الحلقة الأولى، التَّعَارُف
عصرَ يوم شتائي ماطر من أيام كانون الثاني عام 1980، غادرتُ وصديقي محمد مباركة عملَنا في مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية بدمشق.. وفي الطريق إلى موقف الباص، رحنا نتجاذب أطراف الحديث، كعادتنا كلما خرجنا معاً، فإذا بحديثنا يجذبنا ذلك اليوم إلى ما كنا نُسميه نشاطاتنا الأدبية... وكنتُ يومها أكتبُ الشعرَ ظاناً نفسـي واحداً من الموهوبين فيه، بينما كان محمد يكتب القصة القصيرة والمقالة.. ولأن الحديثَ عن آخر كتاباتنا تَشَعَّب واتسع حتى أَخَذَ منا كلَّ مأخَذ، غفلنا عن موقف الباص فتجاوَزْناه، ولـمَّا انتبهنا إلى تجاوزنا له، كنا قد ابتعدنا عنه مسافة طويلة، فقررنا إكمال الطريق إلى بَيتينا ماشِيَين، لرغبتنا في إتمام حديثنا الذي بدأناه، غير عابِئَين بِبَرْدِ ذلك اليوم وبُعْدِ ما تبقَّى من الطريق، ولا باحتمال عودة المطر الذي توقَّفَ إلى التساقط، في أي لحظة، من جديد..
سرنا طويلاً، غير مُكْتَرِثَين بالمطر الذي عاود التساقط خفيفاً.. وفي ذروة حماسي دفاعاً عن (شاعِرَيَّتي) وتضخيماً لها، التفتَ إليَّ محمد فجأةً وقال: أريد أن أُعرِّفَك على صديق لي شاعر.. هو شاعر غزل جميلٍ جداً.. وأرجو منك أن تُقارن شعرك بشعره بعد سماعه أو قراءته، لتعرف أن هناك مَن موهبتُه تَفُوقُ موهبتَك.. سنذهب إلى بيته الآن.. ما رأيك؟
فاجأني محمد بعرضه هذا، وإلى حدٍّ ما أزعجني إلى درجة النفور من التعرُّف على صديقه الشاعر، ولذلك حاولت التملُّصَ من الزيارة معتذراً متعللاً بحالة الطقس، فإذا به يُسقِطُ عِلَّتي قائلاً: لا تتعلل بالبرد والمطر، فبيتُه قريبٌ جداً من بيتك، أي أنك ذاهبٌ إلى حيث يسكن، على أي حال.. وألحَّ عليّ: لن أقبلَ منك أيّ عذر..
ثم أضاف محاولاً ترغيبي بالزيارة: إنه شاب في مثل عمرنا، وحديثه لطيف، كما أنه يعمل في نفس مجالنا، إنه صحفي أيضاً.. وكنا آنذاك نعدُّ نفسينا، أنا ومحمد، من الصحفيين، على الرغم من أن عملنا في مؤسسة الأرض كان تدقيقَ المقالات والأبحاث المترجمة أو التي يكتبها باحثو المؤسسة آنذاك، تدقيقاً طباعياً ونحوياً لا أكثر..
سألتُه عن مكان عمل صديقه هذا الذي لم يخبرني باسمه بعد، فقال لي إنه يعمل في جريدة تشـرين، مدققاً لغوياً مثلنا.. فضحكت، وقلتُ له: وما اسم صديقك الصحفي والشاعر هذا.. فأجابني بلهجة فيها كثير من المحبة: طلعت سقيرق..
توقفتُ عن المشي لحظة، وحَكَكتُ جبيني، فِعْلَ مَن يحاول البحثَ عن الاسم في ذاكرته، عَلَّه يعرفُ صاحبَه أو سمعَ به من قبل، ولـمَّا وجدتُ الاسم جديداً على سمعي، قلتُ له: في الواقع، لم أسمع به من قبل..
هزَّ محمد رأسه مُؤكداً استنتاجي، ثم أردف قائلاً: نعم.. أنا واثق أنك لا تعرفه، ولذلك اسمح لي أن أتحدث لك عنه قليلاً، ريثما نصل إلى بيته.. إنه شاعر غزل بالدرجة الأولى.. وغزله جريءٌ إلى حدٍّ ما، لكنه بالإضافة إلى الغزل، له قصائد جميلة عن فلسطين، وقد نشر المجموعة الأولى من قصائده في ديوانين صَدَرا منذ فترة قريبة...
قلتُ له، وأنا أبتسم: ما شاء الله، الشاب همته عالية، على ما يبدو..
ردَّ عليَّ مؤكداً: نعم.. بدليل أنه بدأ يعدُّ لنشر ديوانه الثالث، هذا بالإضافة إلى نشاطه في نشـر عدد لا بأس به من قصائده الرائعة عن فلسطين..
ضحكت وقلتُ له: إذن هو فلسطيني مثلك؟ قال: نعم.. ثم تابع مُسهباً في الحديث عنه وعن شعره وعن صحبتهما القديمة دون توقُّف، حتى وصلنا إلى بيته، في حيِّ الشيخ محي الدين بدمشق، أي في نفس الحي الذي أسكنه، ولكن في طرفه آخر.. فقد كان بيته أقرب إلى السوق المشهور بين أهل دمشق باسم سوق الجمعة الذي وصلناه مساء..
وقفتُ مع محمد في ساحة السوق، وقد بلَّل المطر الذي ازداد تساقطُه ثيابَنا، وسألتُه محاولاً إشعاره بالتذمُّر: هل ما زال البيت بعيداً؟
فأجابني: لا.. لقد وصلنا تقريباً.. اتبعني...
وتبعتُه، فغادر الساحةَ منعطفاً بي يميناً إلى طريق فرعي يُفضـي آخره إلى بيتي، لكننا لم نمشِ فيه سوى خطوات قليلة حتى غادَرْناه مُنعَطِفَين يساراً إلى زقاقٍ فرعي، في منتصفه حارة ضيقة، تضمُّ بضعة بيوت عربية قديمة، وقفنا عند باب أحدها، وقرع محمد جرسه..
وما هي إلا لحظات، حتى فتحَ لنا الباب شابٌ طويل وسيم الوجه مُتهَلِّلُه، ما إن شاهد محمد حتى هتف به مُرَحِّباً بحفاوة: أهلاً محمد.. وحين رآني معه، أضاف: أهلاً بك وبمن معك.. تفَضَّلا..
أَدْخَلَنا إلى غرفة صغيرة على شكل مستطيل طويل وضيق، فيها أريكة من خشب طُرحَ عليها فراشٌ بسيط مغطى بسجادة قديمة، كما أذكر، وفي صدرها طاولة صغيرة عليها بعض الأوراق، وإلى جانبها مدفأة مازوت صغيرة سوداء اللون، أما الأرض فقد فُرشَت ببساط قديم حائل الألوان.. وقبالة الأريكة مكتبة جدارية متواضعة، رُصَّت الكتب على رفوفها القليلة...
وبسرعة، أَنبأَني إحساسي أنني في بيت إنسان بسيط من نفس طبقتي الاجتماعية، ومن نسيجي الثقافي، فضلاً عن كونه خرِّيجَ لغة عربية مثلي، ومحبّاً للأدب، وشاعراً، وفي بدايات ممارسة العمل الصحفي أيضاً.. وربما لذلك كله، ولتخميني بأنه ذو طبيعة منفتحة على الآخرين، سرعان ما شعرتُ بالأُلْفَة تجاهَه.. وهي ألفة زادها بحديثه المتدفق وابتسامته العريضة، وتلك الطيبة التي كانت لا تنفكُّ تُطِلُّ من عينيه غامرةً كلَّ من حوله..
في تلك الغرفة الصغيرة التي عَبَقَتْ بدخان السجائر، فقد كنا ثلاثتنا من المدخنين، بدأ حديثنا عامّاً، ثم ما لبث أن بدأ ينعطف رويداً رويداً نحو الشعر.. بدا لي متحمساً زيادة عن اللزوم، لكنه كان مع ذلك مقنعاً.. الأمر الذي جعلني أتفق وإياه في معظم ما تحدثنا عنه، لكن توافقنا السريع لم يُغنِني عن الرغبة في سماع بعض شعره، كما لم يُغنِه عن الرغبة في سماع شيءٍ من شعري.. وحين سألني أن أُسمعه بعضَ قصائدي، اعتذرتُ له بأنني لا أحفظ أشعاري ولا أحمل أيّاً من نصوص قصائدي معي، لأن زيارتي له كانت مُفاجئة، مُؤكِّداً أنني سأحمل دفتر أشعاري معي في الزيارة القادمة، وطالباً منه أن يُسمعِني هو بعض شعره، أو يُعطيني قصيدة له كي أقرأها عنده أو في بيتي إن أمكن، مضيفاً، لترغيبه: لكثرة ما حدثني محمد عن جمال شِعرك، أثناء الطريق، شَوَّقني لقراءته وسماعه..
لم يُعلِّق طلعت على مديحي غير المباشر، بل اتجه إلى المكتبة بخطوة واثقة، ومدَّ يده إلى أحد رفوفها، وأخرج من بين الكتب التي كانت مرصوصة فوقه، كُتَيِّبين صغيرَي الحجم، وقدَّمهما لي قائلاً: إنهما ديوانَي الأوَّلَان، سأكتبُ لكَ إهداء على كلٍّ منهما، وبعد أن تقرأهما في البيت، أرجو أن تُصارحني برأيك فيهما، فرأيُك يهمني، لأنك تكتب الشعر أيضاً، كما فهمت من حديثك معي.. أمّا الآن فأستأذنكما قليلاً، لإعداد إبريق الشاي..
أبديتُ سروري بهديته، ولكن حين مددتُ يدي لآَخُذَ الديوانَين، إذا بمحمد يقول لي دعهما، فلن أسمح لك بأخذهما إلا إذا وافق طلعت على إسماعنا إحدى قصائده بصوته، لأن إلقاءه للشعر مميز جداً..
قلت: حسناً.. أنا موافق..
ضحك طلعت وقال: وأنا موافق أيضاً، لكن ونحن نشرب الشاي، أو بعد أن ننتهي من شربه..
ثم خفَّ لتحضيره والعودة إلينا سريعاً..
في غيبته، أخبرني محمد أنه عمل وطلعت، قبل تخرُّجهما من الجامعة، معلمَين وكيلَين، في قرية بريف دمشق تُسمى (حفير)، وأنهما كانا سعيدَين في عملهما بها على الرغم من بُعدها وصعوبة التعامل مع طلابها.. ومصدر سعادتهما أنهما تركا تأثيراً قوياً في طلابهما، كما اكتسبا تجربة حياتية تستحق الكتابة عنها، لغناها.
لم يغب طلعت طويلاً.. وما إن عاد وانتهى من صبِّ الشاي لنا في الأكواب، حتى تناول أحد الديوانين، وفتحه استعداداً لقراءة إحدى قصائده، لكنه قبل أن يبدأ القراءة، قال لي ممازحاً: بشرفك، هل استطعت أن تقرأ إهدائي لك على الديوانين؟
ضحكتُ وأجبتُه: لن أكذب عليك، حاولت، لكن بصعوبة..
سألني متصنعاً عدم معرفة السبب: لماذا؟
قلتُ له: بدون زعل، السببُ خطُّك العجيب الذي لم أستطع قراءته إلا بطلوع الروح..
ضحك، وضحك محمد أيضاً، ثم قال لي: معك حق، الكل يقول إن خطي (مفشكل)، لكنني لا أستطيع الكتابة بخط أحسن.. حاولتُ ولم أنجح.. وبالفعل، بقي خطه على حاله تلك حتى آخر أيامه..
بعد ذلك، تناول رشفة شاي من كوبه، وعبَّ نفساً طويلاً من سيجارته، ثم بدأ يقرأ، بصوت آَسِرٍ فعلاً، أبياتاً من قصيدة غزلية، لم أعد أذكرها الآن، ولكنني سأظل أذكر أن مضمونها وقراءته لها أقنعاني، منذ ذلك اليوم وإلى الآن، بأنه شاعر حقيقي، وليس مثلي.. والعجيب أنني قبلتُ بتلك النتيجة، وأحببتُه على الرغم من قسوتها على قناعتي بـ (شاعِرِيَّتي)، مع أن العُرف السائد بين أصحاب المهنة الواحدة أو الموهبة الواحدة، هو التنافس والحسد وربما التباغض والكيد لبعضهم أحياناً.. لكنني لم أستطع أن أكره طلعت بعد اكتشافي أنه أكثر موهبة مني، ولا حتى حين نصحني، لاحقاً، بترك ميدان الشعر، والاكتفاء بكتابة القصة القصيرة التي رأى أنني أكثر قدرة على كتابتها من الشعر.. وأعترفُ الآن بأن نصيحته تلك قد آتت ثماراً طيبة فيما بعد..
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|