رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]كان علي أن أنتظر دهرا قبل أن يجود علي أخيرا بلقاء لم أكن أتوقعه .. صدفة كنت أشذب بعض الأغصان المتدلية على حافة نافذتي المشرفة على النبع ، وفي نيتي النزول إليه لتناول فطوري تحت الشجرة الكبيرة التي تظلله طول النهار .. فأنا لاأطيق تناول وجبة من الوجبات بين أربعة حيطان ..
جلست وخرير المياه يملأ الفضاء فيضفي على النفس بهجة .. سرح خيالي مع انسياب الماء إلى أبد مدى حيث الأعشاب المنتصبة في إباء وهي تتلألأ تحت أشعة شمس الصباح الزاهية .. مددت يدي أرتشف بعض الجرعات من ماء النبع الصافي حين تناهت إلي ترنيمة اخترقت خرير المياه .. حسبت أن ما سمعته هو من اثر الخرير المتواصل .. لكن الترنيمة كانت تقترب مني حتى صارت أكثر وضوحا من ناحية المرتفع المطل على النبع حيث الأشجار الكثيفة .. هل تكون بدوية خرجت للحطب ؟ .. لا عجب في ذلك فقد تعودت على مرور الكثيرات في هذا الوقت بل وفي ساعة مبكرة من النهار ..
انتظرت أن بيتعد الصوت نحو أعلى الجبل حيث تعود الجميع جمع الحطب أو رعي الماشية .. لكن الترنيمة كانت تخترق الأشجار متجهة صوب النبع .. لا شك أن إحداهن آتية لملء جرتها من الماء .
تركز بصري على مسلك لا يرى بسهولة عند الصخرة الجاثمة على النبع حيث انتبهت إلى تحرك بعض الأعشاب لتنفرج عن غادة ملتحفة بملاءة سوداء غطتها من أعلى كتفيها إلى كعبيها .. بينما لف راسها منديل أسود أيضا انفلتت منه خصلة من شعرها الكستنائي لتغطي جزءا من جبينها ..
كأنها فوجئت بتواجدي هناك على مقربة من فتحة النبع ولمست حيرة من عينين خضراوين واسعتين .. وكأن حيرتها أصابتني بالعدوى فلم أتحرك من مكاني إلى بعد أن انتبهت إلى التفاتها يمينا وشمالا بحثا عن موضع مناسب ربما لغسل وجهها وأطرافها دون أن تبلل ملاءتها .
تحركت من مكاني موليا وجهي شطر البيت مبديا بإشارة من يدي عن اعتذاري فند عنها صوت رخيم :"لا بأس .. هي فقط لحظات وأنصرف .. أعتذر عن الإزعاج."
لا أدري ما شدني إلى الأرض وجعلني لا أتزحزح قسد أنملة ، بل وأعود أدراجي إلى زاوية قريبة من النبع لأتابع تأملي لما يحيط بي من خضرة ومياه .. هل الفرصة مواتية لأسألها عمن تكون ومن أين أتيت ؟ ألا يكون هذا الفضول جرأة مبالغا فيها ؟ .. قد تصمت أو تجابهني بكلام لا أطيقه ، وأنا جد حساس من هذه الناحية ..
- هل تسكن هنا ؟
لسؤالها وقع جميل على نفسي .. فقد أنقذني من حيرة كانت تمزقني للحظات ..
- مؤقتا .. آتي إلى هنا طلبا للراحة والهدوء ..
- هل أنت شاعر ؟
- قد لا أعتبر نفسي ذلك لكن قولي إنني أعبر عن مشاعري بمحاولات شعرية ..
ضحكت فمادت بي الأرض وقالت :
- يا له من تواضع جميل .. فعلا هذه ميزة الشعراء ..
- وأنت ؟
- أنا ؟؟ ..
ثم صمتت .. لمحت في عينيها نظرة حزن قبل أن تغض بطرفها .. وكان علي أن أنتظر برهة قبل أن اسمعها تتابع متنهدة :
- أنا هنا مثلك لأرتاح ..
- مم ؟
- من عدة أشياء لا أريد أن اشغلك بها .. كن بخير ..
- لكننا لم نتعارف كفاية ..
- قد يحصل هذا لاحقا .. تشرفت بالحديث إلى شاعر لطيف .
أدخلت خصلتها المنفلتة من تحت منديل الراس ثم انسابت بين الأعشاب تاركة إياي محدقا في ذهول تارة إلى الصخرة حيث كانت تجلس وتارة إلى النبع حيث كانت يديها الناعمتين تعبث بالماء المتطاير ..
كيف سأقضي النهار وقد تركتي الغادة أتأجج فضولا لمعرفة سرها وسبر أغوار هذا الغموض الذي يلفها ؟ .. هل أفتعل ذريعة لزيارة العجوز طلبا لشيء ما ؟.. سيبدو هذا غير لائق لأني لم أسمح لنفسي بذلك رغم احتياجي أحيانا ..
هرعت إلى شجرتي أتسلقها حتى بدا لي المنزل المجاور بفنائه وفرنه ، بينما اختفى الباب وراء شجرة تين في طور التكوين ..[/align]
|