الموضوع: عنترة....
عرض مشاركة واحدة
قديم 24 / 09 / 2016, 42 : 08 PM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

عنترة....

[align=justify]القصة الثالثة من مجموعتي (ميت في إجازة) الصادرة عن دار المسبار، في دمشق، 2004.[/align]

[align=justify]تَجَمْهَرَ عددٌ من المارة حول رجل أسـود ضخم الجثة، توسَّط ساحة السوق الكبيرة في المدينة، وبيده سيفٌ مُشْهَر، وهو ينادي بصوت جَهْوَرِي فصيح لم تألفه آذان الناس في عصرنا هذا:
- أيها الناس... إليَّ، إليَّ....
وسرعان ما ازداد عدد المتجمهريـن حوله، وقد جذب انتباهَهم بمظهره الغريب، وسيفِه المُشْهَر، وكلماته الفصيحة التي لم يَعُد أحدٌ يسمع مثيلاً لها حتى في قاعات الدرس داخل قسم اللغة العربية في الجامعات العربية...
كان المتجمهرون حوله يُحَدِّقُون فيه بفضول شديد واستغراب، ولسـان فضولهم يسأل عَمَّن عساه يكون؟ ولم يَطُلْ تساؤلهم، إذ سرعان ما أتاهم صوته الجَهْوَرِيُّ معرِّفاً بصاحبه:
- أيها الناس... انظروا إلى هذا السيف.... إنَّه سيفٌ عربي أصيل... سيف خاض الكثير من المعارك في سبيل الحق والحرية والكرامة، إنه سيفي، سيف عنترة العبسي! هل تعرفون عنترة، أم تراكم نسيتموه؟؟
وصمتَ الرجل قليلاً، محدِّقاً بثبات في وجوه المتحلقين حوله، وكأنَّه يتحداهم، فيما صمتُوا مُتَفَرِّسِين فيه بدورهم، وقد انتابتهم مشاعر وأفكار مختلفة اختلطت ببعضها..
- ما لكم تنظرون إليَّ هكذا كما لو كنت مجنوناً؟! أهذا جزائي لأنَّني تركتُ جَنَّتي وأتيتُ إليكم لأُنقذَ شرفَكم الذي تمرغ في وحل هزائمكم المتلاحقة أمام أعدائكم؟ لماذا تعاملونني هكذا؟.... عيبٌ أنْ أُعَامَلَ، أنا الفارس العربي المشهور، بهذه النذالة. فأنا مُذْ جئتُكم لم أَذُقْ طعاماً قط، لا أنا ولا أولادي فلماذا؟ هَبُونِي ضَيفَكم لا فارسكم الذي جاء لنصرتكم، أفلا تكرمونني؟ أهكذا صارت معاملة الضيف في عصركم التافه هذا؟
نظر الواقفون في وجوه بعضهم مُستغرِبين.. أحدُهم وصفه بالجنون، وآخرون اعتقدوا أنَّ الرجل ربَّما كان مُهرجاً أو محتالاً يريد أن يَتَكَسَّبَ بهذه الحركات، وظنَّ آخرون ظنوناً أخرى مماثلة، لكنَّ أيّاً منهم لم يشعر نحو الرجل باحترام وتقدير أو يُصَدِّق كلمةً مما تَفَوَّهَ به..
ولم يَطُلْ الصمتُ المتبادَل أكثر من ثوانٍ لتَخرقَه ضحكاتٌ ساخرة، بدأتْ خافتةً ثم راحت تتعالى بالتدريج لتَتَحَوَّلَ، مع الأصوات الساخرة أيضاً، إلى لَغَطٍ مثير للقرف، ثم مثير للرعب حين تَوَحَّدَتْ جميعُها هاتفةً بكلمة واحدة، انخلعَ قلب الرجل لسماعها، وهي تُوَجَّهُ إليه بصفاقة:
- مجنون.... مجنون.... مجنون....!
اشتعلَ الرجل غضباً، وتطايرَ شررُ الغضب من عينيه اللتين احْمَرَّتَا، وكاد يُفلِتُ زمامَ السيطرة على نفسه تاركاً ليديه أنْ تُفْهِما هؤلاء الرعاع مَنْ يكون الواقفُ أمامهم يهزأون به؛ ولكنْ، تَذكرَ أولادَه الجياع في البيت، وما يمكن أن يُؤَدِّي إليه تهورُه من إِضرَارٍ بهم وزيادة في جوعهم، خصوصاً بعد أن مَنَعَتْهُ السلطات من العودةِ وأسرته من حيث جاء، بحجة عدم امتلاكهم جوازَ سفر صادر، حسب الأصول، عن الجهة الرسمية التي قَدِموا منها! وهكذا، كبحَ جماح غضبه باذلاً جهداً ضارياً للسيطرة على أعصابه...
ثم، خطر له أن يُغَيِّرَ الأسلوب الذي اتبعه للتعريف بنفسه.... فهؤلاء ربما يُشفقون عليه لو علموا أنه جائعٌ هو وأولاده، مجردُ جائع ليس إلا.. وهكذا، حزم كلَّ أمجاد الماضي ورماها في سلة النسيان، وقبضَ على عنق كرامته فخنقها مخاطباً نفسه على صوت صراخ معدته الخاوية (إلى الجحيم أيتها الأمجاد والبطولات التي لم تَعُدْ تساوي رغيفاً).. ثم جَثا على ركبتيه، وأطلق لسانه متوسلاً:
- أيُّها الناس... أنا رجل جائع...أنا لست عنترة.. قلت لكم إنني عنترة العبسـي لأجذب انتباهكم... والآن لا يهمُّ مَنْ أكون... لا يهم إن كنتُ عنترة العبسـي أو أيَّ رجل آخر.. المهمُّ أنني رجل جائع، وخلفي أطفالٌ يَتَضَوَّرون جوعاً منذ أيام، ولا أَمْلِكُ من حطام الدنيا إلا سيفي هذا. هو فعلاً سيف عنترة العبسي المشهور، جدِّي الأكبر، وقد ورثتُه عن أبي، وأبي ورثه عن أبيه وهكذا، ولكن ما أصنعُ به الآن؟ إنني لا أستطيع أن أُفَتِّتَه وآكلَه مع زوجتي وأولادي، ولهذا نزلتُ إلى السوق ـ كما ترون ـ لأبيعَه، لأبيعَ سيفَ جدِّي الأكبر عنترة، فهل منكم من يشتريه، لأشتري بثمنه طعاماً لي ولزوجتي وأولادي..؟ إنَّني لا أبغي شرّاً بأحد، ولا أحمل الحقد على أحد. فقط أريد ثمن طعام لي ولأسرتي بشرف، لأنَّني أرفض أن أَمُدَّ يدي لأحد مستجدياً، وكيف وأنا القائل، بل أقصد جدي عنترة:
ولقد أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّهُ ـــــــــــــــــــــــــــ حتـى أنالَ به كريمَ المأكلِ.....
لا يقولنَّ أحد منكم لماذا لم تعملْ وتكسبْ رزقَك بِكَدِّ يمينك وعرق جبينك، لأنَّني حاولتُ وحاولت، ولكن دون فائدة.. حاولتُ في كلِّ المهن، وفشلت، أتعرفون لماذا أيها السادة؟ لأنَّني مُقاتل كجدِّي الأكبر، وهي مهنةٌ استمرَّتْ في ذريته إلى هذه الأيام التي صار فيها المقاتلون دفاعاً عن الأهل والعرض والوطن يُوصَفُون بالإرهابيين... نعم، أنا وأبي وجميع جدودي صِرْنا، في عرف هذه الأيام، إرهابيين.. ولأنَّني مقاتلٌ لا أعرفُ أن أَتَزَلَّفَ لأحد من أجل أيِّ شيء، جعتُ وأولادي.. هكذا جاع عنترة، أقصد حفيد عنترة، في قرنكم العشـرين هذا... ونزل ليبيع سيفه، أقصد سيف جدِّه الشهير، ليشتري بثمنه خبزاً له ولأطفاله... فهل أنتم كَافُّونَ وجهَه عن ذلِّ السؤال يرحمكم الله؟؟
وصمتَ الرجل مُتوقِّعاً أن يرى الدموع تنهمرُ من عيون الحاضرين تَأثُّراً بما وصل إليه الحفيد الأخير لأشهر فرسان العرب، ولكن كانت المفاجأة أكبر وأغرب مما تَوقَّع بكثير، فقد ازداد لغط المتحلقين حوله وازدادت سخريتهم به...
- المجنون، يريدنا أنْ نُصدِّق أنَّ عنترةَ جدُّه..
ـ أنا جدِّي كان الإسكندر الأكبر..
- ها ها، وأنا حفيد الملكة زنوبيا، ومعي شالها الحريري، فهل بينكم من يشتريه بثمن رغيف أَسُدُّ به جوعي؟
- ها ها.. كُفُّوا عن هذا أيها السادة، فالرجل دجَّال جائع، أعطوه ثمنَ رغيف خبزٍ واتركوه يذهب إلى بيته وإلا صار عطيلاً؟
- ومن هو عطيل هذا؟
- وما أدراكَ أنت أيُّها الجاهل؟
وهنا حارَ الرجل الأسود في أمره. ماذا يفعل؟؟ وتحرَّقَتْ كفُّه رغبةً في امتشاق سيفه والهجوم على هؤلاء الرعاع الحمقى لإفهامهم من يكون بالقوة، ولكن عاد يَتَذَكَّرُ أولادَه الجياع وما يمكن أن يحدث لهم في زمن لا يُعَاقَبُ فيه الإنسان بذنبه، ولوحده فقط، فكَبحَ جماحَ غضبه مُجدَّداً، وراح يُفكر بوسيلة أخرى تكون أَجْدَى في وصوله لمراده..
أطفأَ في نفسه كلَّ شموس العزة التي طالما افتخرَ بها، واستحضـر في مخيلته صورة أولاده المتضوِّرين جوعاً، فغَلَبَه الإشفاقُ عليهم، واحتقنَتْ الدموعُ في مآقيه رأفةً بهم، وعندها فقط سَهُلَ على المسكين أن يركعَ على ركبتيه، وينتحبُ بمرارة قائلاً:
- ارحموا فاقتي واشتروا مني سيفي يرحمكم الله.... ألم يأمركم نبيكم بأن ترحموا عزيزَ قوم ذَلّ، وها أنذا قد ذللتُ بينكم فارحموا ذلِّي يرحمكم الله... لن أمارسَ القتال أو الجهادَ أو الإرهابَ، كما صرتم تُسمُّونَه، سأكسِر سيفي أمامكم الآن، لقاء ما تعطونني إياه من طعامٍ لسـدِّ جوعي وجوع صغاري. فماذا تقولون؟ أعاهدُكم أن أنسى مهنتي التي عشتُ أفتخرُ بها طيلة حياتي، وأن أنسى جدي الأكبر عنترة، وأن ألعنَ هذا الجد إذا شئتم، شَرْطَ أن تَكُفُّوا عن محاربتي بلقمة العيش. ماذا قلتم؟
وتحدَّرَت الدموع على خديه سخيةً نازفة من القلب، ولكنْ لم تُثِرْ في أيٍّ من الواقفين حوله شفقةً أو رحمة..
وفيما هو كذلك، إذا بصوت صفير حاد ثَقَبَ أذنيه فجأة، فتنبَّه مُلتفتاً نحو مصدر الصوت بدهشة، ليرى سيارة بيضاء تَشُقُّ طريقاً بين جمهور المحتشدين الذين استمروا يتابعون سخريتهم، ثم ما لبثَ أنْ رأى السيارة تقف، وينزل منها رجلان ضَخْمَا الجثة بثياب بيضاء، اقْتَرَبَا منه بهدوء وثقة، مع حذر شديد، حين أخبرَهما الجمهورُ أنَّ معه سيفاً، وبأدب مصطنع، انحنى أحدهما أمام الرجل الأسود المُنْتَحِبِ أَلماً، وهمسَ له:
ـ سيدي عنترة العظيم! لقد علمْنا بمجيئك إلى عصرنا هذا في وقت متأخر، ولهذا نرجوك أن تَعْذُرَ تأخُرَنا عن القدوم للترحيب بِمَقْدِمك، كما نرجوك أن تَعْذُرَ هؤلاء، لأنَّهم لا يعرفون من أنت، ولا يعرفون قَدْرَكَ جيداً كما نعرفه نحن.. نحن فقط الذين نعرف من تكون، ونُقدِّر لك عالياً نخوتَك في نجدة أحفادك عرب اليوم الذين أزعجتَ نفسك من أجلهم وقطعتَ كلَّ تلك العصور لتلبية استغاثتهم... نعم نحن نعرف كلَّ شيءٍ عنك، فهل تَتَفَضَّل يا سيدي وتُشـرِّفنا بقبول ضيافتنا في القصـر الذي أعددناه خصيصاً لأجلك، والذي لا يليق نزولُ أحدٍ فيه غيرك؟
ولاحَ التأثُّر الشديد على وجه الرجل الأسود، لدى سماع تلك الكلمات الرقيقة تُقال له بتلك اللهجة المؤدبة، فرفع لمحدثه عينين تفيضان عرفاناً بالجميل، وهو يقول:
ـ لن أنسى لكَ صنيعَك هذا أبداً...
وابتسم له الرجل مادّاً إليه يدَه بكلِّ أدب، يدعوه للنهوض. وحين نهض دعاه بنفس الحركات المؤدبة لصعود السيارة البيضاء، بعد أن جَرَّدَه من سيفه، بحجة أنَّ ذلك من أصول الضيافة في هذا البلد، فانقاد له عنترةُ مطيعاً، ثم دخل السيارة بهدوء، متجاهلاً إشارات الآخرين وأصواتهم وتلميحاتهم له بأنه مجنون..
ورويداً رويداً، أخذتْ السيارة تشقُّ طريقها بين حشد المتجمهرين الفضولين، وقد جلس عنترة بداخلها، محتوياً رأسه بين كفيه، تنتابه مشاعر متناقضة بين الراحة لما آلَ إليه أمرُه أخيراً، وتفاؤله بأن يلقى ما يستحق من تقدير عما قريب، وبين الحزن لما جرى له قبل حضور هذه السيارة ذات اللون الأبيض كضميره..
سؤالٌ واحد ظلَّ يطنُّ في رأسه، كالذبابة بين جدران الغرفة المغلقة، دون أن يجد له جواباً مقنعاً أو تفسيراً مريحاً، وهو ما سرُّ هذه النجمة السداسية المرتسمة على صدر الرجلين، وعلى باب سيارتهما التي ما كادت تتجاوز به حشد المتجمهرين الذي كانوا حوله، حتى انطلقت به كالبرق، إلى مشفى المجانين!!!
[/align]
دمشق في 10/1/1996

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس