المزج الإيقاعي / قصائد أمل دنقل نموذجا
المزج الإيقاعي // الشاعر أمل دنقل نموذجا
( صوت ) /// ( جوقة خلفية )
أيلول الباكي في هذا العام //// /// ها نحن يا أيلول
يخلع عنه في السجن قلنسوة الإعدام //// /// لم ندرك الطعنة
تسقط من سترته الزرقاء... الأرقام //// فحلت اللعنة
يمشي في الأسواق: يبشر بنبؤته الدموية /// في جيلنا المخبول!
ليلة أن وقف على درجات القصر الحجرية /// ..... ..... .....
ليقول لنا: إن سليمان الجالس منكفئاً /// قد حلت اللعنة
فوق عصاه /// في جيلنا المخبول !
أواه /// فنحن ياأيلول ..!!
قد مات: ولكنا نحسبه يغفو حين نراه!
قال فككمناه .. وفقأنا عينيه الذاهلتين!! /// لم ندرك الطعنة .. !! -1-
/ فـــــاعــــلن / /// مـــســـتــفــعــلن
قد يجد المتلقي النص الشعري أعلاه .. نصا مختلفا هندسة .. وإيقاعا وتركيبا ، فهو نص شعري .. يتطلب إخراجا مسرحيا شاعريا .. تشكيليا ، لتعدد الأصوات داخل النص ، وللتزامن التشكيلي بين عمودين متقابلين / متكاملين إخراجا وشعرا / مختلفين وزنا وإيقاعا .. فالعمود الأول ينتسب إلى دائرة " المتفق " المتدارك ، في حين ينتسب العمود الثاني ( الصوت ) الرجز /دائرة المجتلب ((أو السريع المجزوء / المشتبه)) " وهذا ما جعل تفعيلتهما تتباعد وزنيا وكميا .
تباعد ...سببه إيقاع تشكيلي هو إيقاع بياض وفراغ ، إيقاع فراغ يفصل بين سرد مفصل ( صوت ) واستخلاص موجز(جوقة ) .. هو إيقاع صمت ناطق .. لهزيمة توحد ووحدة !!
فغياب الحروف والكلمات بين العمودين ..هو إبراز لوقفة بياض ، لانفصال وحدة وتوحد (مصر وسوريا في شهر أيلول) .. هو انفصال معنى وتباعد أصوات وإبراز لبياض صوت وحرف وإيقاع ..
في المقطع تشبيه وتناص ،، يظهران حرقة أبانت عن واقع أماط اللثام عن خيبة ونكسة .. عن سوء آمال ومآل في قالب إيقاعي يمزج بين تفعيلتين تتباعد من حيث الوزن والكم ، فها هو بحر المتدارك / الخبب أو الراكض أو المتدني كما يسميه البعض له تفعيلة سهلة التحول لأنها تعتمد على تنوع مقطعي ، يجمع بين سببين خفيفين ( -0 - 0 ) وسبب خفيف ووتد مجموع في حالة المتدارك ( -0 --0 ) الذي يعد بمثابة الخميرة الإيقاعية التي تتشكل منها البحور الشعرية ، فهو الروح في أول مراحل تجسدها لا الجسد ...
هو بحر من البحور الصافية التي توافق نواتها التفعيلية التشكيلات التفعيلية التي تتضمنها البحور الأخرى ، وهذا ما جعل بعض النقاد يعتبرونه الأساس في خلق ما يسمى المفصل الإيقاعي .
يقابل البحر المتدارك بحر الرجز التي يتكون من ثلاث نوى ( فا - فا - علن ).. سببين خفيفين .. ووتد مجموع.. ولعل تواتر السببين الخفيفين يفسح المجال للزحاف للتحوير والتغيير ..
..
.هذا التحوير التغيير الذي يلحقه يجعل الأمر ملتبسا بينه وبين بحر السريع إذ من الملاحظ أننا إذا حذفنا من بحر السريع جزأين وجعلناه رباعيا أو مربعا صار هو بذاته مجزوء "الرجز "، .. وهذا ما يؤكد افتراضيتي التي وضعتها في بداية التقطيع الوزني / الإيقاعي للجوقة الخلفية .. فارتأيت أنه يقبل كلا الوزنين مجزوء الرجز / مجزوء السريع مما يرجح ما ذهب إليه بعض دارسي العروض " أن الخليل في تقسيمه البحور على الدوائر كان إلى القياسات الرياضية " الحسابية " أقرب منه إلى الاعتبارات " الموسيقية" والنغمية والإيقاعية ، وإلا كان جديرا به أن يضع السريع ضمن دائرته العروضية الثالثة ( المجتلب) جنبا إلى جنب مع الرجز . " -1-
أما النموذج الثاني المقتطف من قصيدة سفر ألف دال ..
القطارات ترحل فوق قضيبين : ما كان ما سيكون !
والسماء رماد ، به صنع الموت قهوته ،
ثم ذراه كي تنتشقه الكائنات
فينسل بين الشرايين والأفئدة
كلُّ شيء - خلال الزجاج -يفر :
رذاذ الغبار على بقعة الضوء
أغنية الريح
قنطرة النَّهر
سرب العصافير والأعمدة -3-
في هذا المقطع تظل صورة المزج الإيقاعي مزاوجة بين المتدارك والمتقارب ، وقد جاء التنوع كنتيجة لرصد حالات الشاعر المذبذبة بين الحزن والأمل بين الحب والفقدان .. بين الموت والحياة .
مزج بين وزنين خماسيين ، ينتميان إلى نفس الدائرة (( المتفق)) ،لتشابه بنيوي بينهما .. رغم استدراك الأخفش لبحر المتدارك كما يروى ،ولكن التفعيلة (( فاعلن )) هي إحدى التفاعيل الخماسية التي ارتكز عليها .. الخليل بن أحمد.. في بحري المديد والبسيط .. فلا أقتنع بفكرة أنه قد سها عنها وهو الملم، الخبير ،الشهير بفطرته الصوتية النقية ،والمبتكر لعلم الإيقاع العربي، والمنظم لعلم العروض ..
يتضح من خلال ماسبق أن ضرورة المزج الإيقاعي فرضتها المواقف المختلفة المتنوعة ، " هو أمر اقتضته حتمية الربط والانشباك الحاصل بين حيوية الذات الشاعرة وضرورات الواقع ضمن إطار درامي مشترك الأمر الذي يجعل النص يتخير أوزانه وإيقاعاته المختلفة تخيرا نابعا من صميم تجربته الفنية في علاقاتها المزدوجة بين الذات والواقع " 4-
هكذا تمكن الشاعر أمل دنقل أن يطرز التنوع الإيقاعي بحرفية وببصمة مختلفة متميزة ، إذ اختار خصوصية نوعية في تقنية المزج الإيقاعي تظل جديرة بالإعجاب والاعتراف لأنها فتحت إمكانية باب القراءات المختلفة لتنوع نوعي بين البحور ولانسجام بين الصوت والمعنى .
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
1-أمل دنقل : البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ص 127
2-محمد أحمد وريث : حول النظائر الإيقاعية للشعر العربي -ص 98
3-أمل دنقل : العهد الآتي ص285
4-علوي الهاشمي : السكون المتحرك ص209
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|