... وأبــــــــــــــــــــــداً
.. وأبداً
ـ أستودِعُكم طفولتي.. وأحتفظ لقلبي بكبرياء الجبين .. لها ما أكنه مِن حُبٍ ولي بذور رياحينها.. أنثرها للعالم.. إن عجز اللسان عن وصف سِحرها.. أفصحت الأحداق.. وبالدمع تُذيل حكايات وفائي..
ـ كُنت مولعةً بالقراءة بين أحضان طبيعتها الخلابة.. التي كثيراً ما سرقتني.. وعن سطور القصص أبعدتني.. لتنتشلني إلى حيث عالم حكاياتها.. وأساطيرها..
فأغوص مُنتشياً.. كما فارِس فوق صهوةِ جواده.. يجوب التاريخ.. صفحةً صفحة.. ولا يتعبُ مِنْ فكِ طلاسم لياليها !
إذا ما شمسُها غادرتني.. حضنتني نجومها تلألؤاً
وإذا ما أمطارُها داهمتني.. صارت أوراق أشجارها مِظلتي
وإن حلمت ذات تنهيدةٍ بأن أقتني أفخرَ أنواع العطور.. حملت لي أزاهيرها أجود أنواع العطور..
كان بين يديّ كل ما هو جميلٌ وساحر..
مرت الأعوام.. وأنا أنمو بين أحضانِها.. أُذوِب كل تعبٍ بين حقولها.. أتغلبُ على كل فِكرةٍ سيئة.. بين تغريدات نسائِمها.. على بُعدِ عشرات الأمتار من منزل العائلة .. استلقى اللبلابُ مُرتاحاً عِندَ سور مدرستي الصغيرة.. كُنت واحدة مِن تلميذات البلدة الصغيرة.. أمضي إلى المدرسةِ يومياً بشغفِ.. انتزعت من قلبي الخوف.. وخلقت بداخلي إصراراً لا يُصدق، على أن أُنهي ما بدأت به.. أيام الشتاء.. في شهر كانون.. كانت الأرضُ تتجلد مِن تحتنا.. كُنت أُصرُ على الذهاب إليها ركضاً.. تلك الخطواتُ الراكضة.. خلقت مِني إنسانة ذات عزيمةٍ لا تلين.. علمتني الثبات.. وبأن الحياة كِفاح.. أذكرُ كيف كُنت أتأبط دفتري الصغير.. عِندما كانت تخونني أصابِعي الصغيرة.. فلا أقوى على مسكه بيدي.. أيام البرد في الشِتاء.. كبرت وكَبّرَ دفتري.. صارَ دَفاتِرَ. صفحاتها تزداد على الدوام.. في كُلِ صفحةٍ صفعةَ ألم.. وفي كُلِ سطرٍ غصة.. غصة حتى الاختناق..
لم أُتمم دراستي.. كُنت شديدة الثِقة بوالدتي.. والدتي التي تفانت في تدمير طاقاتي.. والتي بالغت في قسوتها تجاهي.. انتصرت بأن أخفت عليّ جهلها تحت ستار قسوتها.. انتصرت بأن جعلتني سلبية الإرادة.. انتصرت بأن سلبتني حقي في الحفاظ على كياني.. على كبريائي.. أوقعتني في حبال الزذيلة عن طريق الزواج..
لم أكن أعلم بأنه مسلوب الإرادة.. حين تقدم لخطبتي مِنها.. تكلم معها.. وعيناه مصوبتان نحوي..
ـ قالت لي: يُريدُ الزواج مِنك..
ـ قُلتُ لها: كيف؟ ألم تخبريني بأنه متزوج!
ـ أجل، قالت لي. لكِنهُ سيُطلِقها.
ـ عن سبب الطلاق حين تساءلت، قالت لي:لا تُعجبه تصرفاتها..
كل ماعليك أن لاتُخبري أحداً بأنه سيتزوج!!
حين لف الموضوع غموضٌ. سارعتُ للاتصال بصديقتي.. طلبتُ نجدتها
جاءت صباح اليوم الذي اتفقنا عليه.. اجتمعت به.. أخبرتني صِدق نواياه.. لكنها لم تنجح بإقناعي ببراءتها.. كما والدتي أيضاً.. استسلمت للصمت.. بقي الشك يُلازِمني.. وتحت إرادة الكِبار.. استسلمت إرادتي.. وجهُزت حقيبةُ السفر..
لم يكن لديَّ الوقتُ الكافي لوداع مدينتي..اصطحبني إلى مدينته.. والصمتُ رفيقُنا.. وجدتُ نفسي خارِج أسوار الحقول .. العواصف لا تهدأ.. وتقلباتُ الفصول مُرهِقةٌ صارت عِندي!!
جميعُ ماحولي جامد.. والأزاهيرُ حبيسة أواني مُصطنعة.. سرقوها من أحضان أمها الطبيعة.. كم كُنتُ أُشفِقُ عليها.. بالغت بالاعتناء بها.. فهي وحيدةٌ مثلي.. كثيراً ما كان يشعرُ بالغيظ حين يلقاني دامعةً بجانبها.. أعلمُ بأنها ستذبلُ سريعاً فقد انتزعوها من رحم أُمها عُنوةً.. كما انتزعوني من مدينتي الحبيبة عُنوةً!!
لم تمض على زواجي سنتان حتى بدأ شبحُ الإرهاب يدنو من مدينتي.. كان قلبي كما مِطرقةٍ .. بين ضلوعي.. يطرقُ غير عابِئ باتساعِ جراحي.. أحرقوا طريق المدرسة.. واستوطنوا منزل صديقتي.. اغتالوا نهارات الصلاة.. ودنسوا نهر المدينة الصغير.. الذي كُنت أهرب إليه شاكيةً غضب أمي.. ترى أيُّ الضِفاف ستلقين بنفسك فوقها ياجوري.. رُحتُ أتساءل.. بينما صوته يخترق مسمعي.. كما لو كان جُزءاً مِن الوحشية التي تُحاصرُ مدينتي.. آه.. مدينتي.. كم نتشابه في الحصار!! وفي الحُزن.. وفي مرارة الإنتظار..
مرت الأيامُ .. والمجموعات المُسلحة تُدنس مدينتي.. لا أحد أتصِلُ به ليُطمئنني .. كل ما في مدينتي دمروه.. كما دمَرَ قلبي هذا المخلوق الذي منحه القانون صفة زوجي.. فأخذ يزعق وينعق.. وفي كل مرة يقف عاجزاً عن تفسير وحشيته.. يُهددني بأن يُعيدني إلى مدينتي المُدمرة.. أُكابِرُ والدمعُ رفيقي.. ويلومني إن تابعتُ أخبارها.. يُبعِدني عن وسائل الإتصال بها.. أشتاقُ شيئاً عنها
أراهُ أمامي وزوجته التي وعدني بأن يُطلِقُها.. لقد شغلتني الأحداثُ بمدينتي عنها.. فنسيتُ كذبه.. صار مبلغ همي مدينتي.. لكنه لم ينسَ لِلحظة تعذيبي.. وتعنيفي.. ولم أنس قساوة أُمي التي كثيراً ما عنفتني لأجل أن أرضى به..
لم أنس أصابع يديها الخشنة وهي ترمي بي بعيداً عنهاـ طالِبةً مني الإبتعاد
أو ما كُنتُ أدخِره مِن مال.. لم أحظ بزواجي سوى بِميزة واحدة، لقد أبعدني الزواج عن أُمي.. أجل! لكنني ما زِلتُ أنفر من حركاتها التي ازداد تذكري لها في الآونة الأخيرة إثر اندلاع أعمال العنف في مدينتي.. لا شك بأن الطبيعة هُناك دامية الألوان الآن.. نبضَ شارِعها غير آمن.. سماءها ماطِرةٌحِمماً.. وقلبها... أواهٍ لا وقت للعاطفة، وسط هدير المجنزرات..وخيانة حروف الهِجاء..
بدأت النجوم في الأفول.. حين طغى على كياني فِكرة أن أعود.. أجل .. فلم تعد دقاتُ القلبِ تستوعب جفاف الهجاء.. وسط تصاعد وتيرة عُنف الشوارع، أجد وتيرة العنف الأُسري تتصاعد ضدي.. أوراقُ الجوري جفت.. إنها تتساقطُ يومياً ولن يحيَيها أيُّ مشروع استسقاء.. لقد نضبت سواقي الحياة..وجفت شرايين الوصال.. ويبدو مِن المُحال مد جسور الألفة بيني وبين تلك الفئة التي فشِلتُ في التعايشُ معها..
لم تكن لديَّ أيةُ حقيبة أحمِلُها.. اللهم سوى همومي التي أثقلت كاهلي.. وغيمةٍ ماطرِةٍ حسرةً و حُزناً.. كان طيفُ مدينتي يرتسم أمامي.. توجهت خلفه.. غير عابئة بحكايات القتل.. والتشريد.. والإبادة.. هُناك عِند ضفة النهر شمال المدينة مِقعدٌ و منقوشة زعتر.. أستحلفكم لا تقطعوا جريان النهر.. إنني قادِمةٌ إليه!!
اخترقتُ ظلام الساحات.. وجهتي تلك المدينة الرازِحة تحت القصف ليال متواصلة.. كانت قدماي ترتعشان حين وصلتُ إلى مكتب نقليات..
ـ ياعم.. صرختُ على رجلٍ يشبهني بالحُزن..
ـ عودي!!
ـ قال لي.. وبدأ طيرانٌ يقتحِمُ سماء الساحة.. كان أول من استقبله ذلك الرجل المُسنُ.. لم يحتمِل قلبه الضعيف أصوات الوعيد الهمجي.. صعدت روحة مُبتهلةً إلى السماء.. تبعها طيفي.. وأحلامي.. بقيتُ دون طيفٍ!! لم يعد لي مؤنسٌ بعد اليوم.. لن أعجز عن مُدارةِ نفسي من القصف.. لا ظِل لي بعد هذا اليوم يدُلهم على مكان وجودي.. وتشبثي بالعودة .. سأبقى أبحثُ عن سيارةٍ ماخانوا عهد يوسف ..يسترجِعون ظلي.. وأسترجِعُ ذكريات طفولتي في مدينتي المنكوبة..
خرجتُ من المكتب.. وأشلاءُ همومي تتمزق.. تتطاير.. تتبعثر.. تحت وابلٍ مِن طيرانٍ تكالبَ تحالُفاً.. لِتتعاظم تحته جُثث من ضحوا.. وبالغالي جادوا.. تابعتُ ركضي باتجاهها.. هاهو شجرها.. حقولها.. إنها تُناديني.. سأعود لمساحات الحقول.. ولضفاف النهر.. سأعود.. سأعود ولِتُذيل بالدمعِ أبداً حكاياتُ الوفاء..
تـــــمت
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|