عرض مشاركة واحدة
قديم 18 / 09 / 2015, 07 : 04 PM   رقم المشاركة : [1]
هدير الجميلي
كاتب نور شديد الفاعلية

 الصورة الرمزية هدير الجميلي
 





هدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond reputeهدير الجميلي has a reputation beyond repute

بيانات موقعي

اصدار المنتدى: ؟

ذات الاحلام السوداء/ هدير الجميلي

ذات الأحلام السوداء

في المساء تنطفيء جفون المتعبين من العمل نهاراً، يغزو الخدر الأجساد فتستسلم لسلطان النوم، وتستيقظ رغبة السهر والترفيه لدى آخرين، قالوا قديماً الليل ساتر، لهذا يهب من يخشى الفضيحة للنشاط فيه.
تنهض من سريرها، تراقب غروب الشمس من نافذتها البكماء، تهذب جموح شفتيها المنهكتين بقطرات ماء بارد، تدق طبول إفريقية في رأسها المائج من طول السهر والنوم نهاراً، تلتهم الأفق بعينيها الناعستين وهي ترتشف قهوة مكفهرة كحياتها، وتنفث دخاناً يحاكي آمالها، كسلحفاة تجر جسدها المبعثر عبر ردهات البيت السخيف، تستحم بعطور باريسية وتجلس إلى طاولة عليها الكثير مما لا تحتاجه المرأة العادية، الوحدة هي الشيء الوحيد الوفير، بعد منتصف الليل بقليل يعود إليها نشاطها، وربما تستجلبه بحاجاتها الملحة، تقف أمام مرآة ضجرة وتبدأ بطلاء وجهها وشفتيها بشتى ألوان الأمنيات، لكن هل يصلح العطار ما أفسده الدهر!
تدس نفسها في فستان ضيق شبه عار، كانت قد ابتاعته من أحد المحال اللندنية، لونه لا يتوقف عن تذكيرها بالسواد الذي لف حياتها، تلقي على كتفها معطف فرو ثمين، فالصيد الثمين لا يأتي إلا بطعم أثمن.
تستقل سيارة يبدو التدين على سائقها الخمسيني، يعلق على عنق المرآة مسبحة فضية، ويضع على التابلو مصحفاً صغيراً هو أقرب للعبة خفيفة الوزن، ربما كي يشعر بالاطمئنان، تحدثه بطلاقة وهو يغض البصر عنها مرتبكاً، يرد باقتضاب شديد، غموضه جلب لذاكرتها ركوبها سيارة مشابهة مع شخص مشابه، كم كانت ساذجة حين وثقت به فوجدت نفسها تباع كسلعة بلا إرادة، تناوبوا على استباحتها وتركوها تسبح ببحر من الأحلام السوداء، مما اضطرها لإعادة ترتيب مستقبلها الظلامي.
بلغة مكسرة تضلل السامع عن أصلها تخاطبه وقد اقتربت من وجهتها المريبة: أيها الرجل الطيب لا تخف من النظر إلي ولا تغضض الطرف عني، لن أقول لك بأني كإحدى بناتك... حتماً لن يشرفك هذا، أثارت كلماتها عاطفته لكنه تماسك وحافظ على رباطة جأشه، عينه على الطريق باستقامة، هكذا علمه دينه.
تستمر بالحديث فنادراً ما تجد صدراً نقياً: أي بلد تلك التي تقتل الإنسانية من أجل سياسات دنيئة! شيء ما يقيدني، كالجبال على صدري منذ أن محو كل طفولتي، نظر إليها بعينين حزينتين تسبقهما دموع قلبه، فهو يعلم جيداً معنى أن يضيع الشخص من نفسه وأهله، كان من الممكن أن يواسيها لكن نفسه رفضت، وكيف وهي بهذا السوء من الأخلاق! تلك البنايات العالية أكبر دليل على عصر أبشع من القتل، عصر الرق والإتجار بالبشر ومشاعرهم، فهي تذهب كل ليلة لتطعمهم بقايا جسدها بعيداً عن روحها، فقد أعلنت نعيها منذ اليوم الأسود الذي اغتصبت فيه بلادها قبلها، الكل يدفع جيداً هنا.
قاطع شرودها وملامح ضبابيه تحاول أن تكشفها يد القدر: لقد وصلنا... ترجل من سيارته خلفها بعدما غطت نفسها لتعيد شيئاً من الحياء إلى جسدها المفضوح: لا أريدكِ أن تدخلي هذا الوكر القذر، سأدفع لكِ أضعاف ما ستحصلين عليه... ضحكت بحشرجة حزينة: كيف تدفع لي وأنت مجرد سائق تكسي! أتعلم يا هذا أنني أجني في الليلة الواحدة قدر ما تكسبه أنت في شهر...
أدركت وهي تدير ظهرها أن في هذا الغريب شيء ما يحيرها، هي أكيدة إنه ليس من صنف الرجال الذين تغويهم أية امرأة مهما كانت جميلة، فهو لم يلتفت لجمالها الذي لا يقاوم، قالت: أفكر أن أقضي هذه الليلة معك، وعلى حسابي الخاص!
نظر إليها متعجباً وأشباح المارة تحملق فيه وتدوس بغرابة على ملامحه: ما حاجتكِ إلي وأنا أخاف الله، أتيت لهدف وليس سعياً لرزق، فما أعطانيه ربي من خير يجعل أحفادي يعيشون باقي أعمارهم بنعيم، ولست من زبائن المتعة.
سار بها في السيارة بين طرقات المدينة الكبيرة وهي متأملة.. صامتة.. يساورها قلق كحوت كبير يحاول ابتلاع ما تبقى منها، المنازل غيلان كريهة الرائحة، والسماء تنزف دماً بدل تلك النجوم اللامعة: من أين أتيت أيها الرجل الطيب؟ ليتك تخبرني قصتك...
يدخل بها بداية النفق الذي دخلت منه إلى بلاده حتى يصل بها إلى آخره...
هل تبحث عن ابنتك بعد سنوات طويلة مضت؟ كيف ستعرفها! قد تكون قد ماتت، صدقني في هذه الظروف يموت الكثيرون بلا جريمة..
لم تتوقع مثل هذه النهايات المفاجئة، كيف ستدون في دفاتر حياتهم خطوطها الحمراء! من سيقبلها الآن وبعد كل هذا! لن تطهرها كل مياه البحار، لأول مرة سوف تتخلى عن أحلامها السوداء بعدما أنست إلى جوارها زمناً، تساؤلات حارقة جالت برأسها كعاصفة سيبيريه: رواسب الخوف تذيب حواجز الصمت الذي تغشاها، أخذت تقلب الأمور بعينيها، هو سيزور كل البلدان حتى يعثر عليها أو يتأكد من موتها فتغدو ذكرى أليمة تنسى مع الزمن.
تبكي في داخلها، اجتاحتها صور متكررة من الماضي وهو يحدق فيها، تحطم صنم الرغبة الذي بداخلها، أحست بألمه وعرفت أنها لم تكن سوى واقع مرير فرض عليه، استدارت وهو يكفكف الدمع، مدت يدها تربت على كتفيه علها تلملم رماد جراحه الغائرة، وتنزع عنه سنوات انتظار طفلته الحبيبة: خذ بنصيحتي أيها الرجل الطيب... الأموات لا يعودون...
جلست في شقتها تتمرغ بالندم، تمنت احتضانه للمرة الأولى والأخيرة، توجهت إلى الحمام لتغسل عنها الرجس، وتضمد روحها المرهقة، اغرورقت عيناها بدموع التوبة، فقد حان تأبين جنازة أحلامها، تجلس أمام مرآتها مصدومة غير مصدقة ما جرى معها هذه الليلة .

*****

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع هدير الجميلي
 [gdwl]هو السفر إلى المستحيل عندما تستقل قارب لا مجداف له[/gdwl]

هديــــــــــــــــر الجميــــــــــــــــــــلي (نزف النواعير)
هدير الجميلي غير متصل   رد مع اقتباس