عرض مشاركة واحدة
قديم 16 / 10 / 2016, 27 : 11 AM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

قراءة في قصيدة (سيذكرني الناي) في الذكرى الخامسة لرحيل طلعت..

[align=justify]في ذكرى رحيله الخامسة، وجدتني حائراً ماذا أكتبُ عن أخي طلعت.. هل أكتبُ عن صداقتنا القديمة الرائعة، أم عن محبتي التي مازالت مستمرة له، أم عن إبداعه... وظللتُ أُقَلِّبُ الأمر على وجوهه المختلفة، شاعراً بأنِّي أسير حيرة لا أعرف التحرر منها، حتى اختارت الأستاذة هدى الخطيب قصيدة (سيذكرني الناي)، لسبب لا أعرفه، ووضعتها على شريط المشاركات التي تنصح بقراءتها، فإذا بي أجد في اختيارها ضالتي المنشودة..
سأهديه قراءة خاصة لقصيدته هذه التي أعدُّها من أجمل ما كتب، ومن أعذب ما سمعتُه من شعره وهو يُلقيها على مسامعي، آنَ انتهائه من كتابتها..ولكنْ، هل أقرأ هذه القصيدة بأسلوب الناقد الموضوعي فأُبْهِتُ بهاءها؟
ووجدتني أقول لنفسي: لا..
وهكذا ألقيتُ بمشرط الناقد جانباً، وخلعتُ عن كتفي عباءة النقد الموضوعي، لأعيد قراءتها بعين المحب لمن كتبَها.. فاعذروني إذا وجدتم قراءتي لها مجرد نفثة حب، تحاول أن تتساوق مع أنغام الناي الذي عزفَ كلماته عليها..، لتخرج قراءتي لها، في النهاية، وَعْدَ وفاءٍ لذكرى صديق وقصيدة، استطاع أن ينفصل فيها عن ذاته، قبل موته، وأن يحاور في أبياتها قدرَه بجرأة، رافضاً فيها موته، ثم قابلاً بالموت لجسده الترابي فقط، ومصراً على بقاء ذاته المبدعة، كشاعر، خالدةً فيما أبدع..[/align]

[align=justify]الأستاذة هدى الخطيب... كان اختياركِ هذه القصيدة لإعادةَ نشرها، في ذكرى رحيل طلعت، اختياراً مُوفَّقاً فعلاً... ليس لأنَّها من أجمل ما كتبَ فحسب، بل لأنَّها تكاد تكون أشبه بنبوءة أيضاً، أخبر فيها نفسه وأخبرنا، بقرب رحيله عن هذه الدنيا، ولكونها، فوق هذا وذاك، مُصاغة بصور آسرة يرسم مجموعُها تصوُّرَه الخاص لما يمكن أن يُلاقي إبداعُه من مصير، بعد رحليه عن هذه الدنيا جسداً، وعن رؤيته لإمكانية بقاء ذاته حيَّةً، في ذلك الإبداع، كشاعر، يرفض أن يفنى ما أبدعه بفناء جسده الترابي..
وأوَّل ما يستوقف القارئ لهذه القصيدة اختيار شاعرها النايَ، من بين كلِّ الآلات الموسيقية الأخرى، لعزف ذكراه بعد رحيله.. وهو، ولاشكَّ، اختيار موفق، لأنَّ الناي من أكثر الآلات الموسيقية إثارة للحزن والشجن في نفس سامعه.. وهل ثمة حزن يمكن أن يفوق حزن الإنسان على نفسه بعد رحيله؟!
وبنقلَة، كلمحٍ بالبصر، أدخلنا طلعت في عالم ما بعد الرحيل، حين انفصل عن نايه فجأةً، ليُؤنسنه ثم يتركه يسرح بعيداً ليس بالأغنام، فعلَ الرعاة عادة، بل بالأغنيات، أما المرعى فكان أشد غرابة وإثارة للمفاجأة، لأنَّ نباته كان فصولَ نشيد..
ومن المكان البعيد الذي رحل إليه الشاعر، تاركاً لنايه مهمة إتمام إبداع الجمال أغنياتٍ عذبة، إذا بالرغبة في العودة إلى كينونته التي غادرها تُدغدغه، فيخِفُ إلى سنيِّ العمر الذي قضاه في الدنيا، وقد صارت، برحيله الجسدي، كينونةً مستقلَّة أيضاً، لها بيت تُقيم فيه.. يدقُّ باب ذلك البيت الغريب، فإذا به، بدلاً من أن يرى نفسه فيه، يرى مخلوقاً آخر غريباً أيضاً يسأله: من أنتَ، وماذا تريد؟!
ما أصعبَ أن يرى المرء عمرَه مسكوناً بغيره..! وأيُّ مفاجأة مؤلمة هذه؟! وبعفوية من أذهلته المفاجأة، وجد نفسه يُجيب سائلَه قائلاً:[/align]

/أنا يا سيدي كنتُ من قبل
داخل هذا المكان/..
أيَّ مكان كان يقصد طلعت؟
[align=justify]إنه بيت الطين الذي كان يُسمى جسده.. كينونته الأرضية الترابية التي غادرها لتفنى في تربة الأرض.. ولكن الذات الإنسانية، ذات المبدع التي كانت تسكن ذلك البيت لم تكن عادية، بل كانت ذاتَ شاعر يُبدع الجمالَ بحروفه وكلماته..
ولأنَّ إبداع الإنسان لا يموت بموت جسده، كما كان يرى طلعت، إذا به يرفض موت إبداعه، ويبحث عن بعثه في جسدٍ آخر لا يموت.. ثم يختار الحروف والكلمات التي كتبها وقالها، ذاتَ عمر، جسداً جديداً خالداً لسكنى تلك الذات المبدعة..
ولشدة إحساس طلعت بقدرة كلماته على مقاومة الموت والفناء، خاطبَ ذلك الغريب الذي فاجأه بسكنى عمره الذي انقضى، فراح يشرح له ما كانه قبل أن يرحل عن بيت العمر الدنيوي، عساه يُقنعه بالعودة إليه حياً من جديد، ولو بكينونة أخرى غير ترابية، مؤكداً ملكيته لكلِّ تلك السنين التي بُني بيت عمره منها سنةً في إثر سنة:[/align]

/ أنا سيدي كنتُ من قبلُ
داخل َ هذا المكان ِ
[align=justify]ولأنه لم يكن مجرد صاحب جسد ترابي، بل كان يقوم بإبداع ما لا يستطيعه غيره، راح يذكر له بعض ما أبدعه:[/align]
أنظف ُ بعض َ الحروف ِ
وأقطفُ وردَ الكلام ِ
أعيدُ الصباح َ النديَّ
إلى ضحكة ٍ من صفاء ٍ
وأركض ُ نحو الحكايات ِ
كي ينهضَ السروُ أحلى
وكي أستردَّ الزمان َ الشريدْ /
[align=justify]لكنَّ هذه الهوية لم تُقنع صاحب ذلك الوجه الغريب، فعاد ليُغلقَ باب عودة الشاعر إلى سنوات عمره الذي غادره..
لكنَّ الشاعر لم يقتنع بردِّ الفعل الفجِّ هذا، فعاد يطرق الباب من جديد، ليدلي بحجة بدت له أقوى، غير عابئ بقسوة ذلك الذي يُوصد بابَ عمره، ويصرخُ به شبهَ طاردٍ له عن ذلك الباب، بقوله:[/align]

لقد قلتَ ما شئتَ هل من جديدْ ؟؟..
نعم.. لدى الشاعر جديدٌ، وعلى ذلك الفظِّ سماعه، ولذلك بادره قائلاً:
/ أنا سيدي أعزفُ الآن صوتي
على سدرة الروح أحكي
لكلّ الذين يريدون وردة عشق ٍ
بأني سأغسل بالشمس ِ بعض الدروب ِ
سأرتدّ نحوي قليلا
وأرسل للزهر دفءَ الوريدْ /..
[align=justify]لكن، وعلى الرغم من روعة المهمات التي يريد الشاعر العودة إلى الحياة ليستمر في إنجازها، إذا بذلك الغريب الذي احتلَّ بيت العمر المبني من سنواته، يرفض عودته، ويزجره بفظاظة حاول مَزجها بحجة تقطع على الشاعر جميع احتمالات العودة، بقوله:[/align]
ماذا تريد لماذا
تدقّ جدار الزمانْ
وما أنت إلا قصائدُ شعر ٍ
تلاشى المكان الذي كنت فيه ِ
تلاشى الزمان ُ
فأيّ زمان ٍ وأيّ مكانْ ؟؟..
[align=justify]أيُّ روعة يا طلعت، رحمك الله! لقد اختصر ذاته وعمرَه وإبداعاته وكينونته الترابية التي استمرت نحو ثمانية وخمسين عاماً، بعبارة واحدة مذهلة، أجراها على لسان ذلك الغريب الذي قالها له بلهجة تحمل الكثير من الاستخفاف الناجم عن جهله بروعة ما استخفَّ به: [/align]
ما أنت إلا قصائدُ شعر ٍ
[align=justify]نعم.. هي ذي هوية طلعت كلها.. عمرٌ طويلٌ مُختَصَرٌ في كلمتين فقط هما: (قصائد شعر).. وهل كان طلعت غير هذه القصائد، وهل رأى خلوده يوماً إلا بكينونته الخاصة هذه؟.. أبداً.. لقد أصاب ذلك الغريب كبدَ الحقيقة فنطق مادحاً في حين أن نيته كانت السخرية والاستخفاف..! فأي روعة تعبير هذه؟!
ثم سرعان ما تلا هذا التعبير التعريفي الرائع، تلك العبارة/الحجة التي حاول فيها الغريبُ أن ينقل الشاعرَ إلى الواقع، عن طريق ما يمكن أن يُوصَف بالصدمة، فقال له:
تلاشى المكان الذي كنت فيه ِ[/align]

تلاشى الزمان ُ
فأيّ زمان ٍ وأيّ مكانْ ؟؟..
[align=justify]وكأنَّه يهزه من تهويم استغرقه، أو من حلم يراه: اصحُ أيها الشاعر... فالمكان الذي كنتَ فيه تلاشى.. وكذلك الزمان الذي جئتَ تطرق بابه الآن.. فعن أيِّ زمان وأيِّ مكان تتحدث..؟!
وهنا فقط، يُسفر طلعت عن وجه محدثه الغريب، لنعرفَ أنه كان يُحادث الحقيقة التي صَعُبَ عليه، شأنَ كلِّ حيٍّ، تصديقَها، والتي يمكن اختصارها بكلمة واحدة هي (الموت)..
وكمن صحا من حلم فعلاً، ووجد نفسه ما يزال مستلقياً على أرض الواقع، أدركَ طلعت أنَّ ما حدث قد حدث، وأنَّه صار في عالم آخر فعلاً، وأنَّ من المستحيل عليه العودة إلى ذلك العالم الذي غادرَه، فقبل النتيجة.. لكنَّه أبى أن يقبل منطق الفناء لذاته كلها، بل لجسده الترابي فقط، مُؤكداً خلود الذات المبدعة التي كانت تسكن ذلك الجسد، وذلك من خلال تعداد بعض مآثرها التي عاد يعزفها نايُه الحزين على مسامعنا ذكريات تحكي صاحب هذا الناي، فقال:
[/align]

/ .. سيذكرني الناي ذات مساء ٍ
ويذكر أنّي
صعدتُ الدروب جميع الدروب ِ
بخفقة ِ قلب ٍ وهمسة ِ فنِّ
وما كنتُ يوما سوى ما أريدْ
زهورا وعطرا وروحا وحبا
وخفقا يضخّ دماء َ النشيدْ
[align=justify]وكأنِّي به يقول متحدياً، أليس من الصعب على الفناء أن يطوي مثل هذا الجمال الرائع الذي أبدعه صاحبُ جسد فان؟![/align]
[align=justify]بلى.. وأختم بالاعتذار إلى الأستاذة هدى لأنني اعتديتُ على اختيارها لهذه القصيدة.. [/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس