[align=justify]كلما كَبُرَ المصاب، قَلَّت الكلمات القادرة على وصفه والتعبير عنه.. وهذا بالضبط ما أحسُّ به وأنا أحاول وصف مشاعري في ذكرى ميلاد أخي طلعت، جَرَّاء امتزاج الحنين إلى ما كُنَّاه معاً بالحزن الشديد على فَقْدِه، فما أصعب التعبير عن هذا المزيج من المشاعر التي تَغْذُوها ذكريات كثيرة حلوة ومرة، وصُوَرٌ لا حصر لها ومواقف ومَشاهِدُ عشناها معاً لسنين طويلة خلت..
وتُراني وأنا أبحث عن أسباب ذلك العجز عن التعبير أُفاجَأُ بأنَّها لا تنبع من كون طلعت أعز أصدقائي فحسب، ولا من كونه أوفاهم وأصدقهم فحسب، ولا من كونه شاعراً مبدعاً رحل فجأة فحسب، بل لأنه فوق كونه كلَّ ذلك معاً، كان تلك المرآة الصافية التي كنتُ أرى حقيقة نفسي على صفحتها كلما غَيَّبَت متاهات الحياة هذه الحقيقة عني.. وهذه بذاتها كانت نعمة لا عِوضَ عنها بعد زوالها.. فمن لي بالصيرورة مرآةً لحقيقتي الآن، وقد طعنتُ في السن وبلغتُ من الكبر عتياً؟
رحم الله طلعت إنساناً وشاعراً وقاصّاً وصحفياً وناقداً مبدعاً... ورحمه أخاً وفياً وصديقاً صدوقاً، وصاحب رأي حرٍّ وكلمة جريئة.. ورحم أياماً قضيناها معاً نفرح بما يجود علينا به الله من خير ونحزن لما يصيب أحدنا أو كلينا من مكروه.. نثور حين نرى الخطأ والرياء والنفاق والخيانة تنتشر بين الناس انتشار الوباء، ونهدأ حين نرى تراجع هذا الوباء أمام موجات الخير وانتصارات الحق، على قِلَّتِها، في معاركه مع الباطل..
ومع شديد حزني وأسفي على فَقْدِ طلعت، فإنَّ ممَّا يُثير استغرابي وعَجَبي أنَّني أغبِطُه على رحيله عن دُنيانا، لظنِّي أنَّ اللهَ رَحِمَه بقَبْضِه قبل أن يرى ما جرى ويجري في سوريا، وقبل أن يرى ما حلَّ بها من خراب ودمار وما حلَّ بأهلها من تشريد وعذاب.. فيقيني أنَّه لو كان حيّاً إلى الآن، لما كان اكتفى بمكابدة الألم والحزن صامتاً، بل أظنّه ما كان سيهدأ أو يصمت، أيّاً كان الثمن الذي سيدفعه للجهر برأيه، ولتسخير موهبته الشعرية في تصوير ما جرى من مآسٍ وما نزل بالناس من حوله من مصائبَ، شاءَ الله أن لا يُعذبه برؤيتها ورؤية ضحاياها الذين تَنَبَّأَ لهم بأنَّهم سيتعرضون لها، منذ الأيام الأولى للأحداث الرهيبة التي اجتاحت سوريا وأهلها..
وكيف تُراه يصمت أو يُدير ظهره لا مبالياً أمام ما جرى ويجري وهو الرقيق اللطيف الحنون الذي يبكي لمرأى طفل أضاع أمه في زحمة الطريق، أو محتاجٍ عجوز يسأله ما يسدُّ به جوعه؟! أتُراه كان يكتفي بالبكاء لو كان حياً وهو يرى حيَّه وبيتَه صارا ركاماً، ويرى أهلَه يتركونهما إلى مكان بعيد عنهما، يعيشون فيه غرباء...؟!
رحم الله طلعت برحمته الواسعة، وجَمعَني وإيَّاه مع الصالحين الصادقين المخلصين يوم القيامة.. لأنَّني أظنُّ، وأرجو أن يكون ظنِّي في محله، أنَّ أمثالَه من أصحاب القلوب الطيبة في الدنيا، سيكونون موضعَ رحمة الله في الآخرة.. وهذا بحدِّ ذاته عزاء لأحبابه وأهله، وأيّ عزاء!..
أجمل ما قرأتُ لطلعت
أمَّا أجمل ما قرأتُ من شعر طلعت، فلعلي لا أجانب الصواب إذا قلت إن قصيدتَه الصوفية من أجمل ما كتبَ وأجملُ ما قرأتُ له.. وكيف لا، وقد أبدعها بعد أن اختمرَ شاعراً فذّاً؟ ولا أنسى أبداً أنَّ إعجابي بهذه القصيدة، حين قرأها عليَّ قبل طباعتها، دفعني إلى سؤاله أن يسمح لي بتنضيدها، وقد فعلتُ، فكان تفاعلي معها مُضاعَفاً.. لقد قرأتُها مسودة مخطوطة، وسمعتُها منه وهو يُلقيها عليّ، ثم قرأتُها وأنا أطبعها له على الكومبيوتر، ثم بعد أن طُبِعَت..
ولكن إعجابي بهذه القصيدة لا يُقلِّلُ ابداً من إعجابي بباقي شعره الذي طالما تمنيتُ أن أَفرغَ لدراسته، وهي أمنيةُ ظلَّت في فضاء الرغبة تنتظر التجَسُّدَ واقعاً إلى الآن، ويمنعني من تجسيدها الظروف الصعبة التي ما زالت تمر بها بلدي سوريا من جهة، والحاجة الماسة إلى وقت كافٍ للكتابة عن شاعر مُكثِر مثل طلعت، ومُبدع مُتميز مثله من جهة أخرى..
وليس عن شعره فقط أتمنى الكتابة بل عن قصصه وإبداعاته النثرية الأخرى، وأظنُّ أنني سأفعل ذات يوم إن أَمَدَّ الله بعمري...
أخيراً، أَصْدُقُكَ يا أخي طلعت أن ذكرى ميلادك تُوشوشني مُحذِّرَةً بأنَّ الحياة قصيرة، وأنَّها تمرُّ بسرعة، وأنَّ التمني وحده لا يكفي لبلوغ ما نريد، بل لابدَّ له من عمل.. وأنَّ وأنَّ.... لذا أَعِدُكَ مرة أخرى أنْ أبدأ، وأرجو أن أفيَ بوعدي كيلا أُضطر لأن أستر وجهي بيدي خجلاً منك، إذا التقينا في إحدى ساحات الآخرة يوماً، وعاتبتَني على تقصيري بحقك...[/align]