رجاء
[align=justify]رجــــــــــــاء
يلقي الأصيل بظلاله و صفرته على الشارع الطويل الممتد في صمت ، فيحيل لون كل الضياء إلى صفرة فاقعة تارة وباهتة تارة أخرى . يغادر الراضي مقر عمله بالشركة وهو عرضة لأحاسيس متضاربة تتجاذبه دون أن تترك له فرصة التفكير واتخاذ القرار المناسب .
كانت جلسة غير عادية مع رئيسه . في البداية ظن أن الأمر يتعلق بسير الشركة ومدى تفاني العمال في القيام بمهامهم ، وهذا ما كان يمقته ويجعله يتخيل نفسه جاسوسا على زملائه .. لكن الرجل دعاه بلطف إلى الجلوس قبالته ، مقدما له سيجارة لم يستطع رفضها رغم إعراضه عن التدخين .
تطرق الرئيس إلى نواحي عدة من مجالات الحياة قبل أن يتناول بالحديث ابنته المريضة القابعة في إحدى أجنحة أكبر مستشفيات المدينة ، ويحكي عنها بإسهاب دون أن يغفل عن الحديث عما يكنه لها من حب جنوني وعن استعداده لفعل أي شيء في سبيل إسعادها ..
وحين تنتهي المقابلة ، يخرج شاردا و يحث الخطى مسرعا نحو البيت وكأنه يفر من كلمات رئيسه وهي تطارده وتملأ أذنيه طنينا مزعجا . يحس كأنه في حلم ، وحين يلج المنزل ترمقه إيمان بريبة وتسأله :
- ما بك ؟ وما الذي حدث حتى تدخل بهذا العبوس ؟
- لا شيء .. مشاكل الشغل والإرهاق ..
- لا تخف عني شيئا .. أنا أعرفك .
- ربما كان من الأفضل البحث عن عمل في مكان آخر .
شهقت إيمان وهي تضع يدها على شفتيها ، ثم ضربت صدرها براحتها و صاحت به :
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. ما الذي تقوله أيها الرجل ؟ ماذا حدث ؟ .. لم نصدق أنك وجدت عملا محترما بعد مشقة و طول انتظار ..
- طلبات الرئيس لا تنتهي .. لكنها هذه المرة فاقت كل معقول ..
- وما عليك ؟ هو رئيسك .. افعل ما يأمر كبه حتى ولو طلب منك أن ترمي نفسك في النار. نحن محتاجون وليس لنا خيار .
نظر إليها من جديد ثم أطرق وهو يقول هامسا :
- ابنته مريضة .. هل تقبلين بضرة ؟
أطرقت مليا .. انتظر في صمت قبل أن تفاجئه بنبرة غريبة :
- تلك الميئوس منها ؟
- نعم ..
- و هل ذكر لك مقابلا لذلك ؟
حدق فيها مشدوها :
- لم أسأله .. لم السؤال ما دام الجواب معروفا ؟
حقا، كان اقتراح الرئيس مفاجئا له ، لكنه لم يكن أقل رجا لنفسه من رد إيمان وهي تقول ساهمة:
- ولم لا ؟ يمكننا الاستفادة من هذا الوضع مؤقتا ريثما ....
ـ إيمان ؟
لم يدر بخلده قط أن يستجيب لرغبة رئيسه رغم ما أحسه من عطف تجاهه وخاصة تجاه تلك الراقدة على فراش الموت وهي تنتظر أجلها المقترب في سرعة رهيبة . المسكين .. يريد إسعادها في ما تبقى من عمرها الذي صار يعد بالساعات . هو لم يرفض ، ولم يقبل صراحة ، والرجل لم يلح عليه وتركه يفكر . وفي انتظار أن يصفو ذهنه ويتخلص من هذه المتاهة التي وجد نفسه فجأة ضائعا فيها ، يقضي معظم وقته خارج البيت متجنبا سؤال إيمان وإلحاحها المضني، بل وبنظرات الوعيد المتطاير شررها من عينيها . وحين يتعب من المسير يجد نفسه يدلف إلى حجرة المريضة حيث تتلقاه بنظرة كلها أمل رغم الشحوب المرعب البادي على قسمات وجهها النحيل .
هذا المساء ، لا يدري هل هو في حلم أم في غيبوبة .. لكنه سيتذكره جيدا في ما سيأتي من الأيام .. ثلة من الممرضات يحطن بالسرير وقد علا محياهن الارتباك والحيرة ، فتسرع إحداهن إلى إحضار الطبيب الرئيسي الذي يقبل مهرولا صحبة زميل له ويتم فحص ورقة الكشف المعلقة عند أسفل السرير.
يلمس من همهمتهما وهمسهما ونظراتهما يأسا قاتلا رغم الابتسامة الآلية التي يرسلونها نحو الشبح الملقى هناك والذي يبدو أنه يعيش في دنيا غير هاته .. وعندما يخرج الرجلان لا يسمع منهما سوى نفس الهمهمة ، لكن همسه للممرضة التي شيعتهما إلى الباب مصغية لآخر التعليمات لم تفته :
- على كل حال ، هي قضية ساعات . وعند الصباح سيكون كل شيء قد انتهى . اعتني بها ولا تذكري لأحد شيئا ..
ويدخل الأب واجما .. هل أخبروه ؟ ربما ليس بعد ، لأنه جاء مصحوبا بعدلين .. أكان متيقنا إلى هذا الحد من قبوله ؟ .. على العموم ، لن يدوم الأمر أكثر مما فات . وسواء قبل أو رفض فإن ذلك لن يعني له شيئا ، بل ربما سيكون ربحا له .. ثقة وامتنان رئيسه ، ثم شعوره بأنه يؤدي عمله الإنساني كما يجب نحو تلك المسكينة التي تتمسك بأهداب الأمل إلى آخر رمق .. ثم هناك إيمان التي لن يجد أي حرج في إجابتها بما تنتظره منه رغم علمه بما سيسببه لها من إحباط عدم مطالبته للرئيس بشيء .
جو غريب يعيشه في هذه اللحظة وقد انصرف كل إلى حال سبيله .. ورجاء هنا ، في أبهى حلة ، تنظر إليه بوله غلب على النظرة الباهتة .. رجاء ؟ .. هل اختيار الاسم كان مناسبا أم أنه كان مقدرا ليكون مبعث الألم والسخرية ؟. ما الذي ترجوه وما الذي ينتظره الأب المكلوم ، الثاكل عما قريب ؟ .. يحس بيدها تتحسس راحته فيضغط عليها بحنو.. ويشعر بارتعاشتها ..
يبدو الليل سرمديا في هذه المصحة الغارقة في السكون وسط هالة بيضاء من الأنوار الخافتة . يرقب تنفسها بحذر ويخيل إليه في لحظة أنه توقف . لكن النبض لا يتوقف في راحته .. فيطمئن وينظر عبر النافذة إلى الطريق الممتدة في صمت لا يقطعه سوى هدير محرك لسيارة مسرعة .
يبزغ نهار آخر فتعود الحركة إلى المصحة ويتم الكشف من جديد وسط حيرة متنامية . غير معقول .. ما كان مؤكدا بالأمس صار مشكوكا فيه الآن ، والشبح المتنفس في صعوبة صار مقتعدا السرير بينما علا الوجه الشاحب توردا لم يخف على أحد .. وتكثر حركة الخروج والدخول والهمهمة والهمس وتزيد الحيرة .. غير أن رجاء لا تلقي بالا لأي شيء وتفضل أن تحضن راحته إلى الأبد .. لكنه مضطر للذهاب للعمل واعدا الشبح بالعودة .. ويجد إيمان تنتظر وقد أطل من نظرتها توثب ونذير .. - الحمد لله .. ربما سيزول الخطر .. وبعد أيام ستعود الأمور إلى ما كانت عليه ..
- الحمد لله .. لم يعد يشغل حياتنا شيء .. دعنا في رفاهيتنا ورغد عيشنا ، ولنفكر في البؤساء المساكين والمحتاجين لعوننا .. ألا لعنة الله عليك وعلى مبادئك .. بدأت متسولا وستعيش متسولا .. تفو.. هل كان متفائلا إلى هذا الحد أم غافلا عما كان سيحدث ؟ .. ربما كان يتجاهل ذلك .. فها هي الأيام تمر ولا يرى لإيمان أثرا .. بل تصله ورقة يعرف مضمونها سلفا فيستجيب بدون أن يسال أو يحتج .. "كما تريدين .. لكني لن أتنازل عن مبدئي."
تقوده خطواته إلى المصحة بعد يوم من التسكع عبر الأزقة دون أن يأكل شيئا ، ليجد رجاء تنتظره وقد عاد إليها توردها وتسارعت أنفاسها .. فيقضي معها بعض الوقت وباقي الأيام قبل أن يدخل الأب صباح ذات يوم ويخر ساجدا منتحبا ليعلن – كما أخبره الطبيب – أن الخطر قد زال تماما .
جنان النيش : غشت 2013 م[/align]
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|