الموضوع: آخر سيف عربي...
عرض مشاركة واحدة
قديم 26 / 09 / 2014, 20 : 11 PM   رقم المشاركة : [1]
نوفل عيسى
يكتب الشعر والمقالة والأدب الساخر
 





نوفل عيسى is on a distinguished road

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: بلاد العرب

آخر سيف عربي...

(1)
مركبتي ظلٌّ يمخرُ نبضَ القلقِ،
والشطُّ سرابْ،
والبحرُ القاهرُ يصنَعُني صوتاً
يشتعلُ بخوف،
في قِدْرِ بخورْ...
البحرُ الجائرُ يصنَعُني ربّاً،
في ملكوتِ العجزِ يدورْ...
/البحرُ سكوني..
البحر ظنوني...
البحر جنوني،
وبقايا عالميَ المسحورْ/...
وأنا،
ما بينَ الموجَةِ والموجةْ،
أتفيَّأ موتي...
وأنا،
ما بينَ الموجَةِ والموجةْ،
أتهجَّأُ صمتي...
كي أعرفَ ما صرتُ،
فأقرأْ:
"سيفاً مكسوراً صِرْتْ،
وفلولاً من نَزَقٍ مدحورْ،
لربيعٍ مغرورْ"...

(2)
يغضبُ قهري..
ينفَدُ صبري..
أنهضُ،
أبحثُ، لَهِفاً، عن زلزالٍ،
في القعرِ،
يُعَمْلِقُنِي...
أبحثُ عن بعضِ إباءٍ في نفسي
المكسورةْ...
أبحثُ عن قوسٍ مازالتْ موتورةْ،
بكرامةِ أجدادٍ غبروا...
أبحثُ عن قنديلٍ مازالَ يحنُّ لبعثِ النورْ
أبحثُ... أبحثُ...
لكنْ..... عبثاً...
فأنا،
/حسْبَ روايةِ بحري الساكنْ،
وشهادةِ موتي الداكنْ/
آخرُ سيفٍ عربيٍّ،
من زمنِ الأوراق الصفراءْ...
وحكاياتِ الجدَّاتْ،
يُدْفِئْنَ بها أجسادَ الأحفادْ،
في ليلِ شتاءْ...

وَلِتَقْنَعَ أكثرْ،
هاتيكَ حكايةَ (ليلى والرُّبَّان)،
آخرُ ما حَكَتِ الجدَّةْ،
قبل الطوفان...

(3)
كان الرُّبَّانُ جواداً،
والصحراءُ مداهْ...
كان نبيّاً يخرجُ،
فجراً،
من بسمةِ طفلٍ مَرِحٍ،
والأفئدةُ مُناهْ...
كلُّ مُناهْ...
ذاتَ مساءْ...
زارَ الرُّبَّانَ غرورٌ أَفْلَتَ من قمقمِ غدرْ..
أعطاهُ حروفاً صُرَّتْ في خرْقَةِ عهرْ...
حَلَّ الرُّبَّانُ الخرقةَ وَجِلاً،
فتجمَّعَ ما فيها من حرفٍ كلماتْ
صارتْ ذهباً...!
صارَ الرُّبَّانُ غنيّاً،
فَتَحَاشَتْهُ الصحراءْ...
ومضى عَقْدٌ، صار الرُّبَّان،
بأُخْراهُ،
وصيّاً،
يأمرُ بالناسِ وينهى...
فارْتَحَلَتْ عنه محبَّتُهم ونُبُّوَّتُهُ،
وارْتَحَلَتْ عنه الصحراءُ،
فصار الليلُ مداهْ...
إذْ ذاكَ تَمَلَّكَهُ منهم
غضبٌ أسودْ..
صَيَّرُه لِلْتَّوِّ سيوفاً تخرجُ من قمقمِ وَهْمٍ
صَنَعَتْهُ خرافةْ...
وأتى زمنُ الورقِ الأصفرِ،
والأوسمةِ المسقِيَّةِ بالدمْ،
فصارَ الليلُ إلهْ...
وذوى الطفلُ إلى أن صار شبيهاً بالأمواتْ،
لكنْ...، ما ماتْ...
بل غابَ طريداً،
تحتَ الجِلْدِ،
وخلفَ الوَهْمِ الرابضِ في الطرقات....
وبِغَيْبَتِهِ،
ماتَ الرُّبَّانْ...
كان نبيّاً.... صار شقيّاً...
كان نقيّاً.... صار هباءْ...
كانَ وكانَ.... وماتْ...
ماتَ شريداً..
ماتَ وحيداً...
ماتَ، وليلى مازالتْ تحلمُ بالعرسِ وقبلةْ...
ماتَ، وليلى مازالتْ طفلةْ...
تترَدَّدُ خجلى،
كيف تقولُ أُحبُّكْ...

(4)
ماتَ الرُّبَّانْ...
والليلُ طموحُ الموتى...
وكذلكَ مكذوبُ الكلماتْ...
لكنَّ الطفلَ وليلى أبداً ما ماتا،
بل ظَلَّا صِدْقاً يبزغُ نوراً في العَتَمَاتْ..
ظَلَّا أملاً يصدحُ أبداً:
(ضوءُ الأملِ،
لِوَحْدِهْ،
أقوى من كلِّ الظلماتْ...
ضوءُ الأملِ كَلَيْلَى،
حبلى، أبداً، تحلمُ بالفجرْ،
مهما طالَ الوجعُ،
ومهما اشْتَدَّ الألَمُ،
ومهما ارْتَفَعَتْ أمواجُ القهرْ..
ضوءُ الأملِ كَلَيْلَى والطفلْ،
بحرٌ يَتَنَهَّدُ شَطّاً يمتَدُّ حنيناً لسماءٍ،
في لون الطُّهْرْ،
بحرٌ يَتَحَرَّقُ شوقاً لصباحٍ يمسحُ عن صفحتهِ الزرقاءْ
آثارَ ندوبِ الليلْ،
وبقايا طَعَنَاتِ الغدْرْ)...

(5)
ذاتَ ربيعٍ لا مِرْيَةَ فيه،
من مرقدهِ، بُعِثَ الرُّبَّانُ وقامْ،
لِيرى، فَزِعاً، أمواجاً من ليلى والطفل،
تَتَدَافَعُ نحوهْ..
فارْتَدَّ سريعاً نحوَ وراءٍ لا مُتَنَاهْ،
يَنْشُدُ أن يهربَ فيه...
فأبى أن يحملَه الدربُ وغابْ،
فذابَ بِغَيْبَتِهِ الرُّبَّانْ...
كنتُ هناكْ...
ورأيتُ الرُّبَّانَ، بصيحاتِ الغضبِ، يذوبْ.....
كنتُ هناكْ...
ما كانَ المشهدُ حلماً، أُقسِمُ،
أو أضْغاثَ شَقِيٍّ مخمورْ...
بل كان حقيقةْ...
في البَدْءْ،
تَمْتَمَ وَجِلاً:
(عَجَباً... كمْ تلْعَبُ بالرأسِ الخمرْ!)..
وَتَرَاجعَ خطوةْ...
ثمَّ تَرَاجَعَ أخرى، وهو يقول:
(لا.. لستُ بحالةِ سُكْرْ،
بلْ عاد المرضُ الغامقُ يلعبُ بي...
بلْ... لا أدري...
هلْ عادتْ من موتٍ ليلى،
وكذلكَ عادَ الطفلْ؟!
أَمْ مَنْ عادَ؟... أنا؟!
أَمْ ماذا يجري؟
هيَ ليلى.. عادتْ فعلاً، وأنا أيضاً، والطفلْ..
فَلْأَسْتَغْفِرْهَا...
وَعَسَاهَا تَغْفِرُ لي...
رَفَعَ كفَّيْهِ لأَعلْى، مُبتهلاً،
وجثا في حضرتها، يدعوها زُلفى:

(6)
(وجهُكِ ـ يا ليلى ـ آخرُ آلهتي..
وجهُك قلبٌ سمْحٌ يحكمُ مملكتي...
وجهُك نبعٌ نورانيٌّ يخرجُ من كفِّ الشكِّ يقيناً..
وجهُكِ وعدي..
وجهُكِ سعدي..
وجهُكِ، يا وجهَ البدْءِ، صلاتي،
وبخوراً يصْعَدُ أَلَقاً من أدعيتي...
وجهُك...
أعبدُ هذا الوجهَ الطفلَ،
وَهَاتينِ العينينْ..
أعبدُ هذا الشعرَ المُسْدَلْ..
أعبدُ هاتينِ الشفتَينْ..
أعبدُ حركاتِ يديكِ الحمقى...
حركاتُ يديكِ الحيرى سرُّ عذابي...
وجمالُ الطهرِ بعينيكِ كتابي...
فَدَعِيني... أُعلِنْ لكِ حُبِّي،
وَدَعِيني... أَمْنَحْ لكِ قلبي..،
فأنا عبدٌ ملهوفٌ سيدتي...
وأنا)...

(7)
قالَ وقالَ كثيراً،
ثم بكى...
لكنْ ليلى لم تَغْفِرْ،
بل تركتْهُ وَوَلَّتْ نحوَ الطفلِ، وقالتْ:
(ها هيَ غاباتُ الليلِ احترَقَتْ...
ها قد وُلِدَ الفجرْ..
من خاصرتي، طَلَعَ نهاراً،
وَكَسَا آمادَ البحرْ...
فَلْتَتَهَلَّلْ،
يا هذا الطفلُ ربيعاً أخضرَ،
وَلْتُعْلِنْ:

باسْمِ الوجهِ الأزلي...
باسْمِ صباحٍ يُولَدُ من شَغَفِ العينينْ...
باسْمِ حليبٍ مازالَ نَدِيّاً فوقَ الشفتين..
باسْمِ الأملِ...
أُعْلنُ ميلادَ الفجرِ الأحلى...
أُعْلنُ ميلادَ الحَدَثِ الأغلى...
أُعْلِنُ ميلادَ الحرِّيَّةْ)...

وإذنْ.... فأنا...
ما أنتَ ـ بربِّكَ ـ قُلْ لي...
إِنِّي ذاك الطفلُ، وأُقْسمْ..
لا تُقسِمْ...
إِنَّكَ هُوْ...

(8)
هاأنذا أرجعُ طفلاً،
والحلمُ مداهْ...
أَتَغَلْغَلُ في الصمتِ الخائفِ فَرَحاً..
أَعْبُرُ ثُقْبَ الإبرةِ حُرّاً..
لأُفَجِّرَ آخرَ أصواتي،
في أسماعِ الموتى...،
(موتى الوطنِ)..
دَفْقَ حياةْ...
أَنْ هُبُّوا من صمتِ الذلِّ أُباةْ،
فالليلُ المظلِمُ زالْ...
والظالمُ أيضاً زالْ...
تُزهِرُ في حنجرتي (آهٌ) جَذْلَى....
يَعْبُرُني عَبَقُ الحريَّةِ... أَعْبُرُهُ...
ندخلُ كونَ النشوةِ... نسكنُهُ...
أصرخُ فَرِحاً: ليلى!...
يَتَمَزَّقُ باقي الليلِ بصوتي...
ينتشرُ الضوءُ بكَوْنِي...
فأراني أركضُ في كلِّ الطرقاتْ...
أَتَلَفَّتُ ملهوفاً
أستطلعُ ما كانَ وما صار بكلِّ طريقْ...
من هذا الشارعِ زالَ الحاجزْ...
من ذاكَ انسَحَبَتْ دبابةْ..
يا لِله!...
أصرخُ: ليلى!..
فأراها في مدرسةِ الحيِّ، وقد عادتْ طفلةْ،
تركضُ في ثوبٍ أزرقْ..
تكتبُ في دفترْ..
أصرخ: ليلى!..
فأراها في بيتِ أخي أمّاً...
وأراها في بيتِ الجيرانِ حبيبةْ،
تنظرُ لي خِلسةْ..
أصرخ: ليلى!..
فأراها في مقبرةِ الشهداء حزينةْ
تبكي زوجاً ولَّى في عزِّ شبابهْ
وأخاً مثل الجبلِ وأُختاً،
وَابناً مثل القمرِ،
وأُمّاً نزفتْ فوق رفيقِ العمرِ وماتتْ...
تسقي هذا القبرَ بدمعةْ،
وتُزّيٍّنُ ذاك القبرَ بوردةْ...
أصرخ: ليلى!..
يأتيني الصوتُ مزيجاً من دمعٍ وغناءْ..
يأتيني الصوتُ شجياً مثل دعاءْ:
قادمةٌ يا حبِّي.. لا تقلقْ..
لنُعيدَ معاً رسمَ الوطنِ الأحلى..
بدمِ الشهداءِ، ليبقى
حراً أبداً...
يتلألأُ بالحبِّ على خارطةِ الأبدية...

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
نوفل عيسى غير متصل   رد مع اقتباس