مقدمة ابن خلدون
[align=justify]
ابن خلدون: هو عبد الرحمن بن خلدون، المؤرخ، رائد علم الاجتماع الحديث، وقاضي المالكية. ولد في تونس سنة (732 هـ)، وتوفي في القاهرة سنة (808 هـ). ومقدمة ابن خلدون هي مقدمة كتابه: «العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر»، وقال: أنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إمَّا صريحاً أو مندرجاً في أخباره تلويحاً؛ فقصدي في التأليف «المغرب» وأحوال أجياله وأممه، وذكر ممالكه ودوله، دون ما سواه من الأقطار، لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه، وأن الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه.
وكان استقرأ كتب التاريخ فوجد المؤرخين على طبقات: طبقة فحول المؤرخين، وهم العلماء، قاموا بجمع أخبار الأمم في كتبهم، وذكر منهم: أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي (ت: 157 هـ)، والواقدي (محمد بن عمر الأسلمي، ت: 207 هـ)، ومحمد بن جرير الطبري (ت: 310 هـ).
وطبقة الجهال: وَسَمَهم بالتطفل، خلطوا الأخبار بالباطل خطأ أو عمداً، واقتفى بعد هؤلاء جماعة قبلوا هذه الآثار واتبعوها وأدوها كما سمعوها.
وطبقة المقلدين: الذين اتبعوا آثار هؤلاء، لم ينقحوا الأخبار، ولم يراعوا طبائع العمران (الاجتماع الانساني) فيما حملوه من الروايات.
وطبقة المختصرين: ذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والأمصار، كما فعل ابن عَذارى المراكشي (الحسين بن عتيق التغلبي، ت: 720 هـ) في ميزان العمل في تاريخ الدول.
ورأى أنَّ المصنفين في كتب التاريخ على نوعين:
نوع استوعب ما قبل الإسلام من الملل والدول، ذكر منهم المسعودي (علي بن الحسين، ت: 346 هـ) ومن نحا منحاه.
ونوع اهتم بجمع تاريخ أفقه وقطره ومصره، كما جمع أبو حيان (محمد بن يوسف، ت: 745 هـ) تاريخ الأندلس والدولة الأموية.
وفي كتب هؤلاء من الباطل ما لو كانوا عالمين بطبائع العمران (الاجتماع الانساني) لم يقعوا في هذه الأكاذيب الباطلة.
واعتذر عنهم بعدة أمور:
أن التحقيق قليل.
والتنقيح كليل.
والغلط والوهم نسيب الأخبار.
والتطفل على الفنون عريض. والتقليد عريق في الآدميين. ولهذه الأسباب كان هؤلاء الرواة يقبلون الأخبار دون نظر وتمحيص، بتكرير الأخبار بأعيانها من المؤرخين القدماء، وعدم ذكر بداية الدولة، وسقوطها، وعدم ذكر السبب الذي رفع الله من رايتها وأظهر من آيتها، ولا يقفون على غايتها، لجهلهم بطبائع العمران (الاجتماع الإنساني).
فالتاريخ خبرٌ عن الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال.
ولمَّا كان التاريخ هو خبرٌ عن الواقع، والخبر يحتمل الصدق والكذب، أراد ابن خلدون أن يؤسس قانوناً في قبول الأخبار وردها يرجع الناس إليه؛ فأشبه كلامه كلام علماء علم الجرح والتعديل في قبول كلامه صلى الله عليه وسلم، لكنه أخطأ الدرب. وقال: إنَّ ما يحتاجه الدارس لعلم التاريخ:
1 العلم بقواعد السياسة.
2 والعلم بطبائع العمران (الاجتماع الإنساني).
3 والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو بون ما بينها من الخلاف، وتحليل المتفق منها والمختلف. فمن لم يعرف الماضي لم يعرف الحاضر (وهو ما يسمى اليوم: معرفة الأشباه والنظائر).
4 العلم بأصول الدول والملل كيف نشأت ؟ وكيف سقطت ؟ والسبب الذي من أجله رفعها الله به، والسبب الذي من أجله سقطت الدولة.
5 أن يكون ملماً بعلم الجغرافيا، وعلم النفس، والاجتماع، والسياسة الشرعية، وعلم الاقتصاد.
6 أن يكون ملمّاً ببعض ثقافات الأمم وآثارهم.
7 أن يكون على دراية بأنواع الخطوط، والمداد، والحبر، والورق ـ وهذه الأربعة هي عناصر صناعة المخطوط العربي، المعروف بعلم (الكوديكولوجيا) أي علم الكتاب المخطوط ـ وأن يكون له خبرة بالوثائق التاريخية، والصكوك، والعملات، والأدب، وعلم النبات والحيوان.
وعزى أسباب وقوع القصص الواهية في كتب التاريخ إلى: الجهل بطبائع العمران (الاجتماع الإنساني)، وحب الإغراب على الناس، والغفلة على المتعقب والمنتقد، والثقة في الناقلين، وتقرب الناس إلى أصحاب التجلة والمناصب العالية، والتقليد الأعمى، والخوف من نقد العلماء المتنفذين.
وعزا أسباب قبول الخبر الكاذب الواقع في كتب التاريخ إلى: التشيع للآراء والمذاهب، والثقة بالناقلين، والذهول عن المقاصد (أي العلم بغاية الناقلين، والذهول عن مقصد المتكلم)، وتوهم الصدق، والجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع، وتقرب الناس إلى أصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، والجهل بطبائع الأحوال في العمران (الاجتماع البشري)، وهو أهمها، فإن للعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار، وتحمل إليها الروايات والآثار. فكل حادث له طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحوال، فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب. وركَّز على نقد متون الأخبار أولاً وقدَّمها على نقد الأسانيد، وجعل نقد المتن مقدماً على نقد الإسناد، فلا يرجع إلى صحة الخبر حتى يحكم على الخبر أهو قابل الوقوع أم لا ؟
فإذا حكم العقل باستحالته لا يرجع إلى ضبط الرواة وصحة الإسناد.
وفرَّق بين الخبر الشرعي والخبر البشري، وجعل نقد الإسناد خاصاً بالخبر الشرعي، ونقْد المتن خاصاً بالخبر البشري. فالتعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية، لأن معظمها تكاليف إنشائية ـ أي أوامر و نواه - أوجب الشارع العمل بها، حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط. وأمَّا الإخبار عن الواقعات ـ أي أخبار البشر - فلا بد من صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة، لذلك وجب أن يُنظر في إمكان وقوعه، وصار أهم من التعديل ومقدَّماً عليه.
فبالغ بذلك في الاعتماد على قانون طبائع العمران في نقد الأخبار، إذ جعْله قانوناً أساساً يرجع إليه المؤرخون، مُهملاً استخدام منهج المحدثين في القواعد التي وضعوها في قبول أخبار الرواة.
كما جعل عمل الجرح والتعديل خاص بالأخبار الشرعية، وهو غير صحيح، ولو قال: إن القانون الذي ترجع إليه صدق الأخبار هو معرفة سند الخبر، وما حمله، ومدى ضبطه، لكان أولى من تقديم قانون طبائع العمران عن قانون المحدثين. فالإسناد حاكمٌ بقبول الأخبار وردها، وعلماء الحديث لا يحكمون بصحة الخبر وكذبه حتى ينظرون في ثلاثة أشياء:
سند الرواية والخبر، وصحة المتن، أي متن الخبر هل هو ممكن الوقوع أم لا ؟ وهل يوجد فيه نكارة، وهل له شاهد في الكتاب أو السنة ؟ والراوي في الخبر هل له ضابط ؟ أم شابه شيء من الغفلة والنسيان ؟ ولذلك كان علماء الحديث لا يقبلون الأحاديث التي تفرد بها بعض الرواة، حتى يتأكدوا من ضبط الخبر ضبطاً صحيحاً، لا مجال للشك فيه، يعرفون هذا بقرائن تحتف بالخبر نفسه.
والضابط الآخر عندهم: عدم النكارة، أي هل عمل به أحد من العلماء أم لا ؟ فالترمذي (محمد بن عيسى، ت: 279 هـ) سمَّى كتابه المشهور باسم الجامع أو سنن الترمذي: «الكتاب الصحيح الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الصحيح والمعلول، وما عليه العمل»، ولذلك ففي ثنايا كتابه، خاصة أحاديث الأحكام يقول: صحيح وعليه العمل. ووقع ابن خلدون في خطأ كبير آخر، أنه نسب إلى المؤرخين أنهم لم يرفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها، وهذا باطل، فإنَّ منهم من كان ناقداً ممحصاً للأخبار، ردَّ كثيراً من الخرافات المروية في كتب التاريخ: كالخطيب البغدادي (أحمد بن علي، ت: 463 هـ) المؤرخ الكبير على طريقة المحدثين، صاحب تاريخ بغداد؛ وابن الجوزي (عبد الرحمن بن علي، ت: 597 هـ) الإمام الكبير له المنتظم في تاريخ الملوك والأمم؛ والإمام الذهبي (محمد بن أحمد، ت: 748 هـ) المؤرخ الكبير، الناقد، الممحص للأخبار، على علمه الكبير بعلوم الحديث، له كتب كثيرة في ذلك، كتاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء، وميزان الاعتدال في نقد الرجال؛ والإمام ابن كثير (إسماعيل بن عمر، ت: 774 هـ) صاحب كتاب البداية والنهاية على طريقة المحدثين، كان نقاداً للأخبار، وغيرهم الكثير.
فلماذا أغفل ابن خلدون ذكر هؤلاء الفحول من المؤرخين !؟
كما أن في أسماء فحوله نظر كبير، فقد عد منهم المسعودي (علي بن الحسين، ت: 346 هـ) الرافضي، وكتبه أباطيل، ولا يقارن بمثل الطبري، وابن كثير، والذهبي. قال ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم، ت: 728 هـ): وفي تاريخ المسعودي من الأكاذيب ما لا يحصيه إلاّ الله تعالى، وكتابه هذا معروف بكثرة الكذب (منهاج السنة النبوية 4 / 84)؛ كما عدَّ مع الفحول أبا مخنف لوط بن يحيى الأزدي (ت: 157 هـ) وهو إخباري تالف، والواقدي (محمد بن عمر الأسلمي، ت: 207 هـ) صاحب التصانيف والمغازي، أحد أوعية العلم على ضَعْفه المتفق عليه. قال يحيى بن معين (ت: 233 هـ): أغرب الواقدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين ألف حديث. واختلف الباحثون في موقف ابن خلدون من «العرب»، فذهب د.علي عبد الواحد وافي: أن ابن خلدون يعني بهم «الأعراب» وأهل البادية الذين يعيشون خارج المدن، وكذا د. محمد العبدة في كتابه نصوص مختارة من مقدمة ابن خلدون؛ والصواب أنه أطلق اسم «العرب» على العرب كلهم: بدواً وحضراً معاً؛ فقد يطلقه على البدو تحديداً، وقد يطلقه على الحضر فقط، أو قد يطلقه عليهم كلهم، دون أن يفرق بينهم من حيث اللفظ، بزعم أن مصطلح «العرب» يشملهم جميعاً، لأن عرب البادية وعرب المدينة في النهاية كلهم «عرب»، فقد نجد القبيلة العربية الواحدة تجمع بين سكن البادية والحضر: بعض أفرادها يسكنون الحضر، وآخرون يسكنون البادية، وجميعهم عرب. والتسوية المطلقة بين الأعراب وأهل الحضر خطأ كبير؛ فصحيح أنهم كلهم «عرب»، لكن لـ «عرب البادية» خصائص ووضعيات وأحوال تختلف عن «عرب المدينة»، وقد فرّق الشرع بينهم. فلا يصح أن يكون الكلام عن العرب واحداً في الحكم عليهم، لتفاوت مجتمعات القبائل في تأثُّرها بأساليب الحضارة من حولها: فقد نجد قبيلة ماهي إلاَّ جماعات من الأعراب، يسكنون الخيام، ويقطنون الصحراء، لا هَمَّ لهم إلاَّ الغزو وانتجاع الكلأ؛ وقبائل أخرى كثيرة تسكن في الحواضر والقرى؛ بل كثيراً ما نجد قبيلة واحدة تحيا حياتين مختلفتين: قسم منها يتحضر ويستقر ويسكن المدر، وقسم منها يبقى في أهل الوَبَر، كجُهَينة ونَهْد ومُزَينة وهُذيل. فالعرب ثلاث فئات متباينة:
1 أهل حَضَر، وهم أهل المَدَر، يحيون حياة مستقرة ثابتة: ففي شمال الجزيرة كانت إمارة المناذرة وإمارة الغساسنة، نشأت كلتاهما منذ سنة (436 ق. هـ /220 م ـ 17 هـ / 638 م)، وترجع أصول المناذرة إلى قبائل لخم، وترجع أصول الغساسنة إلى قبائل الأزد. وظل الغساسنة يحكمون البلقاء وحوران من قبل الروم حتى دخل الفرس بلاد الشام سنة (9 ق. هـ / 613 م). وإمارة البلقاء: هي مدينة السلط الأردنية. ومملكة مَعين في اليمن (1200 ق.م - 650 ق.م)، وورثتها مملكة سبأ، ودامت حتى سنة (115 ق.م) ثم استقلت عنها مملكة حضرموت، وبقيت حتى سنة (330 ق. هـ / 300 م). وفي جنوب غرب اليمن، في وادي بيحان، شمال غرب شبوة على بعد (140 كم) كانت مملكة قتبان، ودامت حتى سنة (200 ق.م) وكانت عاصمتها مدينة تمنع ودامت مملكة حِمْيَر، وعاصمتها حاضرة ريدان من سنة (330 ق. هـ /300 م - حتى سنة 106 ق. هـ / 525 م). وفي وسط الجزيرة كانت إمارة كِندة (170 ق. هـ /480 م ـ 98 ق. هـ / 529 م) على الساحل الشرقي للخليج العربي، وتضم: نجد، والبحرين، وحضرموت؛ وكانوا من قحطان، ومركز ملكها مدينة الفاو في وادي الدواسر في السعودية، وتبعد (100 كم) عن محافظة السليل، و(700 كم) جنوب غرب مدينة الرياض. وعلى أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، نشأت مملكة الحَضَر/ عَرَبايا، قضى عليها سابور الأول سنة (392 ق. هـ / 241 م)، وهي تشبه تماماً تدمر والبتراء وجرش والفاو. 2 البدو: استوطنوا مشارف المدن والقرى في ظواهرها وضواحيها، واعتمدوا على رعي الأغنام والأنعام. 3 الأعراب: وصفهم القرآن بشدة الكفر والنفاق، وكانوا موغلين في الصحراء. لذلك لم تكن معيشة العرب واحدة، وبالتالي كان الحكم عليهم متفاوتاً. فأخطأ ابن خلدون بتقديم أحكاماً عامة بناها على مثل واحدٍ شاهده في عصره، وعمم حكمه على قرون سابقة، ببيئات لم يشاهدها، معتمداً على عقله. وقال: إن العرب لا يتغلبون إلاّ على البسائط، بسبب طبيعة التوحش التي فيهم، فلا يطلبون إلاَّ الأمور السهلة، ولا يركبون المخاطر، ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلاّ دفاعاً عن النفس. وهذا غلوٌّ أيضاً: فكل الشعوب لها القابلية والاستعداد للنهوض والسقوط، والانتصار والانهزام، وهي المتحكمة في زمام أمرها، فإذا اجتهدت وتوحدت انتصرت وحققت أهدافها، و إذا تناحرت وتكاسلت واختلفت فيما بينها، انهزمت وذهب ريحها وفقدت مكانتها بين الدول. ولو كان العرب لا يتغلبون إلاّ على البسائط، ما وصف الله تعالى العرب المسلمين بأنهم خير أمة، وما حمَّلهم مسؤولية تبليغ رسالته إلى البشرية جمعاء، وما وعدهم بالنصر المؤزَّر والتمكين في الأرض. وأمة لا تتغلب إلاّ على البسائط ، لا يمكن أن يصفها الله تعالى بتلك الصفات، ولا يُحملها تلك المسؤوليات الجسام، ولا يعدها بتلك الانتصارات والتمكين في الأرض. وما وعدهم الله به تحقق على أرض الواقع: فحققوا انتصارات باهرة ، وهزموا دولتي الفرس و الروم، وملكوا أراضيهم وأموالهم، وكانت لهم دول في المشرق والمغرب كدولة الراشدين، و دولة بني أمية بالمشرق والأندلس، ودولة بني العباس، فهل تلك أمة لا تتغلب إلاّ على البسائط ؟ وهل الذي حققته هو من البسائط ؟
وقال: إن العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، لأنهم أمة وحشية، استحكمت فيهم عوائد التوحش وأسبابه، فصار لهم خلقاً وجبلة، همهم نهب ما عند الناس، ورزقهم في ظلال رماحهم، وعندما تغلبوا وملكوا تقوّض عمرانهم الذي بنوه، وأقفر ساكنه، وعندما اجتاح عرب بنو هلال وبنو سُليم في القرن الخامس الهجري بلاد المغرب خرّبوها.
وقوله غير صحيح على إطلاقه، فالعرب أنشأوا أوطاناً ومدناً قبل الإسلام، بعضها ما يزال قائماً إلى يومنا، كاليمن ومدنها القديمة، وأخرى في باقي مناطق الجزيرة العربية، كمكة المكرمة والمدينة المنورة. وأنشأوا أخرى في العصر الإسلامي، وهي ما تزال عامرة إلى يومنا هذا، كمدينة البصرة، والكوفة، والفسطاط ، والقيروان ، وبغداد، وسامراء.
وأقاموا دولاً بعضها عمَّر طويلاً، و بعضها لم يعمر، شأن باقي دول شعوب العالم الأخرى: كالخلافة الراشدة عمرت 30 سنة ، ودولة بني أمية بالمشرق عاشت 91 سنة، والدولة الأموية بالأندلس عاشت أكثر من 200 سنة، والدولة العباسية عمرت 524 سنة. ولا يختلف العرب عن غيرهم في مسألة سقوط الدول واستمرارها، لأن الأمر يتوقف على أسباب وظروف بشرية داخلية وخارجية كثيرة، لا دخل فيها للأعراق والأجناس.
وقوله إن التوحش جبلة في العرب متأصل فيهم مهما تحضّروا؛ قول باطل لأن البشر كلهم لهم استعداد للتحضر والنهوض والرقي، كما لهم استعداد للسقوط والتدهور والانعزال والتخلف؛ والظروف البشرية الداخلية والخارجية هي السبب الأساس في نهوض أمة وسقوط أخرى. كما أن العرب لم يكونوا كلهم بدواً أجلافاً، فقد كانت لهم حضارات عامرة قبل الإسلام في جنوب الجزيرة العربية وشمالها، والإسلام ظهر بين الحضر بمكة والمدينة، ولم يظهر بين الأعراب، وقد نهى صلى الله عليه وسلم الصحابة عن التعرّب والعودة إلى حياة البادية، وجلُّ الصحابة الذين لازموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث عشرة سنة في مكة وعشر سنوات في المدينة، كانوا من أهل هاتين المدنيتين، ثم انضم إليهم أهل الطائف، وطوائف من أهل جنوب الجزيرة العربية، من أهل اليمن، وطوائف مما كان يُسمى بالبحرين (وهي الحسا، والقطيف، وعُمان) كان فيهم عدة من لخم الشام. فكيف يوصف أهل مكة بالبداوة والتوحش، وهم مستقرون في مدينتهم منذ آلاف السنوات، تهوي إليهم أفئدة الناس من كل البقاع، ويتصلون بالناس في حواضرهم في الشام واليمن ؟ وهل كان الصحابة المهاجرون إلاّ من أهل مكة الذين ورثوا التحضر والإقامة من أجدادهم ؟
ومثال بني هلال وبني سُليم، لا يصدق على كل العرب، ولا يخص بني هلال وبني سُليم دون غيرهم من قبائل شعوب العالم، ولا يصدق عليهم في كل زمان ومكان. وظاهرتهم موجودة في كل بدو العالم تقريباً: فقبائل المغول، هي قبائل بدوية متوحشة، اجتاحت المشرق الإسلامي ودمرته تدميراً خلال القرن السابع الهجري وما بعده؛ وقبائل الغجر في أوروبا يُفسدون ويُقلقون، وجميعهم ليسوا عرباً. وذكر ابن خلدون أن المغاربة في زمانه كلهم مالكية المذهب، وأرجع ذلك إلى عاملين: الأول: رحلتهم إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم، والثاني: البداوة التي كانت غالبة عليهم، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة. وهو تجوُّز، فعامل الرحلة إلى المشرق لم يكن خاصاً بالمغاربة وحدهم، بل كان يعم جميع المسلمين، وهم أيضاً رحلوا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج واتصلوا بعلماء المدينة كما فعل المغاربة، فلماذا لم يتأثروا بالمذهب المالكي وينشروه في بلدانهم كما فعل غيرهم ؟ ولو كان لعامل البداوة أثر في انتشار المذهب لكان من الأوْلى أن ينتشر أساساً في الجزيرة العربية والمناطق البدوية الأخرى قبل أن ينتشر في المغرب، أو لكان ذلك على حد سواء. وأنكر أحاديث المهدي المنتظر وضعَّف جميعها. فغلط أغلاطاً واضحة، ولم يُحسن فهم قول المحدثين: «الجرح مقدم على التعديل»، ولو اطلع على أقوالهم وفقهها لما قال شيئاً مما قال. والذي حمله على تضعيف أحاديث المهدي، كثرة دعاة المهدوية، فقد كثر في عصره وزمانه من زعم أنه المهدي المنتظر الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسرعان ما انكشف أمره واتضح حاله أنه مفتر على الله بدعواه الكاذبة، وما هو إلاّ سفاك للدماء مفسد في الأرض: فمن ذلك ظهور رجل يعرف بالعباس، في (غمارة) شمال المغرب في جبال الريف، سنة (709 هـ)، ادَّعى أنه الفاطمي المنتظر، فاتبعه الدهماء من (غمارة)، ودخل مدينة فاس عنوة، وحرَّق أسواقها، وارتحل إلى (المزمة) في منطقة سيدي إدريس، فقتل بها غيلة ولم يتم أمره. قال ابن خلدون: وكثير من هذا النمط. وأسهب في ذكر دعاة المهدوية المضللة، فرفض أحاديث المهدي لكثرة من يدعيها ويتستر بها. ولا شك أن القول بنفي ظهور المهدي هو قول مردود، للأدلة الصحيحة الصريحة الثابتة في كتب الحديث في باب أشراط الساعة وعلاماتها، التي تفيد خروج المهدي في نهاية الدنيا، فلا مجال لردها ولا مبرر لرفضها، ولا معنى لتأويلها عن ظاهرها، وصرفها عن حقيقتها، فهي نصوص واضحة في هذا الباب. وقال ابن خلدون: كان الخطّ العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط.. وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف، حيث رسمه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة.. فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها. وهذا غلط فادح: فالكُتَّاب كثروا في أواخر العهد النبوي، وبلغ الذين كتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين كاتباً (دلائل التوثيق المبكر 176)، ولا شك أن هناك أعداداً غير هؤلاء لم يكتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وخصص عمر بن الخطاب بيوتاً لتعليم الصبيان عندما كثر عدد صبيان المسلمين، ولا يجدون من يعلمهم، فأمر باتخاذ كتاتيب في كل حي من أحياء المدينة، يغدو إليه الصبيان يتعلمون فيه كتاب الله ومبادئ القراءة والكتابة، وجعل للمعلم المتفرغ لذلك أجراً على عمله (مرآة الحرمين، والتراتيب الإدارية 2 / 294)؛ فإذا كان عدد الذين كانوا يكتبون في العهد النبوي، أو في آخره، يزيدون على المائة في المدينة فقط، فلا شك أن عددهم تضاعف كثيراً في عهد عثمان، وهذه الكثرة الكاثرة من الكُتَّاب لا توصف خطوطهم بأنها كانت غير مستحكمة في الإجادة؛ فإذا عرفنا أن هؤلاء الكُتَّاب كانوا موزعين في أقاليم الإسلام: العراق والشام ومصر، فهل عدم إجادة الخط صفة كل من كان في كل الأقاليم ؟ وكيف استقبلت الأقاليم كلها هذا الخط بالقبول ولم تغيّر منه حرفاً عندما أرسل لهم عثمان مصحفه، وأصبح الأساس الذي نُسخت منه جميع المصاحف إلى يومنا هذا، وبالتالي صار خطُّه هو الأساس الذي لا تجوز مخالفته، واشتهر بـ «الرسم العثماني»، وليس هو لعثمان، فعثمان أمر بنسخ ما كتبه الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجمعه أبو بكر الصديق؛ فغلب عليه اسم «المصحف العثماني» أو «الرسم العثماني»، لوقوع النسخ في عهده. فـ «الرسم العثماني» موافق لما رُسم في عهد أبي بكر، وهو موافق لما رُسم في العهد النبوي بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن يقال إن الصحابة أخطأوا في رسم بعض كلماته، وأنَّ رسم بعض كلماته جاء غير متقن الصنعة. قال البيهقي (أحمد بن الحسين، ت: 458 هـ): مَنْ يكتب مصحفاً فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه، ولا يغيّر مما كتبوه شيئاً، فإنهم كانوا أكثر علماً وأصدق قلباً ولساناً وأعظم أمانة منا، فلا نظن بأنفسنا استدراكاً عليهم (شعب الإيمان 2448).
وأخيراً نقول: إن العمران البشري شامل لكل سلوكيات البشر ومظاهرها، ومن بينها ما يتعلق بعلمي الخطابة والسياسة فهما علمان جزئيان يندرجان في العلم الكلي الشامل.[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|