ألقابها: " الشحرورة " و " الأسطورة " و " الصبوحة" و " ست الكل " و " صاحبة أجمل ابتسامة "
جانيت فغالي - ابنة وادي شحرور قضاء زحلة – ذلك الوادي اللبناني البديع في محافظة البقاع الذي كتب عنه الشاعر أحمد شوقي قصيدته الرائعة: " يا جارة الوادي " .
الإنسان منا مجموعة من الصور والذكريات والأحداث وشخوصها ، كثير منها تبتعد وتستقر في الذاكرة الخلفية حتى يستجد ما يجعلها تتقدم مجدداً لتعود الصور طازجة بعبقها وسحرها وما تركته بأنفسنا...
ذكريات الطفولة بصوتها وأغانيها كان لصباح فيها نصيب كبير ، وكلنا نعشق الماضي ونكاد نقدّس أيام الطفولة وذكرياتها البريئة، فالطفل فينا باقٍ مستمر في أعماق نفوسنا لا يبرح.
ذكرياتي مع صوت الصبوُّحة وأغانيها بصوت أمي ورائحتها الأحب ، بدأت واستقرت ربما قبل أن أحبو ، تلك الأغاني التي كانت تغنيها لي أمي تارة وتضعها لي بصوت صباح تارة أخرى، ولأمي صوت من أجمل الأصوات وأكثرها دفئاً:
حبيبة أمها
أمورتي الحلوة
آكلك منين يا بطّة
ما زلت أذكر وكأنه بالأمس فقط أمي وهي تداعبني وتقبلني مع : " آكلك منين يا بطة " فأضحك وأضحك آمنة مطمئنة بين ذراعيها حتى أغفو، ومع أول خطواتي وأنا أقف مستندة إلى ذراعيها فوق المنضدة على وقع أغنية : " حبيبة أمها " ولما كبرت أكثر مع أغنية : " أمورتي الحلوة " وحين دخلت المدرسة تستقبل إيابي معانقة أهلا بهالطلة أهلا أهلا بهالعين الكحلا ، طبعاً بالإضافة لأغاني أخرى لفيروز وفايزة أحمد وغيرهما...
واستمرت الذكريات وكبرت مع حقيبة المدرسة والحفلات المدرسية وتعلمت الدبكة ( 1) على وقع أغنيات صباح ونصري شمس الدين ووديع الصافي وفيروز إلخ..
وكانت الدبكة الأولى التي تعلمتها للمشاركة في الحفلة المدرسية على أغنية صباح: " عالنّدا الندّى "
وربما صباح وأغانيها وأغاني وديع وفيروز ما جعلنا نحن أبناء المدينة نعشق القرية اللبنانية / الضيعة ، ونجد فيها سحراً لا يقاوم.
سرت في طريقي مع الأيام وأغاني صباح كما فيروز رافقتني في كل مرحلة ، ففي المصيف الجبلي بين العاشرة والثالثة عشر من عمري أغنيات لا تنسى ، مازال يتكرر وقعها في داخلي منها في تلك المرحلة: هاشلة بربارة مع بنات الحارة " وكانت إحدى بنات القرية ( في بْشرَي قرية جبران ) اسمها بربارة وكنا نغنيها لها ، رافقناها مراراً إلى الحقل وساعدناها في قطاف الثمر وتسلقنا الأشجار معها، وتعلمت منها وبعض لداتي من بنات المدينة هواية محببة في صنع أطواق من المعكرونة الصغيرة " نجوم " وكيفية تجديلها بطريقة فنية جميلة وصباغتها وحمايتها بالأعشاب والتوت البري ( كْبوش التوت) إلخ..
وتستمر الذكريات مع صوت صباح عند كل مرحلة ، وكم من فتاة ثرية كما كنت أسمع تزوجت من رجل بسيط بغير رضا أهلها وأحبته تأثراً بأغنية صباح: " عالبساطة – عم يحلم قلبي برجال درويش وطفران الحال " ومن ينسى أغنيتها المحببة: "يارب تشتّي عرسان ليلحقني طرطوشة".. في ملعب المدرسة وفي مناسباتنا غنينا لها سوية: " أنا لا بيضا ولا سمرا أنا حنطية وعندي أولاد وعند زوج بيسوى بلاد وبيتي بشارع الحراء " وعالضيعة يمّى عالضيعة وديني وبلا هالبيعة " و " تسلم يا عسكر لبنان يا حامي استقلالنا " و " ألو بيروت" و: " جيب المجْوٍزْ يا عبّود رقّص أم عيون السود وخللي الشحرورة الصبّوحة تغني ويهّب البارود " إلخ...
ولا كم كنا نضحك ونحن نغني: " عالعصفورية وصلني بإيده وما طل عليّ " ( 2) و "شفته بالقناطر حكيته بالقناطر" و " عبده عبيد عبيده" و " عِنِّي يا منجيرة عِنّي " و " جيب المجوز ( 3) يا عبّود " و " ألاقي زيك فين يا علي " و عاشقة وغلبانة " و" سلمولي على مصر" و " راجعة على ضيعتنا والأرض اللي ربتنا " و " أخذوا قلبي " و " المتزوج الله يزيده " والكثير والعديد من أغانيها الشعبية التي غنتها باللغتين الفرنسية والانكليزية في أهم مسارح أوروبا والعالم، ويبقى الأجمل والذي يظهر إمكانيات صوتها الجبلي السوبرانو: الميجانا والعتابا والمواويل التي تكشف قوة لحدها بالأوف الأطول إطلاقاً والقدرات الاستثنائية..
وفي ذاكرتي حكاية حدثت حين كنت تقريباً في التاسعة من عمري، ابنة جيراننا وكانت تكبرني بعدة أعوام:
" غابت عن المدرسة ولم تعد إلى البيت وعادت بسيارة صباح وبصحبتها، وبجعبتها حكاية غريبة لم يصدقها أحد ، وبقي الجميع يتندر بها ضاحكاً ولسنوات..
ادعت الفتاة وكانت تعشق صباح ، أن عصابة اخطفتها وذهبت بها من طرابلس إلى بيروت ، و حين أرادوا انزالها من السيارة تركوها من شدة صراخها خوفاً من افتضاح أمرهم ( نسيت الكثير من التفاصيل ) وما علق في ذهني وذهن الجميع أنها ادعت في حكايتها أنهم أوصلوها أو تركوها أمام باب بيت صباح !!
الجميل في الحكاية أن صباح تعاطفت مع الفتاة ( أكيد فهمت الحقيقة وكذب الفتاة ) وخافت عليها من عقاب أهلها ، فتحملت المشقة ولم تكتفِ بإبلاغ أهلها لاستلامها أو إرسال الفتاة مع السائق ورافقتها بنفسها وأعادتها إلى أهلها ورجتهم عدم معاقبة الفتاة التي تصرفت ببراءة - وطبعاً كان وصول صباح ودخولها المبنى - يشبه المهرجان التلقائي في المبنى والحي كله – وهرعت أقفز فوق السلالم غير عابئة بتهديد مربيتي لأرى صباح ..
مرحبتين مرحبتين
مرحبا يا حبايب
أهلا بهالطلة أهلا
مسيناكم مسونا وعالبوابة لاقونا
صباح كانت لفترة طويلة حديث الناس ، عشقها عدد من السياسيين وطالتها الشائعات كما لم تطل أحداً وحيكت عنها قصصاً ونكات والحقيقة أنها تغاضت عن كل هذا ولم تعادي أحداً.. تميزت بإشراقتها وبشرتها المضيئة الشديدة النعومة والتي حاولت كثيرات غيرة إطلاق الشائعات الكاذبة حولها للتشكيك، وتميزت برشاقتها الدائمة رغم طولها الفارع وانتصاب عنقها وجسدها ، وهذا الانتصاب الفضل فيه لا شك لبدياتها كابنة قرية ، حيث كانت القرويات يحملن جرار المياه الفخارية فوق أعناقهن من العين إلى البيت يومياً، فيتميزن بجمال العنق والجيد واستقامة ورشاقة القوام طوال الحياة.
أيام اللولو شو هللو له وشو رشوا ملبس
" مش سامع سمعان " المأخوذة من المثل اللبناني الشهير ( التطنيش )
يا دلع دلّع
هي صباح التي لو لخصنا حياتها لعبرنا عنه بأغنيتها: " ساعات ساعات "
تزوجت صباح عدة مرات ، ويؤخذ هذا عليها لكن في حقيقة الأمر كثير من الفنانات يقمن علاقات غير شرعية وصباح كانت ترفض إقامة أي علاقة خارج إطار الزواج ، وكان حظها عاثراً مع الزواج ، من زوجها الأول " نجيب شماس والد ابنها الدكتور صباح شماس" والذي تزوجته قبل بلوغها الثامنة عشر من عمرها وإلى زوجها الأخير " فادي لبنان " والذي نهبها وأتى على كل ما تبقى لها من مال، وصرحت مراراً حين سألوها من كانت تتمنى لو تعود له ويكون زواج العمر بينهما ، وكان رشدي أباظة.
خلف ابتسامتها ووجهها المشرق كانت مآسي الحياة كثيرة وفصولها مريرة في حياتها...
غنّت كثيراً لابنتها هويدا وفي كل مراحلها العمرية وغنّت لابنها صباح:
يا مسافر وقِّف عالدرب ودعني ولو انه بنظرة ودعني ولا تنسى القلب اللي حبك من أول مرة
وداعاً صباح .. وداعاً للشحرورة الصبوّحة صاحبة أحلى ميجانا وعتابا وأطول أوف وأجمل ابتسامة