رد: عش رشيد الميموني الدافئ
[align=justify]أتساءل أحيانا إن كان كل ليل يختلف عن غيره رغم أن لا شيء يتغير سواء الزمان أو المكان أو حتى هذا الجو المفعم سكونا . وأتساءل أيضا إن كان للأحاسيس دور في ذلك ، نظرا لما كنت عليه من اضطراب وشرود منذ أيام فقط . فالنبع صار أكثر حيوية وأنا أنط وسطه من صخرة إلى صخرة لأصل إلى ضفته المؤدية إلى عشي الحالم هناك فوق التلة . والنهر لم يكن اقل منه حيوية وعنفوانا . أما الصخرة المطلة على الوادي فكنت أتخيلها وهي جاثمة بكل جبروتها كأم تمد نحوي ذراعيها لتحضنني في حنان . حتى الكهف الذي يوحي بالوحشة والرهبة كان هناك عند أسفل القرية فاغرا فاه كالعادة دهشة من هذا الليل الذي امتلأ ترانيم تنشد في صفاء وحبور .. ترنيمة أحسست معها أن كل شيء من حولي يتابع إيقاعها الجميل بشغف ونشوة بل إن نسيما عليلا هب من ناحية غابة العرعار لتتراقص أغصان شجرتي بهجة بهذا السكون الهادر فرحا .
لكني أعترف أيضا أن ثمة شعورا خفيفا بالانقباض كان يعكر علي صفوي وانتشائي بالليل وأشياء أخرى ظلت قابعة في لا وعيي . كنت أتساءل وفكري شارد نحو ذاك البيت الذي يحتضن تلك الصبية مع العجوز إن كنت إنسانا بدون عواطف ثابتة .. الغادة .. حليمة .. والآن هذه الفتاة التي قلبت فكري وكياني رأسا على عقب .. ما الذي يجري ؟ هل كان ما شعرت به حبا حقيقيا أم فقط نزوات لرجل يجري وراء شهواته ؟ أأكون مجرد زير نساء يقتفي أثر كل من لاحت في الأفق وجذبته بحسنها ؟ .. هل ظلمت الغادة وجنيت على حليمة ؟ وهل ستكون هذه الصبية اليافعة الضحية المقبلة ؟ ..
في الحقيقة لم أجد الجواب الشافي لكل أسئلتي لكني أحسست بنوع من الارتياح حين تذكرت كلمة للشيخ العجوز على شاطئ البحر :"أنت نبيل .. وقلبك لا يحمل إلا الخير .. وحين تحب فأنت تحب ببساطة وعفوية .. نفسك تطبعها براءة صبيانية لا تعرف الخداع .. وحبك واحد رغم ما قد يبدو لك عكس ذلك ."
"حبي واحد" .. كلمة بقيت عالقة بذهني واستقرت في أعماقي أرددها الآن وأنا أصل إلى العش .. وأجلس مسندا ظهري إلى جذع شجرتي المنتصبة في إباء أستمع إلى خرير المياه عن يساري .. إذن فأنا لم أحب أكثر من واحدة وإن تعددت الصبايا اللواتي عرفتهن .. أتكون ....؟ مستحيل ..
صرت أستدني الصبح رغم شغفي بالليل وبما يمنحه لي من فرح .. كانت لهفتي للقاء الفتاة يقوى كلما مرت الدقائق بطيئة .. شعرت بالبرد وقت السحر لكني لم أطق دخول البيت ولبثت ملازما الشجرة متلفعا بغطاء صوفي أضعه دائما هناك للجلوس أو الاستلقاء عليه ..
أخذتني سنة وأنا أنظر إلى الأفق الذي بدأ يصحو .. بدا رماديا ، ثم أزرق قبل أن يتشح برداء وردي بهيج . التفت لا إراديا نحو بيت العجوز مترقبا خروجها المعتاد في هذه الساعة لتطعم الدجاج وتهيئ الفرن .. وينتشر الضياء على الروابي فيبدأ الخوار والثغاء والصهيل ليكسب الجو رونقا ، فأشعر بالجوع يقرص معدتي ..
فطوري لا يختلف كثيرا عن سابقه .. قهوة وجبن وزيت زيتون مع خبز قمح صلب وبيض مسلوق .. أكلت بشهية وأنا أستعد لما يمكن أن أقوله للفتاة حين تقبل على النبع .. أقلقني تأخرها لكني عذرتها لكون الحفل كان متعبا بالنسبة لبنية جسدها الضعيفة ..
الآن أطلت أولى أشعة الشمس من وراء الجبل المقابل للقرية في الطرف الآخر من الوادي .. وكأنما هي رداء أسدلته على المكان فصار يتوهج ألوانا .. وتعالت زقزقة العصافير على غصن شجرتي فبعث ذلك في نفسي إحساسا بنشوة قلما شعرت بها من قبل .. نشوة ممزوجة بأمل لقاء الفتاة والتحدث إليها والإنصات إليها .. سأتملى برؤية عينيها الصافيتين وشعرها الأشقر الذهبي المطلة خصلته فوق جبينها الناصع .. وآخذ زادا لعيني من شفتيها العذبتين .. ليكون ذلك وقودا لخواطري ولكل ما سوف يجود به قلمي من بوح .
وأخيرا فتح الباب .. وأطلت عباءة سوداء عرفتها للتو فرقص القلب طربا وتابع مشيتها نحو المنبع وكأنه غادر الصدر مقتفيا أثرها .
لا أدري كيف انتقلت من مكاني قرب الشجرة إلى صخرة وسط النبع .. كل ما أعلمه هو أني وجدت نفسي جالسا أترقب اقتراب الصبية التي لم تفاجأ على ما يبدو بحضوري لكنها لم تخف دهشتها من استيقاظي باكرا مع كوني أحب السهر..
- الليل عندي كالصباح الباكر .. أستمتع بكليهما .
- هذه روح الشعراء .. يحبون كل ما هو جميل ..
غاب وعيي قليلا لسماع صوتها الرخيم قبل أن اتمتم شاردا وأنا أنظر إليها :
- فعلا .. أحب كل ما هو جميل .. لكني لست شاعرا ..
- بل أنت كذلك ..
- يمكن أن أكون ذا روح شاعرية و ...
مرت لحظات قبل أن تسال ضاحكة :
- وماذا ؟
- لا شيء ..
فجأة وجدتني أحدق فيها وأتفحص وجهها البهي وكلمة الشيخ تتردد في أذني بإلحاح "حبك واحد"
- لم تنظر إلي هكذا ؟ ولماذا صمتت فجأة ؟
في لحظة ، خيل إلي أن كل شيء قد توحد .. الزمان ، المكان ، الأشخاص .. الغادة وحليمة وهذه الصبية الوديعة .. لم أعد أعرف هذه من تلك .. وتنهال علي الأسئلة من جديد : من أين أتت هذه الفاتنة ؟ وما سر هذا الغموض الذي يكتنفها ؟ .. أتكون هي هؤلاء الثلاث واحدة ؟ .. وهل تخبئ وراء بسمتها الغامضة شيئا من هذه الحقيقة ؟ .. يخيل لي أحيانا أنها آتية من أرض لم يطأها إنسان ، أو أنها من كوكب يعج بالشقر وبذوات العينين الصافيتين كمياه البحر .. ولم لا تكون حورية انبثقت عنها الأمواج لتعود إليها يوما ما ؟
انتفضت محاولا ألا أحرجها بنظراتي وأجبت :
- اعذريني .. أنت قلت أنني شاعر وأحب كل ما هو جميل .. وكلما أحببت جمالا سهمت وشرد خيالي ..
ضحكت فترددت ضحكتها عبر أرجاء المكان وقالت :
- فعلا .. أنت شاعر .. لكن هل حبك للجمال ثابت أم يتغير ؟
- لم أفهم .. كيف يتغير ؟
- امممممم .. لا عليك .. انس الأمر .. كان سؤالا سخيفا ..
لكني أعلم أنني لن أنسى الأمر وأنه لم يكن قط سؤالا اعتباطيا .
- هل تودين القيام بجولة عبر الحقول ؟
- يسعدني ذلك .
مددت لها يدي لأساعدها على تجاوز الصخور المنبثة وسط النبع فأحسست برعشة تسري في أوصالي وبالأرض تميد بي حتى خفت أن نفقد توازننا ونقع .[/align]
|