رد: ظاهرة التدوير في الشعر الحر/د.رجاء بنحيدا
فالتدوير كظاهرة موسيقية لها وظائف دلالية ونفسية وإيقاعية ، إذ يكسر رتابة التشكيل المتموج في قصيدة التفعيلة ، كما يجعل لعبة البياض والسواد أكثر دلالة وامتاعا ، فيمنح للسواد حضورا
وتكثيفا ، مما يصعب معه تحديد السطر الشعري في حد ذاته كمفهوم ، وفي غالب الأحيان تصبح القصيدة لحمة متراكبة غير قابلة للتجزيء والتفكيك .
إذن بحضور هذه الظاهرة الإيقاعية تنتفي مبدأ استقلالية السطر الشعري ، لأن المعنى في القصيدة المدورة يجري بانسيابية وطواعية خلال السطور وبينها ، وهذا ما يجعل المتلقي لا يقف إلا عند نهاية الجملة أو المقطع أو القصيدة برمتها ..
وهي ظاهرة لا يجيدها إلا الشاعر المتمرس المتمكن، ولكونها ناتجة عن ضرورات موضوعية وفنية ، تنتهج أسلوبا تعبيريا معينا يقترب من الأداء القصصي وأسلوب السرد الذي يتصف بالتتابع المستمر..وغالبا ما يوهم بالتقاطع بن الشعر والنثر ، كما يضمن وحدة المقاطع بحيث يجعل القصيدة المدورة تستوعب الحركة الداخلية المرتبطة بنفسية الشاعر والحركة الخارجية المتمثلة في عناصر الوجود ، وبما تنطوي عليه الحركتان (المتكاملتان المتناقضتان) من تناقض وتكامل وتصارع وفق ما يتطلبه الأداء الدرامي .
ولا يفوتني هنا أن أدرج نصا لشاعرنا الغالي ، شاعر التجديد طلعت سقيرق الذي حمل لواء السبق في القصيدة المدورة ، وكان له الفضل الكبير في التجريب والتميز معا ، فرسخ بقصائده .. مفهوم التجديد في الشعر التفعيلي / فأصبحت القصيدة ومضة مدورة مسترسلة ، منطلقة التفعيلة غير مقيدة...
إنه الابتعاد عن النمطي الجاهز ، وخلق عوالم جديدة في رحاب قصيدة التفعيلة التي كسرت الجاهز وانطلقت من مبدأ .. التحرر والانعتاق والانطلاق .
ومن أجواء قيثارة الوجد للشاعر الفلسطيني طلعت سقيرق نرحل في رحلة الانعتاق والتحرر ضمن قصيدة مدورة تدويرا كاملا من أولها إلى آخرها ، بل هي سطر واحد متصل عروضيا وموسيقيا ، حقق الشاعر بها وحدة عضوية ، ووحدة نفسية ، وتكاملا عروضيا دون نقص أو خلل .. فأوفى الشاعر للقصيدة حقها ، فجاء التلاحق الإيقاعي منسجما مع متطلبات الأحداث المتلاحقة في دفقة شعورية متواصلة تواصل البيت الواحد والسطر الواحد ، مع انسياب دلالي وعروضي ودون وقفة وزنية ولا بياضية،،
((أرى شبـّاكَ ذاكرتي يطلُّ عليكِ أمسحُ دورةَ الأيام كي ألقاكِ بين طفولة ٍ تغفو وحلم ِ صبية ٍ راحتْ ضفائرُها تثيرُ الموجَ في بحْرٍ من الكلماتِ سبحانَ الذي أعطاكِ هذا الحسنَ يا وردا يكادُ يطلُّ منهُ الوردُ في ورد ٍ حملتُ إليكِ نبضَ القلب بستانا منَ الشعرِ الذي صاغتـْهُ أجراسُ الهوى العذريِّ كنتُ أدورُ مأخوذا بتلكَ البنتِ أسألُ كلَّ أحلامي تـُرى هلْ كفــُّكِ ارتاحتْ قبيلَ اليومِ في كفـّي وهلْ مرَّ الصبيُّ مرورَ غيمِ الصيفِ في عينيكِ أمْ أحسستِ أنـّي كنتُ أعشقُ وجهـَكِ الفتّانَ أحملُ سلة َ الخفقاتِ مجنوناً إلى بنتٍ يكادُ الشارعُ الممتدُّ يلفتُ نحوكِ الأشجارَ أعناقا منَ الشغفِ وكنتُ أشاغلُ القلبَ الذي جُنـّتْ بهِ الدقاتُ كيْ يرتدَّ منْ صبرٍ إلى صبرٍ عيونُ الناسِ تقطفُ منكِ أشرعةً فألثمها وألثمُ نصفَ أحلامي التي راحتْ تدورُ وتحملُ الأزهارَ منْ خديكِ تزرعـُها على دربٍ منَ الآمالِ أمشيهِ أقولُ لكلِّ أيامي إذنْ تلكَ التي أهوى سأحمـِلها إلى يومي الذي يأتي وأغزلـُها هنا في القلبِ موالا وأزرعـُها هنا في الروحِ جنات ٍ منَ الألحانِ لا تفنى هوايَ هدايَ أيـّامي التـي تأتي غدا إنْ مرتِ السنواتُ آخذها على فرس ٍ من الأحلامِ أحرسُها بقلبي بالعيونِ بكلِّ ما في العمرِ منْ عمر ٍ أسيـِّجُ حبـَّها بالوردِ والأزهارِ أحميها منَ الدنيا وأفردُ كلَّ ما في العشقِ منْ شجرٍ سماءً تفردُ الأحلامَ تعطيها قناديلا منَ الوجدِ الذي يبقى لها وجدا ولا تلقى بطولِ العمرِ غيرَ الحبِّ منْ قلبي ومنْ روحي ومنْ أنفاسِ أنفاسي ضفائرُها التي جُنـَّتْ على كتفينِ من سحر ٍ ستذكـُرني إذا فردَتْ على كفـّيَّ أنغاما من الشعر ِ الذي صلـَّى لهُ الحسنُ انحنيتُ الآنَ أجمَعُ منْ زمان ٍ مرّ أحلامي وأنظرُ يا منايَ هواي َ في عينيكِ أذكرُ في زمان ٍ مرّ سحرَ حبيبة ٍ كانتْ ضفائرُها تعلـِّقـني بفتنتها وكنتُ أدورُ مثلَ الضائعِ المأخوذِ أجمعُ كلَّ ما في العمرِ منْ سحر ٍ لأسرقَ منكِ لمسةَ كفّكِ اليمنى أوِ اليسرى تذوبُ تدورُ في كفي وكنتُ أطيرُ من فرحٍ إذا ما ذابتِ العينانِ في العينينِ أقفزُ مثلَ ما شاءتْ ليَ الأفراحُ كمْ غنيتُ في سرّي ضفيرتـُكِ التي نامتْ بكلِّ حقولِ أيامي وراحتْ تمطرُ الألحان .. ))
حرية وانطلاقة في التصرف بالألفاظ وتوظيفها دون اعتماد علامات أو ترقيم ..مما وفر وحدة نغمية وتنوعا مع امتداد السطر والبيت والقصيدة ، وهو ما أثرى القصيدة صوتيا وإيقاعا .. وأغنى الإيقاع الداخلي للقصيدة ..
حقيق علينا أن نقف عند هذا الإبداع المختلف المذهل والذي يتطلب قدرة فائقة كما جاء على لسان أديبتنا هدى نور الدين الخطيب لأنه تجربة إبداعية متميزة تستحق منا الدراسة أكثر والإشادة بها والوقوف عند أدق خصائصها .. لما تحمله من تجديد موسيقي وإيقاعي .. نادرا ما سنصادف شبيها له ...
د / رجاء بنحيدا بتاريخ 16-9 -2015
|