ولا دين .
السوريين والمصريين . والعراق وفلسطين .
الدين والمذهب لله . أما الوطن للجميع .
خاطب إبراهيم الزعماء العرب، وناشدهم إنقاذ فلسطين من المؤامرة الصهيونية:
مالنا غير الله وأنتم . ياملوك المسلمين .
شمروا عن سواعدكم . لإنقاذ فلسطين .
لم يفت إبراهيم تحية الشعوب الأخرى، التي تؤازر الشعب الفلسطيني، فـيحيي الشعب الهندي: «حتى الهنود قامت تطالب نصرتنا»(16).
دخل إبراهيم المعتقل، عام 1937، ثم سجن عكا، ولم يترك نوح هذه الفرصة، إلا وحكى عن ما حدث له ولزملائه، من تهم مفبركة، يمكن الحكم عليه بالإعدام، بسبب إحداها. يرتجل إبراهيم القصائد الشعبية ويتغنى بها داخل السجن، ليحث زملاءه على الصمود، ويبث فـيهم روح الحماس والتحدي، فأضرب السجناء عن الطعام، للحصول على حريتهم، وعندما ذاع الخبر، أعلن الإضراب العام فـي عكا، وحيفا، والناصرة.
لم يفت نوح تحية المعتقلين والشهداء فـي ثورة 1936:
الله يحمي المعتقلين . والزعماء المنفيين .
نيَّاله اللي تعذب . في سبيل الألم والتعب .
نيَّاله اللي تعذب . وذاق الأم والتعب .
مش هذا ابن العرب . هذا نهل المشهورين .
ظل إبراهيم يكتب، ويلحن، ويغني، حتى استشهد، وهو فـي طريقه للاشتراك فـي اجتماع لقيادة الثورة، فـي منطقة الجليل الغربي، صيف 1937(17).
تقديرا للفنان والمجاهد الشهيد نوح إبراهيم، تم إنشاء جائزة للتراث الشعبي، حملت اسمه، عام 1983، صدرت باسم «لجنة موسوعة الفولكلور الفلسطيني»، التي تأسست فـي البيرة، عام 1966. منحت جوائز مالية وتقديرية للمبدعين فـي مجالات التراث الشعبي(18).
شعــراء الثــورة:
ثمة شعراء ارتبطت أسماؤهم بثورة 1936، مثل الشاعر أبي سلمى، وعبد الرحيم محمود، ومطلق عبد الخالق، وإبراهيم طوقان، الذى كان يتردد شعره ويتغنى به مثل:
موطني موطني، الجلال، والجمال، والصفاء، والبهاء فى رباك
والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك
ونشيد:
وطني انت لي والخصم راغم وطني أنت المنى
كان نشيد الثورة يتردد فـي المدارس، وفـي الكشافة، وفـي المظاهرات مع أناشيد أخرى، مثل:
نحن جند الله شباب البلاد نكره الذل نأبى الاضطهاد
ونشيد:
يا ليوث الوغى خصمنا قد صفى
ونشيد:
سيروا للمجد طرا سيروا للحرب
ونشيد:
شبوا على الخصم اللدود من رقاد مستديم(19)
أما الشاعر الشعبي محمود زقوت، فقد وصف المعارك بطريقة رائعة:
بمعركة وادي التفاح . ريح الجنة ياعالم فاح .
استشهد فيها الفلاح . حط السنجة(*) في المرتين(**) .
وقعة جرزيم وعيبال . شيَّبت روس الأطفال .
انخذلت فيها الأنذال . بفضل القائد فوز الدين(*) .
المندوب في البلاغات . قال ما وقع إصابات .
اعترف بجرح الضباط . يعني الجنود محجبين .
أما نسف القطارات . سار موضة من الموضات .
وانقلاب الدبابات . شلحوا العسكر مرتين .
تَّرخ عندك يازمان . ظلم وغدر الغربين .
كما حرص الشاعر على تسجيل أخبار المواقع والأحداث، فغدت القصيدة بلاغاً عسكرياً. كما دعا الشاعر التاريخ إلى أن يسجل ظلم المحتلين، وغدرهم، ما دلَّ على حسّ وبُعد إنسانيين متحضرين، يتجاوزان المعارك.
فـي أبيات رثاء لبطل استشهد، بعد مقاومة، يصف الشاعر فـيها شكل الشهيد، ويمجَّد بطولته، ويصور كيف أن عساكر الاحتلال لم يخفوا إعجابهم ببطولته، ودهشتهم لشجاعته:
قال أبو الجلدة وأنا الطموني ياولاد العرب ليش تخونوني(20)
الشاعر المناضل عبد المنعم، كما اعتاد أصدقاؤه أن يدعونه، أيام شبابه، بدأ الكتابة فى ثلاثينات القرن العشرين، التي شهدت الانتفاضات البطولية، التي توجَّت بثورة 1936، قدم عبد المنعم نفسه فـي قصيدة «عزة نفس»، التي عبر بها عن كل الشعب الفلسطيني.
عزة النفس" ثروتي في حياتي . وثوبي المحمود بعد مماتي .
الست أرض بالمال يفقر نفسي . لأوان صارلي غنى المملكات .
لا ولا اللين في خضوع وذل . ارتضيه زلفى لدى السادات .
كان صريحاً وشجاعاً فـي محاربة الظلم وأسياد المجتمع، فقال:
لقد أزعج الناس بالانتقاد ليذكر بالشر في كل ناد
لم ينس أن يشيد بزملائه الوطنيين فـي اللجان والهيئات الوطنية:
هم الشباب وما الشباب سوى العزيمة في اتقاد
شعل وتوهج ليس تخمد او تحول إلى رماد
دعى الشاعر نفسه إلى وحدة الصف ، واستقواء الوطنيين بتلك الوحدة:
فتعاونوا وادعوا لمبدئكم بصدق واتحاد
إن الحقيقة سوف يسطع نورها في كل واد
ويشحذ همم الأبطال:
من للحمى غير ثوار بأوطان جلوا بأفعالهم عن كل تبيان
إلى ذلك حث عبد المنعم شعبه على عدم الركون للوعود الاستعمارية، وأن يستمر فى الجهاد:
تعاضدوا يابني قومي فتنتصروا إن التعاضد يفني كل عدوان
[/align]