[frame="1 70"]ليل مزنر بالنجوم / د. منذر أبو شَعر[/frame]
[align=justify]
لا يزال هناك، في مكان ما، ضوءُ أمل خافت يتلامح من بعيد، يذكرني أن صفحة
الليل، بكثافة سوادها، تحتضن مئات النجوم، وأن عزيمة إصباحات التفاؤل آتية غداً
أو بعد غد.
وحدي مع سكون المدى، لكنني مع بدء رعشة اضطراب تنظيم هدوء أفكاري،
أشعر ـ ربما لأول مرة ـ ببداية تسلل شيء كما فقدان شهية التركيز عمن حولي،
فأغرق بالعدم وبالفراغ، ويغشاني كما سكونُ بارد الموت.
الفضاء واسع.. خال دون بهجة أنيس. وأضواء بيوت دمشق تتلامح خافتة
وانية، ربما تعارك وهْمَ الفراغ، فيحاصرني من جديد السؤال الصريح: ماذا تريد،
وإلى أين المسير ؟!
على أعتاب الستين صرتُ، وصور عدد سنوات الماضي صارت بقايا نزيف بهجة
خيال لن تعود ـ ربما قد تتجدد بصيغ أخرى، لكنها لن تحمل بصمة الزمن الراحل
وجمالَ أفراحه أبداً ـ وبساعدي، وصار كليلاً، بنيتُ كما الأحلام أسطورةَ ما يصبو
إليه كل إنسان: مالاً ومالاً ومالاً، وصروح عزٍّ، وأبراج عمارات، وأسطول
سيارات، وخدماً، وآلاف الموظفين، وحراساً لحماية مجدي ولسلامة أفراد أسرتي،
ولصيانة عسل أسوار ذاتي !
لكنني اللحظة أنا وحيد، أشعر بقارس برد، ودبيب خواء يحبو بصبر دؤوب لاحتواء
كياني، فيعاودني السؤالُ: ماذا تريد، وإلى أين المسير ؟
على شرفة المنزل، مع فنجان قهوتي، ودخان سيجارتي، وأصوات ضجيج حياة
سيارات تمر مسرعة تسابق توالي الزمن بسذاجة ـ كأنها تخشى انسراب الوقت
منها، ولا تدري أنها منخل مهتريء والوقت ينسرب من بين فروجها برتابة ونظام
دقيق، غيرَ مبال بآثار قسوة وئيد وقع خطوه ـ أسمعها بوضوح، لكنها تصافحني
ضباباً دون ملامح، فأدخل غرفتي دون أفكار..
أفتح شاشة العرض الأنيقة، أقلب محطات التلفزة دون هدف، فتتّابع الصور
والأخبار وعوالم الفنون، تنتظمها جميعها متعة الجذب والابهار وهشاشة الفكرة
وسذاجتها وغرابتها.. فأتابعها بشرود، وأنا أشعل سيجارة أخرى، ثم أطفئها بتقزز
وأنا أقول: تباًّ للدخان والتدخين وكل عوالم سخف رخيص المتع.
الحياة هدفٌ لصنع شيء نقدمه لغرور ذواتنا، أننا حققنا أمراً ما، فكوَّنا مملكتنا
الخاصة بنا، وننسى، أننا لسنا وحيدون، وأن هناك آخر قد لا يرغب بالشكل الذي
نرسمه، ويتوق إلى صيغ أخرى تعارض حثيث سعينا الدؤوب، وأنَّ (بنت بحدل) ما
زالت تزعق بحرقة في داخلنا، تبكي خيمتها، وتتوق إلى خفق تتابع أرواح مزق
غافي ذكرياتها.
أذرَعُ واسع صالون منزلي بخطى متلعثمة، وطرقات عصا عكازي طرقات وانية
كما الشكوى، أو كما أنين تذمر من قادم آت من سحيق الزمن. وأقول بحزم: الفعل
الصادق فعْل المجموع وليس فعْلَ الفرد، والمشاركة مع الآخرين نبْض فعل وليس
زينة كلام وبهرجة صور، والعطاء عطاء حقيقي صادق وليس مَناًّ وانتظار مكافأة
معسول كلام.
الساعة قاربت الثالثة مساء، وزوجتي في دبي مع الخادم (سالي) للتسوق والفرجة،
وابني الأكبر (معتز) في فرنسا يتابع بنودَ خطوات معمل ينتج مستحضرات تعيد
وهم حيوية حلم راحل شباب، وابنتي الصغرى (نجوى) في روما تتابع آخر
صيحات الموضة لإنتاجها في دمشق بأقمشة أفضل وأيد أرخص، وأحفادي محورُ
اهتماماتهم متابعة آخر أغنية وآخر خبر طلاق ممثلة وزواج ممثل، وتتبع
أخبار أبطال فرق كرة القدم الأجنبية، ومتابعة آخر دهشة أفلام هوليود.
وببساطة يقيمون فروض الصلاة، ويذهبون إلى المسجد أيام الجمع والأعياد،
ويتبرعون للفقراء، وهم يحلمون بفتاة أنيقة وبيت يضم آمالهم، فالدين شعيرة وعادة
واعتياد، وساعة لربك وساعة للشيطان.
هُبَلْ.. هُبَلْ رمز السخافة والدجل
وثن يقود جموعهم.. ياللخجل
وسعيُ القطيع غباوة.. يا للْبطل
أهرش رأسي وأبتسم ببلاهة. الحوادث في ذهني تسير دونما اتجاه، والماضي نقاط يختزن مساحات متعددة، ربما ظاهره يكون بطعوم مختلفة، لكنه في جوهره واحدٌ يتكرر ولا يبلى على التكرار، كما توالي الليل والنهار، وكما فصول السنة، وكما تجدد أشواق غافي أرواحي. يقول التاريخ: في عام 1917 م وجَّه لينين وجوزيف ستالين عند قيام الثورة البلشفية نداء للمسلمين جاء فيه: أيها المسلمون مساجدكم، صلواتكم، أعيادكم، تقاليدكم في أمان، قوموا وساعدوا الثورة ضد القيصرية لقد جاءت ساعة خلاصكم. وظنها المسلمون أنها ساعة خلاصهم، فهبوا بحماس للتخلص من القيصرية، ولم يعرفوا أنهم وقعوا بين فكي تنين قتل منهم 65 مليوناً لغبائهم السياسي وطيبة قلوبهم.
أخي سَتبيد جيوش الظلام
ويشرق في الكون فجر جديد
فأطلق لروحك إشراقها
ترى الفجر يرمقنا من بعيد
تذْرَعُ الصالون جيئة وذهوباً، وأنت تدمدم بأغنية قديمة، وتستغرب من اضطراب
أفكارك ومسيرها كإبل هيم، تريد الماء والماء تحمله ولا تصل إليه:
أيها السائرُ بين الغيهب
عاثر الخطو جليَّ التعب
ضارباً في لُجة غامضة
من محيط العالم المضطرِب
لا تقف حيران مشبوبَ الأسى
هكذا نهباً لشتى الرِّيَب
أنت لا تعرف من أنت ولم
تقرأ التاريخَ يا ابن العرب
تقف لحظة، تلتفت يميناً وشمالاً.. تهرش رأسك ثانية وثالثة.. كل شيء عندك منظم، غاية في الإناقة والفخامة والذوق الرفيع: التحف من إيطالية وفرنسا، والسجاد من تبريز وأصفهان، والفرش الوثير عمله لك مهرةُ عمال دمياط، والأنتيكات من صالات كريستي وسوذبي وبيدون وبونهامز في لندن وجاليري سمرقند وديفيد في باريس دفعت بها غالي الثمن لترضي دائرة ذاتك ـ وما رضيَتْ، وبقيتَ منهوماً
لحوْز الجمال ورفعة ترف جوع العين. فبلغتَ جنة الأرض، وشوق الشوق، وتهاويم
السكر، ولذة النفس.. ومع كل ذلك.. مللت اليوم جميعه بالكُلِّية ! ويغمرك شعور
بالقرف والاشمئزاز ! وزيفٌ كل الزيف ما صنعته بيديك الضاويتين !
دائرة اهتماماتك ما تجاوزتْ محورَ ذاتك ! وما بنيته كان لك وحدك، رسمتَ
تفاصيله بدقة عالية وحرفية اكتسبتها من جولاتك في أصقاع العالم، ولم يك عملك
مشاركة وجدانية حقيقية ! كان مظاهرَ وأصباغ وبهرجةً لتسليط مزيد أضواء عليك
وتصفيقاً بحرارة لإنجازاتك الفردية. وتناسيت أن الأشياء الجميلة مبدؤها بداخلك
وليست في الأحداث التي تصنعها، وجمال إبداعاتك مقرون بجمال آفاق روحك، وأنك عندما تمتلك عيناً جميلة سترى كل شيء جميلاً، وعندما تملك نفساً راضية سترضى بالقليل، فغياب ما تحبه، كغياب اللون عن الصورة ! هو لا يفقدك الحياة إنما يفقدك طعم الحياة.
تنظر إلى ساعتك الذهبية.. ثمنها ثمن بيت في حي شعبي، وقد جاوزت الرابعة، وما
زال النوم مسافراً عن عينيك، يأبى العودة ولا يكف عن الرحيل، لتبقى عيناك مرفأ
مهجوراً ينتظر قوارب رحلة صيد ربما لن تؤوب، وطائرَ نورسٍ نسي دفء عشه
فأدمن الرحلة والطيران، وتكسرت أجنحته وما زال يطير ولا يكف عن الطيران.
وعلى عجل تبدِّل منامتك، وترتدي بنطالاً عشبي اللون، وقميصاً مائلاً للأصفر،
وتقود سيارتك باتجاه الجنوب، وأنت تسمع فيروز بصوت حالم يأتيك من عوالم
الأنس والشفافية: يا جبل صنين بالعلالي يا جبل صنين بالجبل.. خبِّر الحلوين على
حالي، خبر الحلوين يا حجل.. يا طير يا طاير على طراف الدني، لو فيك تحكي
للحبايب شو بني.. يا طير يا واخد معك لون الشجر، ما عاد في إلاَّ النطرة
والضجر.
فتدمع عينك، وتجهش بالبكاء، وتشعر بارتياح وأنت تبكي. فتوقف قيادة السيارة
قليلاً، وتفرغ شجوك، فيمر قربك زرافاتُ مصلين، ويتجرأ أحدُهم ويسألك: ـ السلام عليكم، صلِّ على العدنان، كل مشكلة ولها ستون حلاًّ.
فتهز رأسك، ويعلو صوتك بالبكاء أكثر: ـ الحمد لله، الحمد لله.. شكراً، لا شيء،
لا شيء، مجرد شعور عارض، ورغبة بالبكاء دون سبب.
يعلو حاجبيه شفقة: ـ الجامع قريب، تعال نصلَِّ معاً.. تعال يا عم.
مغسول بالطيب والوداعة. ضاو كغرس زيتون، وشامخ كعطاء نخل: ـ سآتي معك،
شكراً لك يا بني، شكراً لك.
تركن سيارتك، وتذهب للحمام تتوضأ، فتغسل وجهك بماء دافيء، وتطيل الوضوء،
وما زلت شارداً تقطف نجوماً كثيرة، تخبؤها في حركة يديك. ويأتيك الصوت
الطاهر: ـ من زمزم يا عمي. (وبصوت عذب أخذ يدمدم بعذوبة):
يا بائعاً في أرض طيبة عنبرا
بجوار أحمد لا تبع العنبرا
إن الصلاة على النبي وآله
يشدو بها من شاء أن يتعطرا
صلوا على خير البرية تغنموا
عشراً يصليها المليك الأعظم
من زادها ربي يفرِّج همه
والذنب يعفى والنفوس تنعم
فتأخذك صدق شفافية وبساطة الكلمات، وترحل معها بعيداً بعيداً،ويداك جناحان من
نور تطير بهما بحرية في سماء المطلق، وروحك تركض بعزم حماس شباب على غمامة أثير بلا أمداء. وتمنيت أن يظل ينشد وينشد ولا ينتهي إنشاده، لكنه قال لك بهدوئه الرزين: ـ تعال فقد قامت الصلاة. اسمي كرمو (عبد الكريم حسيني)، إمام الجامع هنا.
ـ أنا مراد علايا، رجل أعمال.
ـ أنت الباشا ؟! الباشا مراد بنفسه ؟ الباشا هنا ؟! أهلاً وسهلاً يا باشا، أهلاً وسهلاً.. نورت قريتنا بوجودك، شرف كبير أن تأتي لعندنا.. لا بد أن أكسبك للحظات بعد الصلاة.. أهلاً وسهلاً ومرحباً بك، أهلاً وسهلاً.. تفضل.. تفضل. زارتنا ـ والله ـ أنوار النبي العدنان.
شعرتَ بنشوة لا توصف، أحببتَ نفسك، فأنت لك وجودٌ وأثرٌ ملموس، وكلُّ ما بنيته كان حقيقياًّ وليس خيالاً عابراً.
وتساءلتَ: أهذا ما حلمتَ به، وتمنته روحك ؟ أهذه هي البساطة الحقيقية وسعادة
توق التوق ؟
كان شيئاً غير مألوف، تعجز مفردات اللغة عن وصفه، ولا تستوعبه كل اللغات.. لذة راقية دون كلام، ودون ترتيب عبارات، يحتويك الدمع والصمت والدهشة والفرح الدائم وإصباحات أنداء الفجر، فتبقى مع الخشية والرجاء وشفافية الحب وبحار التوق وولادة مساكب أضواء السعادة. وقال لك بعد انتهاء الصلاة والدعاء الصادق المتصل بأعتاب أهداب عالي السماء: ـ تفضل سيدي إلى غرفتي، ولو أنها لا تليق بالمقام.
خطوتَ بتهيب الآمل.. وأنت تطير بأجنحة عوالم النور، ونشوة سكر الروح. كانت غرفة بسيطة، غاية في التواضع والخجل، وزكمت أنفاسَك رائحة رطوبة، أو شيءٌ كما رائحة عفن فم أو جوربٌ قذر أو حليبٌ يحترق، فتحرك جوفك، فأشعلت سيجارتك لتغيِّر مسار أفكارك باتجاه آخر، وحزنت كيف بدأ ينطفيء ألقُ أرواحك شيئاً فشيئاً، وكيف صارت عيناك تبحث عن تافه الأشياء بدقة: البساطة بساطة القلب، والفقر فقر الروح. وتابعتَ ـ وأنت شارد ـ سربَ نمل يجر صرصاراً، فيتعثر ثباتُ خطوه، ثم يحاول من جديد.
كان يتحدث عن فضل دمشق، وفضل أهل دمشق، وأولياء دمشق، فذوى خفق فضاء
روحك، واختلط الحديثُ بالخرافة والأحلام وآهاتِ الأمل، وقلتَ له وأنت حزين: ـ يا بني، الحمد لله أنا أحفظ عدداً لابأس به من الأحاديث الشريفة، ولي إلمامٌ جيد بأحوال الرجال والأسانيد، فعرفتُ ـ بفضل الله ـ الفرقَ الكبير بين نسج مقامات صحيح الكلام.. وكلٌّ منا يستطيع إدراكَ ذلك بمزيد قراءة وبمزيد صبر دراية.
وتابعتَ دون حماس: جل أحاديثِ فضائلِ المدن أحاديثٌ موضوعة، وقصصُ وعاظ.. وقيمتها معرفة مسار حركة فكر فائت، لكنها تخبرنا ـ بمنتهى الصدق ـ عن أرضية منبتها، ومعرفةِ دوافع مُنشئها، وحماسِ واضعها، ولا قيمة دينية لها.
فصفق بحبور: ـ ما شاء الله وكان.. الله أكبر. هذا وسام آخر لك، ما شاء الله، نور على نور. أنت ولي الله. (وأقبل نحوي يريد تقبيل يدي) !
: ـ العفو يا بني، أنا لا أحب هذا.. أنا عبد فقير، أبغي بهاء وجهه.
فقفز راقصاً: ـ الله أكبر.. الله أكبر. ألم أقل لك إنك ولي الله. بركاتك سيدي، بركاتك مولاي. (وتطلعتَِ إلى وجهه الشاحب، وكانت ملامحه قد أخذت تتبدل في عيني قلبك من غرس زيتون وشموخ النخل إلى بساطة جاهل ورؤى جمع رعاع. ولاحظتَ بدهشة أن جدار الغرفة يحمل صورة له بإطار متآكل وهو واقف مبتسماً ببلاهة أمام برج إيفل): ـ هل زرتَ باريس ؟
: ـ طبعاً لا.. أنا لم أعرف غير الشام وحدود (براق). طلبت من المصورِ وضع هذه الخلفية للصورة.. أليست جميلة ؟ إنها في غاية الجمال أليس كذلك ؟
: ـ ولماذا برج إيفل وليست الكعبة أو المسجد النبوي أو قبة الصخرة ؟! لخلفية
الصور رموز ومعان تأخذك إلى مناطق اللاشعور وتخومِ غافي الأفكار.
: ـ ألم أقل لك إنك ولي الله ؟ الله أكبر يا سيدي، درر يا باشا، والله درر. لقد سئل حبيبي العدنان عن علم الباطن: ما هو ؟ فقال: سألت جبريل عنه, فقال: يقول الله: هو بيني وبين أحبائي وأوليائي وأصفيائي أودعه في قلوبهم, لا يطلع عليه أحد لا
ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقام راقصاً ثانية، فتأملت قدميه، وكانت أعقابه متشققة، وأظافر قدميه معوجة في أطرافها آثار اصفرار، وبقايا وسخ متراكم. وتابع بجزل: الأنبياء قادة, والفقهاء سادة , ومجالستهم زيادة، ومن خرج في طلب العلم حفته الملائكة بأجنحتها, وصلت عليه الطير في السماء والحيتان في البحار, ونزل في السماء منازل سبعين من الشهداء، وإن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء، ومن زار العلماء فقد زارني، ومن صافح العلماء فقد صافحني، ومن جالس العلماء فكأنما جالسني، ومن جالسني في الدنيا أجلس إليَّ يوم القيامة. فكيف حالي اليوم وقد زارني وليٌّ من أولياء الله ؟ بركاتك يا باشا بركاتك يا تاج راسي.
ولم تعد تحتمل، ولم تستطع أن ترحم سيل دموعه وآهاته. هل هي تمثيلية احترف اتقانها ؟ أم هي عادة صدَّق وهْمها فمارسها سلوكاً ؟! كان كلامه يخرج من أقصى جوفه، ويقفز مع كل كلمة، ويتلوى يميناً وشمالاً كما الملسوع، وقلتَ بحزم: ـ للأسف، كل ما قلتَه من بابة الحديث الموضوع. فردد بآلية واستغراب وقد همدت حركاته : ـ حديث موضوع.. حديث موضوع !؟ اسمع يا باشا، للحديث نور يتلمسه أهلُ الله، لا يهمهم ما قاله أهلُ الحديث عنه.. (وجلس، وتربع، واشرأب كهيئة الخطيب) لكلام العدنان صلى الله عليه وسلم نور على نور، وهو نور.. حبيبي رسول الله.
(ومسح وجهه، فلاحظت ثانية طول أظافره، وتشقق أطراف أصابعه) يهمني أثر الحديث وحاله في النفس. وكلامُ أهلِ الظاهر سخفٌ لا ينطبق على أحوال أهل القلوب. لهم دينهم ولي دين. المشايخ يعلموننا السنوات الطوال دروسَ الطهارة والاستنجاء والطاهر المطهر والطاهر غير المطهر، ويغفلون عن تدريبنا طرق طهارة القلوب وتزكية النفوس. وعاود الرقص ثانية وهو جالس، ومال عنقه يميناً وشمالاً، فازداد نفوري منه،
وهاتفتَ السائق: ـ أبو أحمد تعال حالاً إلى (براق) بالتاكسي، فمعي السيارة
الصغيرة.. تعال حالاً واترك من يدك كل شيء.
: ـ ولماذا السائق يا سيدي ؟ أنا أوصلك بنفسي إن كنتَ متعباً. (وأبرز من جيب جلبابه شهادة سواقة) أنا أجيد قيادة السيارات، (وهو يغمز بعينه) وأجيد قيادة القلوب بفضل الله عز وجل.
: ـ شكراً، شكراً، لا داعي لذلك.
انتظرتَ مجيء السائق. ربما انتظرتَ قرناً، أو ربما شاخ الوقت، أو مات الزمن وأنت لا تدري، فعشتَ ـ دون سابق إرادة ـ معاني لوحة (استمرار الذاكرة) لسلفادور دالي: ساعاتٌ رخوة، أرهقتها دقّات الزَّمن المتتالية باستمرار، فانصهرتْ وارتختْ وضيَّعتْ شكلها عمداً، وسالت اعتباطاً، ومع ذلك تُصرُّ الذاكرة على الاستمرار، رغم أن كلَّ ما حولها في حالة سيلان وانسياب وانصهار.
ترسم على الأرض بشاهدتك وهي تتكيء على إبهامك خطوطاً بلا انتظام.. وما زال الوقت يتثاءب.
هل أراد دالي المحافظة على الذاكرة، أم أراد تذويبها وتمييعها عبر رسمها ؟ أم أراد اختراع ذاكرة مضادة للزمن القاتل ؟ هل ثمة زمن يمضي وآخر لا يمضي ؟ وهل ثمة ذاكرة تتذكر، وذاكرة تنسى، وذاكرة لا تصلح إلاَّ للذكرى الباهتة بعد زوال الحدث ؟ ومن أنت ؟ ولماذا أتيت ؟ ومن هو الإمام كرمو، وقرية (براق)، وولي الله (براق) ؟
وهذه الأضواء الذاوية في أرواحك، لم انطفأت ولم اشتعلت، وكيف اشتعلت وكيف انطفأت ؟ هل كانت وهْماً، أم حلماً، أم مجرد خيال، أم صورَ رغبة خيالِ ذاكرة ؟
صوتُ السائق أبو أحمد حاداًّ في الخارج. تهرع إليه، وتقول بقسوة : ـ أبو أحمد، هذه آخر مرة أقول لك لا ترفع صوتك.. لسنا في خان. متى تعرف أنك لست في مفرزة العسكر ؟!
: ـ أمرك يا معلمي. أمرك تاج راسي. ليس بيدي، سأضبط نفسي، أوعدك، سأضبط نفسي.
تركب معه السيارة، وتودع إمام الجامع على وعد أن تزوره مراراً، وتلتفتْ إلى السائق: ـ أشعر برغبة في النوم، لا توقظني إلاَّ في المنزل.
وترجع الكرسي إلى الخلف، وتغفو.. تغفو طويلاً، وعيناك دامعتان، وروحك تبكي ألم انكساراتها، وليل كثيف دون نجوم يحاصر فضاءات روحك، ويدوس بقسوة خضرة أحلامك، فتتأوه جرحاً ثاعباً، وألماً إنما دونما أدنى كلام.
لعدة أيام عافت نفسك الزاد ولم تقرب الطعام، اكتفيت بقطعة كروسان وكوب حليب، وأهملت نفسك تماماً، فنبتت لحيتك البيضاء، وصار منظرك مثيراً للشفقة: بقايا شعر أسود فاحم، ولحية كثة بيضاء بلا تشذيب، وشعرات أنف متفرقة تطل برؤوسها دون استحياء من فتحات أنفك، وخطوط الستين واضحة الملامح على صفحة وجهك، ونوم يتبع نوماً ويتبع مزيد نوم، وكم تمنيت أن لا تستيقظ أبداً، فتستمر في رفاغة هناءات شفيفه.
ورنَّ جرس المنزل بإلحاح. فتحتَ البابَ وفي عينيك بقايا أهدابُ نوم طويل.
: ـ ميريام ؟! الحمد لله على السلامة حبيبتي ! (وأنت تعانقها) لماذا لم تتصلي لأرسل لك أبو أحمد.
وجهٌ صبوحٌ منمنم التفاصيل، وشعرٌ ليلي فاحمٌ طويل يزيد بهجة إشراقة الوجه.
كانت ترتدي فستاناً سنجابي اللون، مفتوح الأكمام، تزينه وردة حمراء كبيرة على فتحة الرقبة فتكسبه جمالاً وأناقة مظهر ورفعة ترف ملحوظ : ـ أخبرته بنفسي. هو أوصلني من المطار. أحببت أن يكون قدومي مفاجأة لك.. لكن خير.. خير يا مراد ؟ ما بك ؟!
: ـ هو الشوق لك يا حبيبتي أنساني نفسي. بالفعل قدومك أجمل مفاجأة.
: ـ أبداً.. هناك شيء غير طبيعي فيك. على كل سأعرف بنفسي. (وهي تبتسم): سالي، أدخلي الحقائب إلى هنا.
الأسعار نار يا مراد، نار، شيء لا يصدق، لكن حبيبتك ميريام تعجبك.. لم أنسك أبداً.. أحببتُ لك هذا الطقم الأسود بخطوط رمادية طولية من جورجيو أرماني، ولم أقاوم هذا القميص من فريد بيري، وربطة العنق الساحرة من جيفينشي. ما رأيك ؟! آه نسيت، لم أنس هذا الحذاء من شابيه. انظر، ما رأيك يا حبيبي ؟ البسْ وتبحبحْ يا مراد.. (وهي تخرج علبة سماوية عليها تشطيبات عشوائية بيضاء) وهذا البارفان من سي أتش كارولينا هيريرا، إنه ساحر، كالحلم، أنت ستعشق سحر رائحته كثيراً. لكن، عجباً، ما بك يا مراد ؟! لست كعادتك على الإطلاق. ألم تروقك هديتي ؟!
: ـ أبداً، مجرد صداع عارض، وتعب غريب يفتك بجسمي كله. شكراً، حبيبتي، ذوقك لا كلام عليه.
: ـ سلامتك.. سلامتك. أظنه دلعاً لفراقي !
: ـ ربما.. أرجو ذلك !
طوقت عنقك براحتيها، وألصقت خدها على جبينك: ـ وقل لي مبروك، ألم تلحظ أنني قد تغيرتُ أيضاً !؟
: ـ ازددتِ فتنة وسحراً.
: ـ زرتُ عيادة بيو لايت !
: ـ بيو لايت ؟!
: ـ مجرد رتوش.. عيادة خمس نجوم، بل عشرة نجوم.. حضارة يا مراد، حضارة دون حدود.. مساج، وعناية بالبشرة، ولا مانع من شد بعض التجاعيد. (وانفلتت كظبية، تتهادى بغنج) الشباب نعمة لا نعرفها إلاَّ بزوالها. وأنت يجب أن تذهب لعندهم.. ستشعر بطعم للدنيا غير طعم. انظر.. انظر إلى وجهي، وقوامي.. أنا جميلة ، أليس كذلك ؟ بقي أن أشفط هنا قليلاً في زيارتي القادمة لهم، على شرط أن تكون برفقتي.
(وأنت تضحك بعمق): ـ أنت ملكة جمال قبل التعديل وبعد التعديل أيضاً.. الجمال منك أعرفه، وأعيش فيه، وسأبقى هانئاً فيه. أنت حبيبتي أبداً، ومن عينيك تنمو كل غراس آمال غدي !
: ـ الله، الله يا شاعري الحبيب !
: ـ الشعر يصاغ من حركة أعطافك، وسحر عينيك، وأناقةِ عالي ذوقك.. أنتِ أمسي، وغدي، وحلوُ آتي أيامي. أنا أحبك يا حلوتي، أحبك كثيراً يا عيون قلبي وعقلي !
لم تكن تتصنع حلوَ الكلام، أردتها بصدق ورغبة، كأنك تتعرف إليها أول مرة، وأحسست بشعور شباب عارم، وذهبتَ واغتسلتَ وحلقتَ لحيتك وأنت تدمدم:
حبيبي مهما سافرت
ومهما بعدت و مهما غبت
يا روحي عني قريب مني
مهما طالت رحلتك مستنياك
مستنياك يا روحي بشوق كل العشاق
مستنياك تعبت تعبت من الأشواق
وجاءك صوتها المبحوح الشاكي، وهي تزعق من المطبخ بغضب محبب: ـ ما هذا
يا مراد ؟ أنت لم تأكل شيئاً ! لقد عملتُ لك الطعام الذي تحبه لعشرة أيام، ولم أنس حتى السلطات التي تفضلها، وقد قلت لك: افتح البراد وسخِّن بالميكرويف وكلْ بالهنا والشفا طيلة غيبتي ! هل تعاقبني يا مراد لأنني رفضتُ أن تجلبَ لي طبَّاخاً؟! ما معنى هذا ؟! هذا عمل لا أحبه ولا أرضاه ! أنا زعلانة.. زعلانة جداًّ، وغاية في القهر.
: ـ ألم أقل لك إنني مريض ومتعب جداًّ ؟! والله إنني متعب، ولم أغادر البيت منذ
أسبوع. هذه أول مرة أستعيد فيها نشاطي.
وهي تتطلع إلى وجهك الحليق: ـ نعيماً يا حبيبي نعيماً.. (ولمستْ وجهَك بأطراف أصابعها الرشيقة) هذا مراد الذي أحبه وأريده وأحيا من أجله.
وطبعتْ على شفتيك قبلة طويلة أنستك قلقك ويأسك وأزمنة سوادك: ـ آسف يا ميرتي آسف يا حبيبتي، لكنها فرصة لنتعشى معاً الطعام الذي عملته يداك، كل شيء لا يزال كما هو ينتظرنا. الدنيا جميلة بأنس حضورك.
وهي تبتسم بحبور: ـ ليت معتز ونجوى والأولاد معنا. (وأخرجت الموبايل من غلافه الأنيق): ألو.. معتز، حبيبي، أين أنت الآن ؟! نعم يا حبيبي، نعم، هل ذهبت في شارع الريفولي ؟ ليس بعيداً أبداً. Le Meuriceإلى المطعم الجميل في أوتيل
فقط خمسة دقائق من ميدان الكونكورد وجادة الشانزليزيه، وهو قريب كثيراً من متحف اللوفر. نعم ؟! لا، أنا بخير، اليوم جئت من دبي، الحمد لله بخير، كلنا عال العال. بالسلامة إن شاء الله، سلم على حبيبتي (سوسية) والأولاد.. أنا أحبك. مع السلامة. أبوك يسلم عليك. مع السلامة يا حبيبي.
(وعلى عجل، وهي تطلب رقماً آخر): ألو.. حبيبتي نجوى. كيف حالك ؟ اشتقت لزوجك وللأولاد جميعاً. هل انتهت رحلتك ؟ نعم، كله ظريف ومرتب وأنيق.
دبي عاصمة الدنيا، لكن الأسعار نار نار يا حبيبتي. لابيرغولا ؟! طبعاً، طبعاً، في أوتيل كافالييري.. يطل على روما القديمة. يجنن، صحتين وهنا، كأني معكم. اطلبي سلطة الكافيار بالسلمون. سلامي لفاروق. وقبلي لي الأولاد. بالسلامة إن شاء الله، بالسلامة، أبوك يسلم عليك وعلى زوجك والأولاد. مع السلامة يا حبيبتي، مع السلامة. (وتابعتْ بعجلة الحازم): سالي، حضري كل الطعام من البراد، ورتبي أريد سفرة ملوكية تليق بحبيبي. Grape Fruitالسفرة كما علمتك، ولا تنسي الـ
(والتفتت نحوك) سآتي يا حبيبي، سآخذ دشاًّ لدقائق، وسأكون جاهزة تماماً، استرح في الصالون قليلاً وسأحضر لنتعشى معاً. (وهي تخطو برشاقة باتجاه الحمَّام)
الأولاد سيأتون مساء غد إن شاء الله.
صوت مياه الدُّش يصل إلى مسامعك واضحاً، فدغدغ حبك القديم للضحك، ففتحتَ
باب الحمَّام متسللاً بهدوء، فانتبهتْ إليك، واستترتْ بستارة البيكادوش وهي تصيح: ـ مراد.. لا أحب هذه الحركات.. أرجوك، اخرج حالاً.
: ـ أريد أن أرى فاتنتي بعد التعديل.
: ـ أرجوك يا مراد.. لا أريد لا أريد. أنت غليظ. غليظ جداًّ.
وطوقتها بغتة، وأنت ترشف فماً وماء ورغبة جموح، وهي تصيح: ـ لا أريد.. لا أريد، لن أكلمك أبداً أبداً.
تلك الليلة لن تنساها ما حييت..
على العشاء، وكانت ميريام تأكل بنهم المُترف، بأسلوب غاية في الإناقة، انتبهتْ فجأة نحوك: ـ مرادي، إنك لا تأكل !
: ـ يبدو أنني لا زلت متعباً.
: ـ هذا عادي، لقد صمتََ لفترة طويلة دون زاد. جرِّب هذه اللقمة من يد حبيبتك.
فتحتََ فمك، وغصصتََ، وكأنك تأكل صبَّاراً، بل كنتَ كمن اشتهى الطعام فباغتته شعرة، أو أحبَّ السمك فعلقت في حلقه شوكة.
ماذا حدث لك ؟
هل تشرق بالسعادة، أم السعادة لا يُشرق بها ؟ وهذا الانطفاء في أحاسيسك لماذا يدنو منك، فيلبس مشاعرك ببرود، ويُطفيء شباب جموحك ؟
: ـ ميري، لا أعرف كيف أبدأ الكلام.. أنا.. متعب (واجتنبت النظر إلى عينيها
وخبطت بيدك على الطاولة عن غير قصد، فصرخت الصحون وتكسر أحدها تذمراً) سأتناول حبتين سيالس !
: ـ يكفي واحدة.. لا تكون متهوراً يا مراد. لا تنسى أنك في الستين.
أخذت الأولى والثانية، ولم يحدث شيء.
كنتَ أرضاً جدباء كانتْ وارف بستان ذات يوم، بل كانتْ كذلك قبل لحظات.. قوياًّ
نشيطاً تريد قبيلة نساء، وأنتَ اللحظة متعب وحزين، فقدتَ ألق السماء في (براق)
وفقدتَ طين الأرض في بيتك ! ففقدتَ المتعتين، وصرتَ صفراً.. تمزقتْ روحك
وتمزقتْ روحك.
: ـ أنا آسف يا حبيبتي، لا أعرف ماذا اعتراني !
: ـ لا تهتم، قربك يُدفئني !
: ـ بت أخاف من نفسي ! هل هو العمر يهزأ مني ؟
: ـ لسنا صغاراً.. لا يهمني هذا الأمر أبداً أبداً، يكفيني دفء حبك !
: ـ مرحبا حب ! (وأحسستَ برأس دمعة أوشكتْ أنْ تخرج من مكمنها فزجرتها بقسوة، فتحوَّلت هَدَجاً في صوتك) قمة المتعة انصهارُ الجسد.
: ـ أخاطبكَ كامرأة.. أنت لي بوجودك معي.
: ـ سأجرب ثانية، لكنني ربما أحتاج أن أبتعد عن البيت قليلاً.
لطمها جادُّ كلامك كصفعة: ـ تبتعد عن المنزل ؟! أنت تمزح، ومزحك غليظ، غاية في السماجة. قلتُ لك لا يهمني هذا الأمر.
: ـ أنا لا أمزح، أنا جاد كل الجد.. سأترك البيت وأذهب إلى المزرعة ! بل سأذهب الآن دون تأجيل.
: ـ فيلة يعفور ؟! في هذا الوقت ؟! يبدو أنك جُننت حقاًّ ! وما الفائدة ؟! أنت تجلد ذاتك ! الحل بسيط.. أقسم أنني لا أحب هذا الأمر. أنسيتَ أنني في الخمسين وأنتَ في الستين ؟!
: ـ نعم، أنا الآن شبه مجنون.. بل أنا مجنون بامتياز.. أنت لا تعرفين شعور الرجل عندما يفقد رجولته. سأذهب حالاً.. ورجاء: لا أريد أن يأتي إليَّ أحد !
: ـ لماذا تقول إنك فقدت رجولتك ؟! هو تعب عارض لا أكثر.. ولو لم يكن تعباً عارضاً فذلك لن يهمني. (ورفعتْ بجمع كفها وجهك وهي تحدق إلى عينيك بصرامة مازجتها شفقة) مراد.. مراد، غير معقول ! يا ربي ماذا دهاك ؟ ماذا حصل لك فجأة ؟! (وفتحتْ فمها لتنادي، فتراجعتْ عن ذلك، وهرعتْ مسرعة باتجاه صيدليتك الصغيرة بالحمَّام، ثم أتتْ نحوك): ـ لن ترتاح سوى بهذه الحبة، خذ اثنتين على الفور.
: ـ ما هذا ؟!
: ـ دورميكوم.. ستهدأ حالاً !
: ـ لا أريد.. لا أريد. هل سأتعزى بالنوم ؟ تريدين أن تتخلصي مني بالنوم ؟! وما فائدة النوم ؟! هل سيرجع لي رجولتي ؟! (وصحتَ بعصبية) خسرتُ ربي وخسرتُ رجولتي ! (وأنت تضحك بسوداوية) عصا الشرطي صارت عوداً، ورجلي الثالثة صارت عود بشام ! حبتان يا ميري وليست واحدة ولم أتحرك !
: ـ أنت بحاجة إلى دكتور، لن يفهم عليك غير الدكتور رشدي. (وأمسكتِ الهاتفَ بلهوجة ملحوظة) ألو الدكتور رشدي ؟ أنا مدام مسيو مراد، آسفة على هذا الإزعاج في هذا الوقت. مسيو مراد يهذي، ولا أعرف ماذا حصل له. السائق أبو أحمد سيكون عندك في الحال. (وصاحت بك:) خذ الحبتين بالإجباري .. !
أخذتَ كرجل آلي الحبتين، ومانعتَ النوم عابثاً، لكنه خذلك وجاء فمد سوادَ جناحيه على عينيك، فغفوتَ كالأطفال.
وفحصك الدكتور رشدي ـ وأنت نائم ـ فحصاً دقيقاً: ـ الحمد لله لا شيء يستدعي القلق. سأمر غداً وأطمئن عليه. سينام على الأقل أربع ساعات. هو الإرهاق لا أكثر.
فقالت ميريام بذعر: ـ وإذا استيقظ وأصر على الرحيل ؟!
: ـ دعيه يذهب.. لا تعارضيه على الإطلاق، ولا تخافي، سأتابع حالته. نحن أهل، لا تخافي أبداً.
فتحتَ عينيك، ونظرت إلى ما حولك. ميريام نائمة على الكرسي حذائك وآثارُ بقايا بكاءٍ على عينيها، وغطاءٌ رقيق فوقك.. وما حدث كان كابوساً غاية في الإزعاج. لكنك لا زلت قلقاً، وبفمك تلك المرارة لا تزال، وحلقك جاف، ورغبة الهرب من الدنيا تنغر بحواسك بدأب دون كلل، كأنها صوت نقيق ماء من صنبور قديم.
ما فائدة حياتنا دون متعة دفء المرأة، ودفء حركة حياة غنجها، ومساكب عطر
وجودها ؟! بل ما فائدة وجودك في الدنيا وأنت تكره الدنيا هذه اللحظة أكثر وأكثر ؟!
الحياة اثنان، وأنفاسنا عنصران، وأنت تختنق، والحل لا يزال في الهروب المستمر، أو.. أو.. ربما يكون بـ .. بـ .. الانتحار ! هل نسيت أنك تخشى الله ولازلتَ تحبه ؟!
كيف تفكر بمثل هذا الأمر الجلل ؟!
الانتحار ؟!
هل أنت جاد ؟!
إنَّ من تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماًّ فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ؟!
ماذا تفعل ؟!
الأبواب مرتجة حولك، أبواب نحاس وأنت في قفر وحيد .. بلا رجولة والآن بلا الـ .. الله !
ورددتَ بآلية، وأنت تفتح باب المنزل بمنتهى الحرص كيلا توقظ أحداً: تعبتُ وعمر الأسى مستمر، عمر الأسى مستمر.. لكنك ستنهي كل ذلك في التوَِّ:
لن تتردى من جبل..
ولن تحتسي السم..
ولن تقتل نفسك بحديدة.
[/align]