21 / 08 / 2008, 09 : 07 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
كاتب نور أدبي مشارك
|
زمن العتمة - طارق شهاب الدين
عاد من عمله مبكرا على غير عادته تعلو الهموم قسمات وجهه ويقترب من لون الصحراء شحوبا يعتصر قلبه ألما جلس في تهالك وكأن جسده النحيل مزرعة لأمراض العالم – خاصة العالم الثالث – جلست بجانبه اقتربت منه وضعت يدها الحانية على جبينه تبعتها بآهة تشاركه بها همومه التي تعرفها سألته وكأنها لا تدري عسى ما شر ؟! أجاب بصوت خافت وكلمات مقتضبة متقطعة ولسان مثقل بهموم الكون : حمدا لله على كل حال .. لا شئ جديد.. هاهي الأيام تمر كما هي ونحن ندور في فلكها راضين أو مرغمين علينا أن نعيشها كما هي ثم أردف قائلا : هل تناولت الدواء اليوم ؟ كست ملامحها علامات كثيرة مزيج بين الحيرة والحزن والألم تبعتها ابتسامة جريحة قائلة بصوت خافت : إذن علمت ما أهمك !! الإنجاب أليس كذلك .. لقد مر على زواجنا سبع يابسات كأعوام يوسف .. ما تركت طبيبا إلا راجعته ما تركت بلدا إلا زرته معك من أدنى الأرض إلى أقصاها من أفقر البلاد علما إلى أغناها ازدهارا وتقدما .. بكافة أفرع الطب الأكاديمي والشعبي والأعلى من ذلك والأدنى ولكن سبحانه وتعالى لم يشأ بعد فلننتظر سبع يوسف الخضر .. شردت قليلا ثم أردفت : قلت لك من زمن أن تتزوج ربما رزقك الله منها ما لم أستطع تحقيقه لك بمشيئة الله ولا غضاضة عندي في ذلك الأمر ولكن هون عليك لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ثم انسحبت إلى غرفتها مطأطأة الرأس كسيرة النفس ذليلة الإحساس رغم قناعتها بأنها ليس بيدها أكثر مما فعلت ولن تستطيع القيام بأكثر مما قامت به ولكن إحساسها الذي يعذبها ويدمر جنبات نفسها شعورها بأنها كأرض جرداء قاحلة تزداد ملوحتها يوما بعد يوم فتقتل كل حياة في باطنها قبل أن ترى الوجود ألقت بجسدها فوق سريرها وأزرفت دمعا من خلائقه الكبر. سعى سعيا حثيثا إلى الغرفة .. دموعها فوق خديها تتلألأ تلألؤ الدر فوق جيد الحسان ينعكس ضوئها على ظلمة نفسه المنهكة حسرة وألما ليحفر نقطة ضوء تملأ جوانحه سكينة ورضا بقضاء من لا يرد له قضاء يضع يده على شعرها المسترسل على وسادتها يلملمه بأنامله ويجفف دمعا أحرق نفسا قبل أن يلسع وجنتين مداعبا إياها : أيتها العزيزة أنت لا تدركين من أنت بالنسبة لي !! لو لم يكن السبب الوحيد هو أنك اختيار الغالية أمي يرحمها الله وأنك أحد وصاياها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة فيشفع لك ألف سبب وسبب فأنت بلا مجاملة ضمن من قال فيهم صلى الله عليه وسلم : إذا نظر إليها سرته وإذا غاب عنها حفظته فماذا أريد عطاء منحني الله إياه أكثر من هذا العطاء فأنت يا زهرتي عطية الكريم ولا يجحد فضل الكريم إلا لئيم أما موضوع الإنجاب هذا فلندعه لله الذي خلق الخلق جميعا فعندي ثقة في الله أنه آت لا محالة وسيرزقنا من لدنه رزقا حسنا إن شاء . قالت بابتسامة شاحبة : يفعل الله ما يشاء . مر اليوم بهمومه وأحزانه وهواجسه وأحلامه تعتمل في نفس كل منهما وناما ليلتهما وهما يستغيثان الله ـ كل منهما في نفسه ـ يناجيان السميع العليم يتضرعان ويطلبان تحقيق ما عجزت عن تحقيقه علوم الأرض وعلماء العالم ومرت بهما الحياة بحلوها ومرها وفي صباح يوم ماطر من أيام الشتاء القارس يرن جرس الباب إنها لا تنتظر أحد وزوجها في العمل ومن يأتي يا ترى في هذا الجو وهذه الساعة ؟! سألت من الطارق ؟ أجابت أمل أمل افتحي الباب لا وقت عندي . نظرت خلال العين السحرية ثم فتحت الباب دون تردد إنها أمل زميلة الدراسة مازالت على طبيعتها لم تتغير بسمتها التي تملأ الكون حبورا وبشرا إنها أمل رددت الاسم كثيرا وهي تضمها وتقبلها لم تهتم بملابسها المبللة بالماء ضمتها أكثر فأكثر وهي تبكي فأمتزج ماء عينيها بماء السماء الذي نقلته أمل إليها خلال ملابسها المبللة سألتها أمل : هل تستطيعين الخروج معي الآن ؟ قالت: لم أقل لزوجي لماذا لم تخبريني مساء أمس كي أستأذن منه ؟! قالت أمل : بمرحها المعهود نستأذن الآن منه .. لماذا اخترعوا الهاتف يا حبيبتي؟! تحدثت مع زوجها وأخذت منه الإذن ثم توجهت إلى أمل قائلة : ها قد حصلنا على الموافقة وماذا بعد إلى أين سنذهب قالت: تصحبينني إلى الطبيبة ثم أردفت : طبيبة لم يمر على فتح عيادتها سوى أشهر لا تتعدى أصابع اليد اليمنى فقط أو إذا شئت قولي اليسرى أو حتى أصابع القدم أو أصابع الموز أو أي أصابع تعجبك المهم أن هذه الطبيبة يسر الله أمر الكثير من الناس على يديها ثم يا عزيزتي هي زيارة لعل الله يجعل فيها خيرا ولكن أسرعي في ارتداء ملابسك فعندي موعد لديها بعد ساعة من الآن وحجزت لك معي قالت لها : أنت أنت يا أمل لم تغيرك الأيام وكأني بك الآن في صفنا بالثانوية وفاؤك.. بشاشتك .. مرحك .. طفولتك التي لم تمحها سنوات سنك. صمتت برهة ، ثم سألتها ولماذا تراجعين أنت هذه الطبيبة ؟! أليس لديك من الأولاد والبنات ما يكفي ردت أمل بدعابة ( اللهم لا حسد) لا تكثري القيل والقال فيضيع الموعد إرتدت ملابسها وتهيئتا للخروج وهي تردد دعاء يليه دعاء وآية تلو آية أن تكون أمل وطبيبتها سببا في تخفيف معاناتها . وصلا إلى العيادة دفعت أمل باب الطبيبة دون إذن وإذا بهما أمام دعاء زميلة الدراسة أيضا وكانت هي المفاجأة التي أعدتها وخبأتها لسوسن صرخت سوسن وهي تضم دعاء وأمل في آن واحد وهي تقول مداعبة كلتاهما : منذ الصباح وأنا أشعر أن هناك شئ غير طبيعي وأنا أعلم أن المصائب لا تأتي فرادى دعاء وأمل في يوم واحد ولم تكن سوسن قد رأت دعاء منذ تفرقا عن مقاعد الثانوية فتزوجت أمل ثم تبعتها سوسن وتزوجت دعاء العلم فالتحقت بكلية الطب وتخصصت في فرع النساء والولادة وهاهي طبيبة ماهرة تنهدت سوسن قائلة في سرها ( كل ميسر لما خلق له ) وتجاذبن أطراف الحديث والماضي الجميل بذكرياته الوردية المدرسة .. المعلمات .. الطالبات وكأنه شريط ذكريات يعود بهن للوراء شيئا فشيئا فتحكي كل منهن ما تجود به الذاكرة من مواقف كادت أن تطمس ملامحها معاول السنين ثم قطعت دعاء الحديث قائلة لسوسن : هيا يا حبيبتي إلى سرير الفحص فليس لدي وقت أكثر مما أخذتما لو حضرتما إلى كل يوم هكذا لأغلقت العيادة مبكرا ولأشهرت إفلاسي في أقرب وقت ممكن ، تمددت سوسن على السرير فحصتها دعاء فحصا مستفيضا وعلت محياها علامات بين الدهشة والتعجب والحيرة ثم خرجت عن صمتها قائلة : خيرا إنشاء الله سألتها سوسن بلهفة مغلفة بدعابة: يعني متى بشرك الله بالخير يا وجه الخير ماذا ترين يا عالمة الطب في حالتي التي أفخر بأنها أعجزت الطب أجابت دعاء بنفس اللهجة : ليس كل من تخرجن من كلية الطب طبيبات يا عزيزتي وستعلمين ذلك غدا أو بعد غد وعلينا أن نجري بعض التحاليل المخبرية والأشعة حتى نقول فيك رأيا تنهدت سوسن بصوت تشوبه الحسرة قائلة في نفسها كلكن متشابهات وماذا تصنعن في قدر الله ثم قالت ضاحكة: إذن أراجعك بعد غد تكون النتائج قد ظهرت ويكون هذا الجو العاصف الماطر الملبد بالغيوم قد انقشعت غيومه عن شمس ذهبية وسحب زرقاء وطبيبة شقراء تعرف الداء وتصف الدواء وإلى اللقاء في اليوم المرتقب وخرجت سوسن مصطحبة أمل وبين جوانحها قلب يخفق بالدعاء والأمل وصلت إلى المنزل استقبلها زوجها متسائلا : خيرا إنشاء الله ما سر هذا الخروج المفاجئ ؟! قالت : خمن وأجيبك إلى أين اصطحبتني أمل ؟ تبسم ضاحكا : العلم عند الله هو وحده علام الغيوب بادرته قائلة : زيارة لصديقة قديمة زميلة دراسة أصبحت طبيبة أجرت لي فحصا وتحاليل وأشعة واستعدنا ذكريات من ماض جميل رد قائلا : وهل الحاضر قبيح يا سوسنة الفؤاد ؟! قالت: ومن قال ذلك ؟! إن الحاضر نتاج ماضينا والماضي ركيزة ما نحياه فلا حاضر لمن لا ماض له ولا حاضر يخلق من عدم فقط أرادت أمل أن نجرب هذه الطبيبة لعلها بعون الله تخرجنا من دائرة الفشل التي ندور في محيطها فلا نحن خرجنا منها ولا نحن تعايشنا معها رد قائلا : يأتي الله بالخير إن شاء ومر اليومان على سوسن كدهر أحلام وردية وهواجس سوداء وتأرجح بين الأمل واليأس لم ينقطع ذهنها عن التفكير ولا يديها ولسانها وقلبها عن التضرع آملة أن تحيا الأمنيات المعدمة في داخلها وتنقشع ظلمات لياليها عن فجر باسم مشرق وفي الصباح رن جرس الهاتف مرة ومرتين وثلاث حتى استيقظت من نومها جاءها صوت دعاء كيف أصبحت ؟ ردت والنوم مازال لم يفارق عينيها : بخير يا دعاء ما بك تتصلين في هذا الوقت هل ؟ لم تكمل سوسن السؤال بادرتها دعاء مبروك أيتها الحامل أشهر قليلة وتصبحين أما لم تتأكد سوسن من خبر دعاء وبشارتها سقطت سماعة الهاتف من يدها وعادت دموعها إلى وجنتيها فلتبك للمرة الأخيرة مودعة كل دموع العالم بدموع فرحة شاء الله أن تكون أفاقت سريعا التقطت السماعة من على الأرض مازال صوت دعاء - أعذب صوت ربما لن تسمع أعذب منه طيلة حياتها القادمة وإلى أن تموت – صرخت بفرحة تكفي العالم لو وزعت عليه، فرحة لو وزعت على البشر جميعا لاقتلعت الحزن من جذوره إلى الأبد : أحق ما تسمعه أذناي يا دعاء هل أنا بصدق أحمل ما حلمت به بين الحشايا دون أن أعلم ؟ هل سأصبح أما ؟ أليس حملا كاذبا أو مخادعا سرعان ما تتراجعين برأيك العلمي فيه ؟ اصدقيني القول فقد أصبحت أمتلك نفسا من الكاوتشوك تستطيع تلقي الصدمات ثم تردها من حيث أتت فلا تؤثر فيها ولا تتأثر بها قولي الحقيقة يا دعاء أجابتها دعاء بلهجة الواثق المتمكن علميا : مبرووووووك يا سوسن أنت حامل في بدايات الشهر الأول أقول لك مبروك ولن تمر سوى أيام قليلة وتتأكدين بنفسك حين لا يأتيك ما يأتي النساء كل شهر قمري يا قمر الزمان . تأكدت من نبرة صوتها أنها تقول الصدق صرخت بأعلى صوت وهي تبكي : بشرك الله بأجمل ما تتمنين يا دعاء وزادك الله علما وفراسة وسأزورك في العيادة اليوم إن شاء الله ودعتها سوسن بهذه الدعوات الجميلة ثم بحثت عن أقرب أريكة وكأن المكان ـ لشدة فرحتها ودهشتها وصدمتها ـ خال من كل شئ جلست برهة ثم فزعت قائمة توضأت ثم صلت ركعتين شكر لله ثم جلست تتحسس بطنها بكلتا يديها وتحدث نفسها: آه أيتها الأيام لقد هزم الصبر اليأس والقهر وصدق الله العظيم ( وبشر الصابرين ) أخيرا تحققت أغلى الأماني هاهي الأرض القاحلة الجرداء تنبت زهورا جميلة وتشق الأنهار طريقا لها في صحراء الأيام فتغدو رياضا وبساتين .. سوسن حامل .. المولود أصبح قاب قوسين أو أدنى .. الوهم يصبح حقيقة ماثلة للأعين .. الصحراء تخلع ثيابها الصفر وترتدي حلة من أبهى الحلل حاكها السميع العليم القادر على كل شئ .. سوسن حامل وداعا يا سوسن لأيام الشقاء والفكر والعناء .. آت أنت أيها المولود الحبيب تحمل معك شهادة أن كل شئ بأوان .. آت أيها الغريب الذي طال انتظاره تحمل باقات الأمل بسحر عينيك ورقة ملامحك ونعومة أظفارك .. آت لا محالة لقد أمر الله وحملت البشرى دعاء التي ساقتني إليها أمل في يوم ماطر يحمل عواصف الخير ورياح البشرى السارة ومطر السماء الذي أنبت الصحراء زهورا ورياحين سبحانك يا من تكمن أسرارك وحكمك بين الكاف والنون ماذا أقول لمحمد حين يعود من العمل أأبشره هاتفيا أم أنتظر عودته؟ لابد أنه سيحملني اليوم إلى العيادة ـ من فرط فرحته ـ سيرا على الأقدام كيف أفتح له الباب حين يرن جرس الباب؟ ماذا أرتدي؟ كيف أزف إليه البشرى؟ هل سيحتمل الفرحة أم سيغيب عن الوعي كما أغيب أنا الآن؟ ليته يأتي مبكرا لن أخبره هاتفيا سأنتظر عودته لأرقب قسمات وجهه وأسجل علامات فرحه وأضمه إلى صدري لتمتزج الفرحتان ستطير طيور الفرح بين جنبات هذه الدار التي حول أركانها الإنتظار واليأس والملل إلى مساكن للأحزان وداعا لبؤر الظلام وهواجس الماضي ولنستقبل سويا ترانيم فجر طال انتظاره أيقظها من أحلامها وتوقعاتها و استعداداتها لمقابلة زوجها رنين جرس الباب هرولت إليه فتحت دون أن تعرف من بالباب احتضنتها باكية سألتها أمل أمل ما الذي يبكيك يا درب الخير والسعادة ونور اليقين ومسالك التائهين . لابد أن الخبر طار إليك لابد أن دعاء أبلغتك كفت أمل عن البكاء وكفكفت دمعها وقالت نعم مبروك الحمل . إذن : لما بكاؤك أهو بكاء الفرح؟ أعلم أنك أوفى الصديقات وأنت وجه الخير وضعت أمل كفها على فم سوسن طالبة منها الصمت أرجوك لا تتكلمي. لماذا يا أمل ؟ الكون كله يجب أن يعلم لا بد أن تعم الفرحة أرجاء الكون صرخت أمل ( أبقاك الله هاتفني زوجي أن محمدا قد إنتقل إلى جوار ربه ) خرت سوسن أرضا وماتت الكلمات فوق شفتيها كما مات محمدا أخرستها المفاجأة أخذت تردد سبحانك اللهم .. سبحانك اللهم ثم سألت في حالة شبه هستيرية كيف حدث هذا قالت أمل : علمت بخبر الحمل فطار زوجي به لزوجك إستأذن من العمل لفرط فرحته ليحمل لك الخبر ولكن سرعته على الطريق قتلته ووارت فرحته معه أين هو الآن بالمشفى وجميع أصدقاءه بجانبه إنها أقدارنا يا سوسن رن جرس الهاتف إنتشلها من آلامها رفعت السماعة ردت بصوت بحه الألم وأنفاس كتمتها الفجيعة جاءها صوت دعاء ظنت أنها ستعزيها في زوجها لكن دعاء أردفت قائلة سوسن هل تسمعينني يبدو أن هناك خلط حدث بالخطأ في معمل التحاليل آسفة لقد كان حملك كاذب وخيرها في غيرها طالما أنت ومحمد بصحة جيدة وسعادة غامرة فلابد أن تأتي الذرية الصالحة إنشاء الله سقطت السماعة من يدها للمرة الثانية لكنها لم ترفع يدها لتلتقطها رفعتها أمل لتخبر زوجها الذي مازال بالمشفى بجوار زوج سوسن المتوفى أن سوسن لحقت بزوجها إلى الرفيق الأعلى أغمضت دعاء عيني سوسن على حلم أراد الله ألا يتحقق أبدا ولف السكون المكان بثياب سوداء وهكذا يظل دائما الموت قرين الحياة أينما وجد هذا وجد ذاك وتظل مشيئة الله هي الكلمة الفصل في عباده .
طارق أحمد شهاب الدين
tetosun@hotmail.com
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|