رد: الوفاء بالمعنى وبالإيقاع في شعر طلعت سقيرق / التكرار-1-
تختلف محاور التكرار وأنماطه في شعر طلعت سقيرق وتتنوع بتعدد السياقات الشعرية إذ نجد تكرار الحرف والكلمة والعبارة والجملة ،لكن المختلف الذي يشد القارئ في هذه التنوع هو تلك اللمسة الفنية الشعورية التي تتكاثف مع سائر الأساليب والظواهر الأخرى لتضفي حياة للمعنى وللموسيقى، وتكشف عن بناء فني متماسك متكامل ..بشكل واضح تجعل القارئ مكتشفا لأجواء ومحاولات متجددة تطغى على روح الشاعر وشعره وإحساسه ((من جهتي أجد التجديد والحرية يكمنان في نسف الإطار الجاهز شعريا والخروج دائما بإطار جديد من حيث الشكل وبما يستتبع بالتأكيد تجديدا في كل مسارات القصيدة))
نعم ، إنه شاعر التجديد والتغيير، لايحب النمط الواحد ولا يركن إليه .. لأن(( النمط ركود وموت ، النمط كسل شعري وأدبي وفني ، كل الشعراء الذين ركنوا إلى النمط هم شعراء خارج دائرة حياة الشعر ))1-.
من روح التجديد والابتكار ، ومن فيض الروح واستنطاقها ، برز لنا التكرار في أعمال طلعت سقيرق بأشكال مختلفة في رحلة سفر ، على شراع قصائد تحملك إليها ، لتجد شعرا جميلا وإحساسا راقيا ، من خلال روح تصب في أصغر وحدة صوتية (( الفونيم)).. إلى أكبر وحدة (( جملة أوسطر ))لتجعل القصيدة كائنا حيا لا جثة هامدة ...
إذ نجد انتقاءً لألفاظ تحقق تكرارا في الصوت ، وتكرارا في المقاطع ، وتكرارا في الوحدات الصوتية ، والتراكيب النحوية ، و تنوعا ومهارة وفنا وحرفية تدعم الحركة الدلالية والإيقاعية في النص الشعري السقيرقي ، لإثارة انتباه القارئ إلى هذه العلاقات البديعية المتنوعة ، والتي تضفي جمالية فنية وموسيقية .. من خلال تنغيم تناظري متكامل ، يبعث في القصيدة إيقاعا ... ومعنى ...وحياة.
القصيدة الصوفية المقطع 12
لماذا أنت ذاهبةٌ إلى أحلام أغنيتي..؟؟..
لماذا أنت عائدةٌ إلى أيام أمنيتي..؟؟..
لماذا أنت كاسيةٌ بنار الشهد أمسيتي..؟؟..
ومن أعطاكِ مفتاح الحقول السمر من أعطاك مفتاح الزمانِ الجمرِ من أعطاكِ لوز الروح يا وعداً على الشطآن يتركني وفي بركان ما في النار من وجع على حد انتباه النار يبقيني..؟؟..
ما أجمل هذا التكرار الاستفهامي !! الذي أكسب المقطع سموا تعبيريا تأثيريا ، وطاقة شعورية قل نظيرها ونفحة شعرية زادت من انتظام لغته ، وعززت جوانب الإيقاع فيه
تكرار يلامس قلب القارئ أكثر ، لأنه تكرار تعبير لا إخبار ، ، هو تكرار للغة الوجدان ، ينهض بوظيفة التأثير والتعبير وسمو الكلمة والإحساس ..
وهكذا هو التكرار في الشعر هو روحه ونبضه ، إن غاب ، اضمحل إيقاعه ، وماتت أنفاسه ، وشلت امتداداته واستمراريته .. وتناميه .
هو تكرار استفهامي بحلة وقيمة جمالية ، وغزارة في الشحنة الانفعالية ، وتلوين في الموسيقى والصوت ،ولد جرسا لفظيا وتساؤلا ساهم في تعميق دلالة المقطع ، فكان وقعه على النفس ..عذبا سلسا..
القصيدة الصوفية المقطع 16
-16-
أريدك أشتهي عمراً يفيض بروعة العمرِ..
أريدك في يدي كفي حياتي قامتي صدري
أريدك كلّ ما في الأمر من أمر
أضمُّ البحر في فصل التفاصيل..
أجيء الزهرة الأعياد قافية وموّالاً على صدر المواويلِ..
تشهّيت ارتداءكِ في عناويني
تشهيتُ اندلاعك في شراييني..
تشهيتُ ابتداءك في زمان الوصل في تكوين تكويني
لوحة تفيض لوعة وإحساسا، لوحة شفافة قوية ينشد فيها الشاعر عمرا يفيض روعة .. العمر،
إذ نجد في تكرار أريدك .. طلبا وطموحا ، اكتمالا وانتشاء ..
لوحة فيها بريق كلمات ناطقة قادرة على الإعادة والتكرار ، قادرة على شد القارئ وجذبه ، على خلق تواصل يلمس شغاف القلب .
هي كلمات تتنفس لتلمس شعرا يفيض إحساسا وإيقاعا .. معنى ورقة وإمتاعا ....
أجيء إليك يا قلبي الفلسطيني
ويا عمري الفلسطيني
ويا شجري الفلسطيني
ويا حبي الفلسطيني
فأنت هواي أحلامي
وكل العمر
موالي الفلسطيني(( قصيدة : الفلسطيني ))
نلاحظ أن الكلمة المكررة (( الفلسطيني ))تأخذ موقع نهاية السطر(.... أ )-(....أ ) فتحتل مكانة القافية وموقعها ، ولكن تختلف عنهاإذ لم تعد إيطاء ، أي عيبا من عيوب القافية كما جاء في الشعرية العربية القديمة ، أو عجزا ، بل أضحى لها في الشعر المعاصر (( خصيصة الدوال في النص ، وحيث أصبح الإيقاع أقوى من كل قصدية وهمية ، وهو بذلك يُصعد الإيقاع ويُكثفه فيما هو يلغي المعنـــى الواحـــد ليحل محله بناء الدلالــــية )) 3-
لنجد الإيطاء قاعدة من قواعد البناء الإيقاعي المتجدد .
ولاجرم أن تكرار لفظة ( الفلسطيني ) في نهايةالأسطر قد أضفى على المقطع جوا موسيقيا متناغما ، داخل لوحة فيها إصرار وتشبت بالأرض .. بالوطن ، فيها انغماس وشوق وعشق ..
((فكنْ عمري وأيامي
وأحلامي وكن نبضي))
تفاعل دلالي وتصويري داخل لوحة .. يطل عليها الفجر من صباح فلسطين ومن أحلام وعد وأمال عشق وشوق .
فلفظة الفلسطيني في نهاية السطر لهاأثر نفسي ... وموقع عجيب من نفس الشاعر والقارئ معا،
ومما لاشك فيه أن للنفس نصيب ، في الاستئناس باللفظ والميل إليه ،من خلال تكراره وإعادته ..ومن خلال إيقاعه الصوتي والنفسي والقيمي المتجاوب مع المعنى .
ومن قصيدة أنت الفلسطيني
أنتَ الفلسطينيُّ أنتْ
أعلى منَ السجانِ أنتْ
أعلى منَ القضبانِ أنتْ ..
أعلى .. وأعلى ..
أنتَ .. أنتْ ..
أنتَ الفلسطينيُ يا رئةَ الزمانِ إلى
المطرْ ..
أنتَ الفلسطينيُ أنتَ
وأنتَ أنتْ ..
الأرض أنتْ ..
والدارُ أنتْ ..
والبرتقالْ ..
أنتَ السهولُ جميعها
أنت الجبالْ
أنتَ الفلسطينيُ أنتْ
أنتَ المطرْ ..
أنتَ الجذورُ وأنتَ في
جذعِ الشجرْ..
انطلاق من لازمة تكرارية ((أنت الفلسطيني)) تكشف العمق الدلالي والفني ، للكلمة ، كما تستمد القصيدة حيويتها الإيقاعية من خلال الحركة الصوتية لضمير( أنت ) المصاحبة لكلمة (( الفلسطيني )) ، مما جعل المتلقي يتأثر بصريا ، وذلك من خلال التماثلات الخطية ، وإيقاعيا من خلال التماثل في الحركات الصوتية والتناغم الحرفي والتطابق التركيبي ..
كما أن تكرار للضمير (( أنت )) أفقيا وعموديا، هو تكرار لذات تتماهى فيها ذات الشاعر .. لتشكل قوة فاعلة .. تعبر عن الجماعة، فيشكل ( الضمير )) فضاء ممتدا داخل القصيدة ، وتناميا وتلوينا إيقاعيا مع لازمة ثابتة بشكل حرفي ودلالي (( أنت الفلسطيني .. أنت )) التي تؤدي وظيفة كلية و من صميم الرؤية النصية والإيقاعية في فلك شعري رحب غير محدود... ولا مقيد .
وأنا أقوم بدراسة التكرار في أعمال شاعرنا المبدع طلعت سقيرق ، وجدت بحرا عميقا مازلت أقف على شاطئه الجميل ، متطلعة إلى سماء شعره وأفق توهجه المشع بنصوص كبيرة ،بحجم حلم شاعرنا ، بحجم مساحة هذا الوطن وتضاريسه .. وعميقة عمق إحساسه المرهف وروحه..الوفية الصادقة .
*******************************
1-الشاعر "طلعت سقيرق" ل"تحولات": أنا عاشق دائم.. وأبحث عن التجديد السبت 21 شباط (فبراير) 2009.حوار : سلام الزبيدي
2- مقالة تحت عنوان (( تنميط القصيدة )) بقلم الأديب : طلعت سقيرق
nooreladab.com/vb/showthread.php?t=12014
3- محمد بنيس : الشعر العربي الحديث ج1- الشعر المعاصر -دار توبقال - الدار البيضاء ص --150
|