القصة الرابعة في مجموعتي (ميت في إجازة) الصادرة عن دار المسبار، في دمشق، 2004
[align=justify]مضت عليه شهورٌ طويلة، وهو يحاول إقناعَ رقبته بالسماح لرأسـه أن يَتَهَدَّلَ بين كتفيه، ولكنْ دون فائدة... فقد ظلَّتْ تلك الرقبةُ العنيدة مُصِرَّةً على تَصَلُّبِها الذي يمنعُ رأسَه من الطَّأْطَأَة لأيِّ سبب، وبأيِّ شكل من الأشكال...
وذات يوم، وفيما كان يغلي انفعالاً، وهو جالــس على طرف سريره، خَطَرَ له أنْ يحاولَ معها أسلوبَ التَّزَلُّف، عسى التَّزَلُّف أنْ يُقنعَها بتغيير موقفِها.. وهكذا تَوَجَّهَ إلى المرآة المشروخة المُثَبَّتَةِ على باب خزانته.. تَوَقَّفَ قُبالَتها.. ثم راح يتأمَّل، بغيظٍ، رقبتَه العنيدة على صفحتها.. وللحظاتٍ، تَهَيَّأَ له أنَّ تلك الرقبة تتحداه بعنادٍ سـاخرةً من محاولته الجديدة، وكأنَّها قد قرأَتْ ما يدورُ في فكره تجاهها، وقرَّرَتْ رفضَه سلفاً...
تَمَلَّكَهُ إحساسٌ حادٌّ بالغضب، انفجر في أرجاء نفسه بركاناً من سواد قاتم... ولا يدري كيف راحَ لسانُه، بدلاً من أنْ يَتَزَلَّفَ لها، يتحركُ في فمه باهتياج، مُصدِراً من بين أسنانه التي كان يَصْرِفُ بها، زبداً أبيضَ، خرج ممتزجاً بكلمات نابية:
- أيتها الحقيرة!! ماذا تريدين؟ أتريدينني أن أموتَ جوعاً بسبب إصرارك الأحمق على التَّصَلُّب؟ أَلَمْ تتأكَّدي بعد أنَّ أحداً، في هذا الزمان، لم يَعُدْ يستطيع الحصولَ على لقمته، أو تحقيقَ أيٍّ من آماله، ما لم يكن مقصوفَ الرقبة، مُطَأْطِئَ الرأس خضوعاً أمام كلِّ ما يُؤْمَرُ به؟ فما بالك أنتِ، من دون رقاب الناس جميعاً، تُصِرِّينَ على تَصَلُّبِكِ الأحمق هذا، مانعةً رأسي المسكين من وسيلة الرزق الوحيدة لإشـباع فمه ومعدتي؟ لعلك تظنِّين نفسَك رقبةَ أمير أو ملك أو رقبةَ إنسان ذي قيمة.. لا أيتها الرقبة الحمقاء، استيقظي من أوهامك، وكفاك عناداً، فصاحبُك الذي هو أنـا، ولا فخر، ليس سوى فقير مُعدَم من عامة الناس، لا يجد قوتَ يومه، ولا قيمةَ له في نظر أحد، بل لم يَعُدْ له قيمة حتى في نظر نفسه أيضاً!!! فهيَّا.. كفاكِ عناداً، واسمحي لرأسي المسكين هذا بأنْ يَتَهَدَّلَ بين كَتِفَيّ، وإلا مِتْنا جوعاً، أنا وأنتِ وهو...!! هيَّا، ولا تكوني حمقاءَ إلى هذه الدرجة، هيَّا..
قال هذا، ثمَّ تَأَمَّلَ رقبتَه مستطلعاً أَثَرَ كلماته العنيفة فيها، فوجدَها تُبرِزُ عروقَها أكثر من ذي قبل... ولا يدري لماذا تَهَيَّأَ له أنَّها بتلك العروق التي أَبْرَزَتْها له باتتْ تُشْبِه إنساناً وقحاً يَمُدُّ له لسانَه ساخراً به وبكلامه..
ازداد انزعاجاً، وفَكَّرَ أنْ يصفعَها بعنفٍ عقاباً لها على قلَّةِ أدبها، لكنَّه تمالكَ نفسَه التي رَجَتْهُ أنْ يحاولَ تَلْيينَ تلك الرقبةِ العنيدة بالكلام المعسول بدلاً من السباب والشتائم... فخضعَ لطلب نفسه، وعاد يُحاول مخاطبةَ رقبته بلطف، متوهماً هذه المرة أنَّه وَجَدَ الكلمات التي تُرَقِّقُ عروقَها عليه:
- أيَّتُها الرقبة الحبيبة.. اسمعيني وافهمي ما سأقوله لك.. إنني أُحِبُّ فتاةً حلوة كفلقة القمر، عيناها عسليتان، وشعرُها أشـقر طويل كشلال من أشـعة الشمس المسـدلة على حقل أخضر، وحين تبتسم يُزهر الربيعُ على شفتيها ويَسْكَر.. ومنذ سنةٍ وأنا أحلمُ، ليلَ نهار، بالزواج منها... لكنَّ أباها رفضَ تزويجها لي.. أتعلمين لماذا أيَّتُها الرقـبةُ الحبيبة؟ لأنَّني فقير ومرفوع الرأس، كما قال لي!!! ولهذا أرجوكِ أنْ تُلَيِّنِي من صلابتك قليلاً، ليسمحَ لي أبوها بالزواج منها، ولن أنسى لك هذا المعروف ما دمت حياً.. ما رأيك؟
ومرةً أخرى، فُوجِئَ بعروقِ رقبته تزداد بروزاً وإصراراً على مَنْعِ رأسه من الانحناء ولو قليلاً...ومرة أخرى فَكَّرَ بالثورة عليها وإطلاق الشتائم، لولا أنْ تَدَخَلَّتْ نفسُه مجدداً، مُقْنِعَةً إياه بالاستمرار في استخدام أسلوب المُلاطفة، عساه يُلَيِّن بهذا الأسلوب عنادَ رقبته.. وهكذا رَسَمَ على شفتيه ابتسـامةً أرادها وَدُودَةً، ثم عاد إلى خطاب رقبته قائلاً:
- هناك عملٌ هام ومُرْبِح، عُرِض عليَّ اسـتلامُه منذ أيام، وكما سمعتِ بأُذُنَي، رَفَضَ ربُّ هذا العمل السماحَ لي باستلامه ما دُمْتُ مرفوعَ الرأس، مؤكداً أنَّه لا ينبغي لأيِّ طالب عمل، مهما تكن كفاءتُه، أنْ يرفعَ رأسَه أمام وَلِيِّ نعمته.. فهيَّا لا تكوني قاسيةً إلى حدِّ حرماني من هذه الفرصة التي طالما انتظرتُ سنوحَها لي... ما الذي ستخسرينه إنْ سمحتِ لرأسي بالانحناء قليلاً أمام ربِّ ذلك العمل؟ ها؟ أَتُبْرِزِينَ لي عروقَك باهتياج أشدّ؟ أَيعني هذا أنَّك مصرةٌ على صلابتك الرعناء؟ أَلن يُقنعَك أيُّ شيء بتغيير موقفك الأحمق هذا؟
وانفجر غضبه منها دفعةً واحدة، فراح يُرْغِي ويُزْبِد ويشتم:
- أيتَّهُا اللئيمة.. أيَّتُها القذرة.. لماذا ترفضين أنْ تفهمي موقفي؟ لماذا ترفضين مساعدتي؟ أَتُعجبُك هذه الحال المزرية التي بلغتُها؟ ألا تَرَيْنَ كم أُعاني؟ ماذا دهاكِ يا حقيرة؟
ولمَّـا لم ينفعْ غضبُـه ولا شـتائمُه في إقناع رقبته بتغيير موقفها، استلقى على سريره المهترئ باكياً نادباً حظَّه العاثر لابتلائه بهذه الرقبة... وفي حمى بكائه ونشيجه، الْتَمَعَتْ في رأسه فكرةٌ، فوَمَضَتْ عيناه ببريقٍ حـادّ، وكأنَّما وَجَدَ ضالتَه المنشودة أخيراً...
نهض إلى ملابسه، فارتداها على عجل، ثم صَفَقَ البابَ خلفَه منطلقاً بأقصى سرعة إلى صديق قديم له، استطاع بعد قَصْفِ رقبته أنْ يُصبحَ من أكبر أثرياء البلد وأوسعهم شهرة ونفوذاً..
يا إلهي، كيف لم يخطر هذا الصديق على بالي من قبل؟ سأذهبُ إليه، وأرجوه أنْ يَدُلَّنِي على الطريقة التي أَلَانَ بها رقبتَه التي كانت أكثرَ عناداً من رقبتي... ومن المؤكَّد أنَّه لن يبخلَ عليَّ بالنصيحة.. فكما علمت، قد نَصَحَ كثيرين غيري، وقد حَقَّقَ هؤلاء كلَّ طموحاتهم، بعد أنْ لانَتْ رقابُهم....!
- أيها الصديق العزيز، لقد بلغْتُ من الفقر ما ترى، بسبب رقبتي العنيدة هذه التي رفضت كلَّ توسلاتي وأَفْشَلَتْ كلَّ محاولاتي لإقناعها بتليين عضلاتها ولو قليلاً، لأكسبَ رزقي.. وها قد جئتُ إليك طالباً النصيحة، طالباً الدواء للتخلُّصِ من صلابتها الحمقاء...
قال ذلك لصديقه وهو يَقْطُرُ ألماً وحزناً، فمَدَّ إليه ذلك الصديق اللَّيِّنِ الرقبة يدَه، ورَبَّتَ بها على كتفه بوُدٍّ وتَفَهُّم، ثم ابتعد عنه خطوات، متجهاً إلى طاولته الفخمة.. سَحَبَ أحدَ أدراجها بعناية، ثم أخرج منه ماسـورةَ مرهم، اتجه بها إلى صديقه قائلاً:
- سَينُهي هذا المرهمُ السحريُّ كلَّ متاعبِكَ مع رقبتك.. إنَّه مرهمٌ مُجَرَّبٌ ومكفول، صُنع في أشهر المصانع الأجنبية، خصيصاً لتليين رقابنا... أُنظرْ إلى ماسورته.. هاكَ... اقرأْ ماركتَها وستَفهمُ ما أَقصد... ثم ابتسمَ له بِمَكْرٍ قائلاً: هل فهمتْ؟ حسناً... هيَّا اكشفْ لي عن رقبتِك العنيدةِ هذه التي ستُصبحُ مطيعةً بعد دقائق فقط...
كَشَفَ ذو الرقبة العنيدة عن رقبته، فوَضَعَ صديقُه المرهمَ السحريَّ عليها، ثم راح يُدَلِّكُ عضلاتِها وعروقَها بأصابع رشيقةٍ اعتادتْ مثلَ هذا النوع من العمل.... ثم قال له:
- انتظرْ دقائق.. دقائق فقط، وسترى النتيجة المذهلة...
ومَضَتْ الدقائقُ تلوَ الدقائق، والرجلُ وصديقُه ينظران إلى الرقبة العنيدة عبرَ المرآة المواجهة لهما، ولكنْ دون فائدة..
وأخيراً لم يَملُكَا إِلَّا أنْ يفتحَا عيونَهما على اتساعِها دهشةً، وهما يَرَيَانِ الرقبة العنيدة قد أبرزت عروقها إلى أقصى حدٍّ تستطيعُه لتصيرَ أصلبَ ممَّا كانت عليه قبلَ تدليكها بالمرهم السحري.. وهنا صَرَخَا معاً مُنْفَعِلَين من عنادها.. وبعد برهة تفكير، قال الصديقُ اللَّيِّنُ الرقبة، بلهجةِ مواساةٍ لصديقه العنيد الرقبة:
- لا عليك... لديَّ العلاج الشـافي لأمثالِ هذه الرقبة المتطرفة... لي صديقٌ خبيرٌ في تَلْيينِ أَعْتَى الرقاب وأكثرها عناداً، وقد طَبَّقَتْ شهرتُه العالم، خصوصاً بعد أنْ تَمَكَّنَ من تليين رقابِ عددٍ من زعماء العالم الذين كادت صلابةُ رقابهم تُفْقِدُهم مناصبَهم وتُطيحُ برؤوسهم... سأُعطيكَ الآن رسالةَ تَوْصِيَّةٍ إليه، لكي لا يَتَقَاضَى منك أجراً باهظاً، وأنا متأكِّدٌ من قدرته على جَعْلِ رقبتِك المتكبِّرَةِ هذه أَلْيَنَ وأكثرَ طواعيةً من رقبتي التي أراكَ تأكلُها بنظراتك حسداً..
ومضى إلى طاولته الفخمة، فتناولَ ورقةً مصقولة، وخَطَّ عليها كلمات، ثم دَسَّها في مظروف أنيق فاخر، كَتَبَ عليه بخَطٍّ جميل: (إلى حكيم الزمان).. وبعد ذلك، قال لصديقه، وهو يَمُدُّ إليه يدَه بالمظروف:
- أَعْطِهِ هذه الرسالةَ دون أنْ تفتحَها، فإذا فتحتَها، فسيعرفُ صديقي الحكيم بذلك، وسيرفضُ مساعدتك... فهمْت؟
- بالتأكيد..
- إذاً امْضِ إليه لِتَوِّكَ، وأَعْلِمْني بالنتائج المُفْرِحَة.. هه؟
دسَّ ذو الرقبة العنيدة الرسالةَ في جيبه بعناية، ومضى إلى حكيم الزمان، يَحْدُوهُ أملٌ كبير وتفاؤلٌ عريض بالتَّخَلُّصِ مـن مشكلته المستعصية..
في عيادة ذلك الحكيم، انتظرَ طويلاً ريثما جاء دورُه.. فقد كانت العيادةُ غَاصَّةً بالزبائن من ذوي الرقاب العنيدة الذين يَتَضَوَّرونَ جوعاً، ويَنْضَحونَ ذلاً.. وحين جاء دورُه، هرعَ إلى غرفةِ الحكيم مسرعاً، ثم اسـتَلَّ الرسالةَ من جيبه، وأعطاها له... وما إِنْ لمحَ الحكيمُ اسمَ مُرْسِـلِها على ظاهرِ المظروف، حتى قبَّلَها ووضعَها على رأسـه، فاطْمَأَنَّ الرجلُ إلى النتيجة، وزاد اطمئنانُه أكثر، وهو يسمعُ الحكيمَ يقول له:
- كُرْمَى لصديقنا المشترك، سأُجري لكَ العمليةَ مجاناً..
قام خارجاً من خلفِ طاولته، ثم تَقَدَّمَ من المريض قائلاً بلطف:
- تَفَضَّلْ إلى غرفة العمليات من فضلك..
قال المريض بشيء من الخوف:
- عمليات؟!
ابتسم الطبيب مُطَمْئِناً إياه بالقول:
- لا داعي للخوف.. فالعمليةُ ستُجرَى على الطريقة الأحدث في العالم.. أقصدُ بواسطة الحاسوب..!
- ماذا؟!!!
- تَفَضَّلْ أنت، ولا تخشَ شيئاً.. تَفَضَّلْ.. [/align]
#######
[align=justify]دَخَلَ الحكيمُ أمامي، فتَبِعْتُهُ إلى غرفة خافِتَةِ الإضاءة، أشبهُ باستوديو أو بمقصورة في مقصف ليلي؛ وفي صدرها طاولةٌ فخمة، عليها جهازُ حاسوب أنيق المظهر، وبجانبها كرسيٌّ وثير.. أشار لي أنْ اجْلِسْ عليه.. ففعلْت، وقد دَاخَلَنِي شيءٌ من الاطمئنان...
شَغَّلَ الحاسوب، ثم وصلَ إليه سلكين رفيعين ينتهي طرفاهما الحُرَّينِ بِمِجَسَّين.. ثم تَقَدَّمَ مني وأَلصقَ المِجَسَّينِ بصِدْغَيَّ، ثم ابتسم وهو يقول لي:
- سترى.. لنْ تشعرَ بأيِّ أَلَم، فالعلمُ اليومَ قد تَطَوَّرَ كثيراً..
ثم أضاف والابتسامة لا تُفارقُ شفتيه:
- إذا أردتَ أنْ تُتابِعَ معي ما يظهرُ على شاشةِ الحاسوب، فلا مانع لديّ...
وفعلاً، رحتُ أتابعُ ببصري ما يظهر عليها من كتابات كثيرة، كانت تَتَغَيَّرُ بسرعة مذهلة، حتى توقفتْ على مجموعة من السطور.. عندها رأيتُه يَتَنَهَّدُ وهو يَفْرِكُ يديه ببعضهما فَرَحاً، ويقول:
- الحمدُ لله، لقد تَعَرَّفَ الحاسوب على دماغك أخيراً، وصار من الممكن إجراءُ العملية بيُسْرٍ الآن...
ثم أشار إليَّ، لافتاً انتباهي:
- أترى هذه المستطيلات الصفراءَ الصغيرة؟
- نعم..
- فيها كلُّ محتويات دماغك...
- ماذا؟!!!!
- لا تستغربْ... والآن دعني أبحثْ عن دليلِ الرقبة...
ثمَّ...، وكَمَنْ يُكَلِّمُ نفسَه:
- الرقبة... الرقبة... أين هو دليلُ الرقبة...؟ آ... ها هو... نعم.. والآن سأفتحُه لأَعْرِفَ سببَ تَصَلُّبِها...
حَرَّكَ مُؤَشِّرَ الفأرة/الماوس نحو أحدِ المستطيلات الصفراء، ونَقَرَ عليه بِزِرِّ الفأرة، فانْفَتَحَ عن مجموعة من الصفحات الصغيرة المُسَطَّرة التي ليس عليها أيّ كلام... ثم اختار واحداً من تلك الصفحات الغريبة التي سَمَّاها لي مِلَفَّات، وقال:
- هذا هو الملفُّ الذي يحوي برنامجَ فَحْصِ أمراض الرقبة، سنفتحُه ونقرأُ فيه، عسانا نعثرُ على سبب تَصَلُّبِها.
وما كاد يفتحُه ويقرأُ فيه قليلاً، حتى أَغَرَبَ في ضحكٍ طويل متواصل.. ولمَّا وَجَدَ أنَّه أثارَ استغرابي واستيائي بضحكه، قال:
- المعذرة... لم أقصدْ الإساءة، بل أضحكني ما قرأت..
قلتُ بانفعالٍ بادٍ:
- وماذا قرأت؟
فقال:
- اسمع يا سيدي... هناك أكثرُ من سبب.. فرأسُكَ الكبيرة هذه مليئةٌ بالكثير من الكلمات الكلاسيكية التي تعملُ، بمجموعها، على تصليب أيِّ رقبة...!
- ماذا تقصد؟ لم أفهم...
- أقصدُ كلماتٍ، أو قُلْ مبادئَ قديمة لم تَعُدْ صالحةً لعصرنا الراهن، حَقَنَنَا بها أهلُنا ومُرَبُّونا في الصِّغَر، ورَافَقَتْنا طيلةَ سنواتِ عمرنا الماضية، مُتَوَهِّمِينَ أنَّ الحياةَ لا تصلحُ ولا تصحُّ بدون تَمَسُّكِنا بها وحفاظِنا عليها.. وفَهْمُكَ فيه الكفاية....
- أيَّ كلماتٍ تعني؟!
- حسناً يا سيدي، سأسردُ عليك بعضَها.. اسمعْ هناك كلماتٌ مثل: شرف، شجاعة، إخلاص، وفاء، نخوة، شهامة، عِزَّةُ نفس، وطنية، حرية، وما إلى ذلك من كلمات تدلُّ على نَمَطِ الأخلاق الكلاسيكية البائدة التي لم تَعُدْ نافعةً في عصر التَّقدُّمِ العلمي والحريَّةِ الذي نعيش فيه...
قال لي ذلك، وهو يلوي شفتيه تقززاً، وكأنَّه اشْتَمَ رائحةً كريهة... فتجاهلتُ ذلك منه، ثم قلتُ له محاولاً معرفةَ ما سيفعلُ بهذه الكلمات المُصَلِّبَة لرقبتي، كما أخبرني:
- والعمل دكتور؟
- المسألة في غاية البساطة، سأُعطي الآن أمراً للحاسوب كي يمسحَ الملفَّ الذي يحوي مثل تلك الكلمات التي تعملُ على تصليب أيِّ رقبة، وتُظهِرُ صاحبَها في مظهر المُتَكَبِّر..
- هل تعني أنَّني لكي أستطيعَ أنْ أحنيَ رأسي، يجبُ أنْ أتخلَّصَ من الإيمانِ بكلِّ ما ذَكرْت؟!
- صحيح.. بالضبط...!
- ولكنْ كيف ستجعلُ مني إنساناً بلا مبادئ؟
- بمنتهى البساطة.. سأطلبُ من الحاسوب أنْ يمسحَ من ذاكرتكَ هذا الملفّ الذي يحتوي على هذه المبادئ، وبذلك ترتاحُ منها إلى الأبد...
ثمَّ، وبحركةٍ رشيقة، سَحَبَ مُؤَشِّرَ الفأرة إلى ذلك الملفّ، ونَقَرَ عليه، فاصطبغَ باللون الأسود؛ ثم التَفَتَ إليّ وقال:
- الآن يا عزيزي ما عليَّ سوى أن أضغط على هذا الزر، حتى ينتهي كلُّ شيء...!
- أحقاً ما تقول؟
- نعم.. وسترى النتيجةَ بنفسكَ فوراً...
وبعد برهةِ صَمْتٍ، ثَبَّتَ خلالها عينيه في عينيّ مباشرةً، قال، وعلى شفتيه ابتسامة غامضة:
- بالمناسبة، إذا لم يُعجِبْكَ وَضْعُكَ بعد العملية، يُمكِنُني إعادتَك إلى وضعِك الراهن بكلِّ بساطة...
فقلت متعجباً:
- وكيف؟!!
فقال بلهجة الواثق:
- أطلب من الحاسوب أنْ يسترجعَ الملفَّ الذي حَذَفَه من دماغك...، فتعود إلى وضعكَ الراهن فوراً!
فقلت بدهشة:
- وهل يفعل؟!
فهزَّ رأسه بثقة، ثم قال:
- بالتأكيد...
قلت:
- إذاً لا مانعَ لديَّ من التجربة..
فابتسمَ موافقاَ، ثم ضغط بإصبعه على أحد الأزرار، فإذا بالملفِّ الذي قال لي إنَّه يحوي المبادئَ المُصَلِّبَةِ لرقبتي يختفي.. وما كاد يفعل حتى أَحْسَسْتُ بارتخاءٍ مفاجئٍ في عضلات رقبتي.. ثم نظرتُ إليه فوجدتُه يبتسمُ ابتسامةَ من حَقَّقَ نصراً مؤزراً، ثمَّ سمعتُه يطلبُ مني أنْ أَقِفَ وأنظر إلى نفسي في المرآة، ففعلْت، وما كِدْتُ أرى إلى أيِّ شكلٍ تَحَوَّلْتُ حتى صحتُ:
- يا إلهي... لقد تَهَدَّلَتْ تلك اللعينةُ أخيراً..!!! [/align]
#######
[align=justify]وهكذا نجحت العملية، وحصل صاحبَ الرقبة العنيدة التي لانت، على عمل مرموق بعد لِينِها، وتَزوَّجَ الـفتاةَ التي يُحبُّها... ولكنَّه، بعد فترة قصيرة، بدأَتْ تنتابُه أعراضُ مَرَضٍ غريب، إذ صار يجلس لفترات طويلة صامتاً حزيناً تعتصرُ قلبَه كآبةٌ سوداء، يتمنى، أثناء اندفاقها من جَنَبَاتِ نفسه إلى قلبه، لو لم يَعِشْ أبداً.. وكان يخاطب نفسه أثناء كلِّ نوبة من نوبات هذا المرض كالمجنون قائلاً:
- يا إلهي! كيف يمكن لي أنْ أُكْمِلَ بقيةَ عمري، وأنا لم أَعُدْ أرَى في هذا الكون كلِّه، سوى إسفلتِ الشوارع وملاط الأرصفة، وأحذية المارين عليه وقاذوراتهم؛ وأَنْسَـى كلَّ ما هو عُلويّ، حتى زرقة السماء وشكل القمر والنجوم؟!
سأل كثيراً مِمَّن سبقوه إلى إجراء عملية تَلْيِينِ الرقبة عند المُسمَّى حكيم الزمان ذاك، فأخبروه جميعاً بأنَّهم يُعانونَ نَفْسَ الأعراض، ولا يجدون لها دواء... عندها، قَرَرَ أنْ يذهبَ إلى ذلك الحكيم، ويطلبَ منه أنْ يُعيدَ إليه ملفَّ الكلمات التي مَسَحَها من دماغِه بواسطة الحاسوب، كما أخبره ووَعَدَه، قبل أنْ يَمْسَحَهَا، مُفَكِّراً أنَّ حياتَه الصعبةَ، حين كان صُلْبَ الرقبة، كانت أفضلَ بكثير من حياته بعد أن لانت رقبته.
وفي عيادة حكيم الزمان، ذرفَ الكثيرَ من الدموع، حين أخبرَه ذلك الحكيم، بعبارة مقتضبة جداً، وهو يبتسم له ابتسامةً غامضة، أنَّه نسيَ، في زحمة العمل، بعد الانتهاء من إجراء العملية له، أنْ يحتفظَ بملفِّ الكلمات التي مَسَحَهَا من ذاكرته، والتي كانت تُصَلِّبُ رقبتَه، وبالتالي صار من المستحيل عليه إعادةَ ذلك الملفّ إليه... أمَّا بخصوص إحساسه المُزمنِ والمُرهقِ بالتعاسة والحزن، فقد وَصَفَ له الحكيمُ دواءً مبتكراً يشفيه منه، وكان هذا الدواء السحري هو....[/align]
كُتِبَت هذه القصة في دمشق، بتاريخ 24/8/1996