23 / 10 / 2016, 20 : 06 PM
|
رقم المشاركة : [1]
|
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب
|
مَجَرَّةُ المُحِبِّين...
[align=justify]القصة الخامسة في مجموعتي (ميت في إجازة) الصادرة عن دار المسبار، في دمشق، 2004[/align]
[align=justify]في بداية الرحلة، نظرتُ إلى السماء فوجدتُ آخرَ أضواء النهار تذوبُ بشهيةٍ في جبهة أُفقٍ حزين، وكان قلبي مارداً ينتعل خُفَّيّ حُنَيْن..!!!
ولكنْ ما إن غادرتُ مَجَرَّتي، حتى صار قلبي عصفوراً يملأ الفضاء زقزقةً وحبوراً... وحين بَحَثَ، بعد قليل، عن الأرض بعينيه، فلم يجدها، ابتسـم، ثم راح يَتَنَطَّطُ فرِحاً كأغنية عذبة تُدَنْدِنُها صبيةٌ حلوة في أُذنِ حبيبها...
وطار القلب.. طـار بعيداً جداً، يكتشف في كلِّ خطوة يخطوها مجرةً جديدة، غير عابئٍ بابتعاده عن عشِّه الصغير الذي ضَيَّعَ دربَ عودته إليه... فقد كان مسكوناً بالرغبة في اكتشـاف مكان لم يصله أحدٌ قبله، ولا يعرف عنه أحدٌ شيئاً.
وها هو، بعد مسيرة ألف عام أو أكثر، يَلْمَحُ مَجرةً مغطَّاةً بجليد بنفسـجي يفتنُ العين ويَخْلِبُ العقل..... جذبه جمال لونها، فاقترب منها وراح يدور حولها مُتأمِّلاً؛ وفيما هو كذلك، إذا به يُبصِر في أحد جوانبها بوابةً كبيرة تَمُوجُ بألوان قوس قزح، وعلى البوابة حارسٌ له هيئة الدمعة...
اقترب مستغرباً، فأبصر على صدر الحارس ما يُشبه حروفاً يعرفها.. دَقَّقَ النظر في الحروف التي كانت تتلألأُ بنور شفاف، فقرأ فيها عبارة تقول: (إذا أردتَ الدخول، فاخلع أَنَاكَ عن كَتِفَيْ روحك...)!!!!
لم يفهم المقصود من العبارة، فقرَّرَ أن يسأل الحارس الذي راح ينظر إليه بودٍّ، وعلى شفتيه تَرِفُّ ابتسامةُ طفلٍ وليد:
- ومن ذا الذي يستطيع أن يخلعَ أناه؟
اتسعت ابتسامةُ الحارس، وهو يجيبه بصوت مُمَوْسَق عذب:
- الأطفال والطيبون فقط...
- وأنا طيِّبٌ يا سيدي...
- حسناً، إذا كنت صادقاً فيما تقول، فبَرْهِنْ على صِدقك بقدرتك على خَلْعِ أناكَ أمامي...!
- سأفعل، أنظر...
وبِخِفَّةٍ لم أَعْتَدْهَا من قبل، مَزَّقْتُ أنايَ بأظافري وأسناني، ثم نزعتُ مِزَقَهَا عن ذاتي، وطَوَّحْتُ بها في الفضاء، غير عابئٍ بآلام تمزيقها ونزعها، ولا باعتراضاتها التي كانت تنطلقُ من تلك المِزَق وَلْوَلَةً مبحوحة...
وما إن انتهيت، حتى صاح بي الحارس الذي كان يتابعُ ما فعلتُ بإعجاب:
- بُوِرْكَت من إنسان... تعالَ وادخلْ ملكوتَ مَجَرَّتِنا...
لوهلةٍ، دَاخلَني خوفٌ مُبْهَم، لم أعثرْ له على سبب، ولكن سرعان ما تَغَلَّبْتُ عليه، لأَقترب، بخطواتٍ متعثرة، من الحارس الذي مَدَّ يده ليصافحني... وبلهفةِ المُشتاق في لحظة اللقاء، مَدَدْتُ إليه يدي مصافحاً، وما إن تَمَاسَّتْ كَفَّانا حتى فُوجئتُ به يذوبُ ويتلاشـى، وبالبوابة تَتَحَوَّلُ، وهي تنفتَّحُ، ببُطءٍ مثير، إلى عدد لا يُحصى من البسمات المضيئة، تَفْتَرُّ عنها شفاهُ نجوم طفلة!!!
عبرتُ البوابة، مُتَهَيِّباً، أُقَدِّمُ رِجْلاً، وأُؤَخِّرُ أخرى، جائِلاً ببصري في الأفق اللامحدود الذي انفتحَ أمام عيني فجأة؛ ولكن، ما كدتُ أبتعدُ عنها بضعة أمتار، حتى سمعت انْصِفَاقَها خلفي بصوت دَوَّى في أذنيَّ كالرعد، فانحلَتْ مفاصلي في ثانية واحدة...، وانتابني رعبٌ لم أشعر بمثله في حياتي كلها... ومضت لحظات هائلة قبل أن أتمالك نفسي، وأستدير إلى الوراء مستطلعاً، لأرى، بعينيَّ اللتين غَشِيَتْهُما سحابةٌ من الخوف والذهول معاً، باطنَ البوابة وقد كُتب عليه:
- ستبقى في مجرتنا إلى الأبد!!!
أُغميَ عليَّ من هول المفاجأة، وحين صحوتُ، بعد ما لا أدري من الزمن، رفعتُ رأسي، والخوفُ ما زال ممسكاً بكلِّ كياني، مرسلاً نظرةً مُتَهَيِّبَةً نحو البوابة، فلم أجدها، بل وجدت مكانها أشجاراً جذوعُها أجسامُ صبايا خَفِرَات، ورؤوسهنَّ ورودٌ تَتَفَتَّحُ بحياء تحت شلالات من نور أزرق ينسابُ عليهنَّ بهدوء...
أذهلني المنظر، بغرابته وروعة جماله...، فنسيتُ البوابة ونفسي، وتركتُ لعينيَّ تَسْبَحَانِ بحرية في ملكوت هذا الجمال الأنثوي الآسر والغريب... وفيما أنا غائبٌ في متعة النظر إلى تلك الأجساد التي لم أرَ لها مثيلاً في الجمال بين كل نساء الأرض، شعرتُ بيد عملاقة تقبضُ على كتفيَّ من الخلف، ثم تُطَوِّقُ عنقي بقسوة، ثم ترفعني أعلى فأعلى، حتى غابت أجساد الورد عن بصري تماماً، لتُلقي بي، بعد ذلك، في هُوَّةٍ فاغرةِ الفمّ لا قرارَ لها، ظللتُ أهوي فيها قروناً مرهقة لا عَدَّ لها! وأثناء سقوطي الطويل الطويل، لم أتوقف عن سـؤال نفـسي:
أأكونُ في طريقي إلى جهنم التي قرأتُ يوماً أن الداخلين إليها يَهْوُونَ في أعماقها سبعين خريفاً، قبل أن يصلوا إلى قاعها؟ لا، محال... فأنا لا أهوي في جهنم، إذ لا أحسُّ بِحَرٍّ أو ببرد في هذا المكان... كلّ ما أحسُّ به هو هذه الظلمة اللزجة التي أَنْزَلِقُ فيها بسرعة لا إرادية مذهلة، وبأصوات القهقهات المرافقة لأذني منذ بدء سقوطي... وما أدراكَ أن هذه ليست طريق جهنم؟ ولكن لماذا جهنم؟
لم أجد جواباً.. فازددتُ حيرةً وخوفاً... أأكون قد ارتكبتُ ذنباً عظيماً، عن سهوٍ ذات يوم ولم أَدْرِ؟ ربَّما.. فابن آدم خَطَّاء، ولكنْ أَلَيْسَ اللهُ رحيماً؟ بلى. إذاً...؟ وانطلقَ الدعاءُ من قلبي مباشرة.. انطلق حاراً مفعماً بالحبِّ والرجاء:
- سامحني يا مولاي وأرسلْ لي من يُساعدني...
ولأوَّلِ مرة، أتاني صوت أفهمه، يقول:
- لا عليك... هاأنذا قادمٌ لمساعدتك...
نظرتُ حولي باحثاُ، في الظلمة اللزجة، عن صاحب الصوت الدافئ، فلم أعثر على أحد؛ ولكنْ، في تلك اللحظة بالذات، أحسستُ أنَّني انغرستُ في أرضٍ لَيِّنَة... قلتُ لنفسي، بين المُصَدِّقِ والمُكَذِّب: هي أرضٌ على أيِّ حال.. أرضٌ، وبلوغُها يعني أنَّ سقوطي قد انتهى... ولا أدري لماذا تذكرتُ، في تلك اللحظة، الأرضَ التي سقطتُ عليها مضرجاً بدمي، وصوتُ قاضيهم يأتيني من بعيد، من بعيد:
ـ إرهابي! ولهذا حَكَمْنَا عليه بالإعدام...
كانت هذه الكلمات آخرَ ما سمعتُه، قبل أن أبدأَ رحلتي هذه.
انتشلتُ نفسي من ذكرياتي الأليمة التي هربتُ منها، ومَدَدْتُ كفي متحسساً الأرضَ التي انتهى سقوطي عليها، فوجدتُها طريةً وناعمة جداً..
ما هذا؟ أين تُرَانِي سـقطْت؟ مشيتُ فوقَها، فراحَتْ تَنْضَغِطُ تحت قدميَّ الحافيتين بلطفٍ مثير.. وكلَّما خطوتُ فوقَها خطوة، احْتَضَنَتْنِي طراوتُها الوثيرة بِوُدٍّ دافئ يَعرجُ بروحي إلى ملكوتٍ من نشوةٍ عذبة، تَتَسَرَّبُ إلى كلِّ ذرَّةٍ في كياني، لتَسْتَقِرَّ فيها موسيقى من فَرَحٍ لا حدود له...!
وفي غمرة فرحي المُمَوْسَقِ الذي كنتُ أَتَقَلَّبُ في نعيمه، نسيتُ صاحبَ الصوت الذي هتفَ بي مُبشراً بنجدتي؛ لكنَّ نسياني له لم يَدُمْ طويلاً، فبينما أنا أَتَقَلَّبُ في نعيم فرحي، رأيتُ مع اختفاء آخر خيوط الظلمة التي كنتُ فيها، شيخاً هرماً أبيضَ الشعر واللحية، يقطرُ جمالاً وأُنساً ووَدَاعةً، ومن عينيه اللتين رأيتُ فيهما عَيْنَي أمي، قبل أن يَعصبُوا لي عينيَّ لينفذوا بي حكمَ الإعدام رمياً بالرصاص.. كانت عيناه وادعتين كعينيها، ومثلهما كانتا تشعان حناناً وحبّاً يدخل القلب دون استئذان، ليستقرَّ فيه أُنساً واطمئناناً ولطفاُ...
- من أنتَ يا سيدي؟
وأتاني صوتُه كَلَحْنٍ يَتَدَفَّقُ أَمْناً:
- لا قيمة للأسماء يا بني... المهمُّ أصحابها؟
- فأخبرني إذاً، أين أنا؟
- إذا كان الفرحُ يغمرُكَ، فماذا يَهُمُّ أين تكون؟؟!!
- هل أنا حيٌّ أم مَيِّت؟
- لا أعرف... فهذا الأمرُ أنتَ وحدكَ من تستطيعُ أنْ تُقَرِّرَه!
- هل في هذا المكان غيرنا...، أقصدُ أنا وأنت؟
هَزَّ رأسَه بالإيجاب قائلاً:
- طبعاً، كثير...
- ولكنِّي لا أرى أحداً!!!
- مازالت العَتْمَةُ تستعمرُ عينيك يا بني.. انتظرْ قليلاً، وسترى كلَّ شيءٍ بوضوح...
وفي تلك اللحظة شعرتُ بالجوع يَقْرِصُ معدتي التي تذكَّرتُ أنَّها خاوية، منذ أنْ غادرتُ الأرضَ التي كنت فيها، فقلتُ للشيخ:
- سيدي.. أنا جائع جداً، فهل أجدُ ما آكله هنا؟
وابتسم لي ابتسامةً ذَكَّرَتْنِي بأمي ثانية... ثم قال:
- طبعاً يُوجَد.. الطعامُ أمامكَ، مُدَّ يدكَ إليه وكُلْ.. إنَّه طعامٌ لذيذٌ جداً... هَيَّا..
ونظرت إلى حيث أشار، فلم أجدْ شيئاً، فغضبتُ، وقلتُ بنرفزة:
- أتهزأُ بي يا سيدي؟ أين هذا الطعام الذي تَتَحَدَّثُ عنه؟
وعادتْ الابتسامةُ العذبةُ تطفو على شفتيه، وهو يقول:
- الحَقُّ معك.. لا تغضبْ! فأنتَ لا تستطيع أنْ ترى جيداً بعد، لذا سأُطعمُك بيدي، ريثما تستعيد قدرتَك على الرؤية. فهيَّا، افتحْ فمَك...
فتحتُ فمي، فأدخلَ فيها أُصْبُعَي يمينِه، وإذا بحلاوة ولذة لم أشعر بِتَذَوُّقِ مثلهما قبلاً، أَخَذَتَا تنتشران في فمي وحلقي. وتتالت اللُّقَمُ تِباعاً، وأنا لا أشبعُ ممَّا آَكُل، والشيخُ لا يَمَلُّ من إطعامي أو يشكو تعباً؛ ولم أَتَوَقَّفْ عن الأكل حتى امتلأْتُ تماماً.. تَجَشَّأْتُ، ثم استلقيتُ على الأرض الوثيرة، تحت بصر الشيخ، فداهمني إحساسٌ قويٌّ بالنعاس، سمعتُ الشيخ يقول لي بعده:
- هَيَّا نَمْ يا بُني، فقد تعبْتَ كثيراً، وقطعتَ إلينا رحلةً مُرهِقَة.
نمتُ نوماً عميقاً، صحوتُ بعده لأجدَ نفسي وحيداً.. بحثتُ عن الشيخ في كلِّ الأرجاء التي بَلَغَهَا بصري فلم أعثرْ له على أَثَر... أحسستُ بالغَمّ، فانْكَفَأْتُ على نفسي، وأدخلتُ رأسي بين رُكْبَتَيّ، مُفكراً في كلِّ ما جرى لي، قبل أن أبدأ رحلتي، مُتذكِّراً كَمْ أهانوني لأنَّني رفضتُ العملَ معهم ضد أمي، وكيف اتهموني بالإرهاب وحَكَمُوا عَلَيَّ بالإعدام، حين يَئِسُوا من إقناعي بالتعاون معهم!!
نفضتُ رأسي مرتين أو ثلاثاً، مُحاولاً التخلُّص من تلك الذكريات، ثم رفعتُه جائلاً ببصري فيما حولي، فإذا بي أُبصِرُ خلقاً كثيراً يُحيطون بي، ولا أعرفُ أيّاً منهم... صحتُ بهم فَزِعاً:
- مَنْ أنتم؟
أجابوني بابتسامات هادئة فيها الكثير من الودّ.. فكَرَّرْتُ سؤالي ثانيةً وثالثة، دون أن أَظْفَرَ منهم بغير تلك الابتسامات، فنهضتُ غاضباً ورحتُ أصرخُ بهم كالمجنون:
- مَنْ أنتم؟
وأتاني صوت الشيخ الأَلُوفُ، مُهدِّئاً:
ـ على رِسْلِكَ يا بني.. اهدأْ أرجوك.. فالغضبُ والصخب ممنوعان هاهنا...
لكنَّني لم أتوقَّفْ عن صراخي:
- مَنْ هؤلاء؟ أخبرني أرجوك قبل أن أفقدَ عقلي..
وابتسم، ثم قال وهو يربت على كتفي:
- إنَّهم أهلكَ الجدُد، مُسَاكِنُوكَ في هذا المكان..
وانتابتني الدهشة، فسألت:
- ماذا؟ ولماذا هم مُتشابهون إلى هذا الحدّ؟
لم يُجبْنِي على سؤالي، بل أخرجَ من جيبه مرآةً مصقولةً نقيَّة، ثم قال لي:
- انظرْ إلى وجهكَ في المرآة يا بني..
فنظرتُ، وما كدتُ أفعل، حتى زادتْ دهشتي أكثر:
- يا إلهي، ما هذا؟! نفسُ الوجه والملامح.. كأنَّنا شخصٌ واحد! جميعُنا بنفس الوجه والملامح.... ما هذا بحَقِّ الله؟ هلاَّ فسرتَ لي أرجوك؟
- بعد أن تهدأ...
تمالكتُ نفسي بجهد بالغ، وجلستُ على الأرض الوثيرة، خافضاً رأسي، بانتظار التفسير، فجاءني صوتُه هادئاً:
- لا تَعْجَبْ يا بني، فسكانُ هذه المجرَّة لهم نفسُ الملامح! فيما مضى، وقبل وصولكم جميعاً إلى هنا، كانت لكلِّ منكم ملامحه الخاصة، أمَّا هنا فلا... ألا تذكر سقوطَك الطويل في هُوَّةِ الظلمة اللزجة؟
- بلى..
- أثناء هبوطك فيها، مُحِيَتْ كلُّ ملامحك الخاصة، وأُبْدِلْتَ بها ملامحك الحالية، وهي أجمل على أيِّ حال..
وجاء صوتي مندَّى بالذهول:
- أجمل؟
- نعم، ألا ترى؟
ومضت برهةُ صمتٍ طويلة، قبل أن أعودَ إلى سؤاله من جديد:
- سيدي، هل صار بوسعي أن أعرف أين أنا الآن؟
نظرَ إليَّ نظرة ملؤُها العتاب، ثم قال لي:
- أحقا لم تعرف بعد؟!!![/align]
دمشق في1997/5/1
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|
|
|
|