اللحظة الأخرى
[frame="5 98"]
ما أن صَعِدتَ إلى الطائرة حتى نظرت إلى الخلف مطوّلاً.
إلى متى هذا الضياع؟، لقد سئمت الفنادق والحياة المعلّبة في حقيبة وبطاقة سفر. أنا غير قادر عن البحث عن الأصدِقاء طِوالَ الوقت. أحتاج البقاء على اليابسة مدّة أطول من الزمن، حيث ترتاح حدقتيّ عينيّ وأتوه في حوار ومحادثات تكاد لا تنتهي. الطائرة تبدو كسجنٍ طائر يقطع المسافات نحو مدن تبدو أحياناً دون وجه أو سِمَة واضحة.
- هل هي المرّة الأولى التي تطير بها؟ سألني جاري في المقعد الضيّق.
- بل ربّما تكون الأخيرة.
شعر بأنّي لا أرغب بمتابعة الحديث أكثر من ذلك. تذكرت آخر وجهٍ تركته عند محطّة الحافلات عندما ودّعني قائلاً:
- والآن إلى أين يا صديقي؟
يا له من سؤال كان قد خيّرني العمرَ كلّه وما يزال. للمرّة الأولى خَطَرَ هاجس الموت إلى مخيّلتي. يشعر كبار السنّ برغبة كبيرة في الموت، بعد أن يمضي معظمُ رِفاق العمر إلى الأبديّة.
فاجأني مطرٌ كثيفٌ في المدينة، وهناك سكرتيرة جميلة وشابّة، تحمل لائحة مكتوبٌ عليها اسمي. كانت مبتسمة وفائقة الجمال. مضيت نحوها ونسيت تلك اللحظة جميع أوهامي ومخاوفي. لعنت الشياطين التي كانت تحلّق معي في الفضاء.
- اسمي أنّا والعربة في الانتظار.
انطلقنا إلى الفندق بسرعة، كان هناك وجبة طعام ساخنة في ركنٍ هادئ من المطعم.
- أنا بحاجة للنوم يا أنّا، والطعام فيما بعد.
انتهت المحاضرة التي ألقيتها في الجامعة، وكنت أتمنّى أن لا أكَوِّنْ صداقات حميمة جديدة. لا أدري لماذا يقتلني الشوق دائماً. بعد ساعاتٍ معدودة أخرى سأمضي في طريقي إلى الفندق، ومع صباح اليوم التالي سأقلِعُ مجدّداً إلى عالمٍ آخر.
الأدب هو مواضيع محاضراتي، لهذا أترك جزءاً من روحي أينما حاضرت. أجد أعين الحضور من الطلاب أمامي تبحث عن حقائق وخبايا قد يصادفونها خلال كلماتي وأفكاري. كثيراً ما أخرج عن فحوى الموضوع وأبدأ دَلْقَ روحي اتّجاه الحضور. عندها يبدأ حِوارٌ لا ينتهي، وغالباً ما تستمرّ المحاضرة بعد انتهاءها رسمّاًً. قالت:
- خُذْني في حديثك إلى آخر الدنيا. أجبتها:
- أنا ذاهبٌ إلى آخر الدنيا.
- لماذا تنتهي اللحظات الجميلة على عجل.
- فَرَضاً تزّوجتك وأخذتك إلى عالمي الخاصّ والمهدور بين المدائن، ومضى قطارُ العمر يلهث آكلاً ما تبقّى من سنوات العمر. ويأتي الأولاد وننشغل في همومهم التي لا تنتهي. ألا تخشين يوماً أن تضيعَ هذه اللحظة في لجّة الحياة.
- نسيت الأحفاد والشعر الأبيض الذي سيهاجم أصل شعري. لكنّي سأصبغ شعري وسأبقى في نظرك هذه الذكرى التي نعيشها اللحظة.
- هل هذا جزءٌ من المحاضرة، أم أنّك تحلُمُ بصوتٍ مرتفع؟.
صمتت الطالبة ونظرت إلى الأوراق بين يديّ.
- أترك لي بعض هذه الأوراق. أخشى أن تكون هذه اللحظة كاذبة. أقرصني أرجوك، قبّلني، اشتمني، راوغ مشاعري، لا تتركني على حافة عالمك.
- أكره لحظة الفراق والوداع. أمضيت سنيّ حياتي في الوداع سيّدتي.
- وأنا لم أغادر هذه المدينة يوماً، دَعْني أتوه بين مدائنك على طريقتي.
عادة ما أقضي في محطّاتي وَقتاً أطول. أمضيت في هذه المدينة وَقْتاً قصيراً للغاية. ولكن حين أعود بذاكرتي إلى هذا اليوم، أشكر يدَ القدر التي رَمَتني إلى هذه المدينة. إنّها المدينة التي وَلِدَت في أحضانها وحدائقها وعتبات مدارسها وجامعتها زوجتي وأمّ أطفالي. سألتها قبل أيامٍ عن تلك اللحظة اليتيمة من عمر التاريخ. شاهدت الدمع يسيل من عينيها.
- إنّها اللحظة التي لا تتكرّر مرّة أخرى خلال مشوار العمر القصير الطويل، تعالً إلى أحضاني أيّها العجوز.
[/frame]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|