هنا يا حبيبي أسجل... عرفاني
مذكرات أعجبتني (كتبتها إبنة في حب أباها) فأردت أن تشاركني الدنيا.
وفاءا لعظيم لم يمر بمثله في عمري ..وما أندر العظماء ..ترددت كثيرا أن أحيي سيرته ، فهي حية داخل كياني ، وهي تستحق أن أحييها ، وأحييها ..وبالرغم من ذلك ترددت ، ولخشيتي ، وخوفي أن أبخسها مثقال ذرة من حق ، فأكون قد أنكرت ما لا يليق ، بتقدير ، وإجلال ، لازالا في دمي يضخان في قلبي وروحي.
لا أحد يعرف قدرك مثلي .. فالزهرة تعرف قدر جذورها .. والشمس بالأفق ، تعرف قدر مدارها .. والشجرة تعرف قدر الماء .. الذي رواها ، حتى اشتد ساعدها ، وانتشر ظلها ،
اليوم يا حبيبي ، أعزي فيك نفسي ، وأفترش ذاكرتي أمام ناظريا ، وأستعيد ضحكي ، وبكائي ، وهدوئي ، وشقاوتي ، ويديا الصغيرتين في حضن أصابعك ، وأنسق زهور ملامحك في وجدي ، وأقبل على جبين الخيال صورتك ، وأبدا لن أنسى طابع الحسن ، الذي تركته لي ، منك في الروح ذكرى ، وحياتك لم تغادرني .
رأيته من بعد القوة ، قد أخارت الشيخوخة قواه ، وبدا الكاهل في التهدل رويدا ، رويدا ، وعيناي تتابع كل يوم في حذر ، وحين هدل تماما ، علمت أنها النهاية ، وطامتي الكبرى ، ومصرعي ، وهمست فيك ، يا حبيبي هل أنت مودعي ؟ أما بقي في العمر بقية ؟ وهل تختارك الأن المنية ؟ وعلمت أنك راحل ، ما بقي في الألبوم لنا سوى لقطتان ، وتغلق الحياة في عيني كل الصور ، وقد كان .. ما نفع الحذر ، حتى النظر ، إليك ما أشبعته ، وما شبع من سوى الدموع ، وينابيع القهر ، وغاب عني في غياهب الثرى ذاك الحبيب الذي شبهه يوسف بالقمر ، وهنا سأخبر الورى عنك يا عزيز روحي ، يا فقيد قلبي المنكسر.
شيمتك الصبر .
رأيت والدي في أبهى حلل الصبر يتهادى ، نعم وكيف لا ؟ وقد كان والدي يوما ، أحد اؤلئك الجنود البواسل الذين تصدوا للعدوان الصهيوني ، في الملحمة البطولية بالسادس من أكتوبر من عام ١٩٧٣م ، ورأى من المهالك ما لم يرى ، وما لا تستطيع الخوافق إحتماله ، وكيف لا ؟ وتلك الأعصاب وذلك الدماء إعتصر اعتصارا ، وهو يلملم في كل لحظة أشلاء ، وأعضاء رفاق الكتيبة ، والحلم ، والطريق إلى الحرية ، واؤلئك منهم ، كم تعلم الصبر !! وكيف لا ؟ وهو الطالب ، والمعلم !! وهو اللاعب ، والمدرب !! وهو المريض ، والحكيم في آن واحد .!! كان الصيد في مرحلة أخرى من حياته ، هو سبيله إلى المران على الصبر ، علمني أن الصيد تدريب ، وتهذيب للنفس ، عندما يجلس المريء ملقيا بصنارته إلى القدر ، والنصيب ساعات طوال !! ربما تبدأ من بعد صلاة الصبح ، إلى ما بعد صلاة العصر جالسا في صمت ، وتأمل ، وانتظار لما قد يجود به البحر ، أو قد لا يجود ، أعطي القليل أم لم يعطى ، يرحل عنه متأدبا في كلتا الحالتين ، أخبرني والدي أنه ما كان ينتظر السمك
ليرحل به في سلة السمك ، ليأكل منه لحما طريا ، وطعاما شهيا ، بل كان يشحن الصبر من أقراص الإنتظار الصلبة ، علمني والدي كيف يسمرني الجلد فوق بلاط الموقد بقدم من حديد .
شيمتك الشهامة
رأيت والدي يعود عدوه في مرضه ، ويربت على كتفه متمتما ، بكلمات تحمل معاني الدعاء له ، وطلب الشفاء ، والأجر من الله في أصدق معاني المؤاخاة ، وكأن ذلك العدو بالنسبة له ولي حميم ..ورأيت بالمقابل عدوه قد استشاط من تلك الزيارة ، واهما ذاته بأخذها على محمل التشمت ، والتشفي ..ووالدي يبتسم له ، إبتسامة حنونه تنطق بمعان سامية من التسامح ، والخير الكبير الذي كان في قلب والدي.
وذلك مما أعانني في مواقف حياتي ، علمني والدي كيف أوجه وجه عملي ، نحو إرضاء الله ولو كانت النفس تلمني ..وإن كان الموقف ضد هواي ، ورغبتي.. علمني كيف أسيطر على مشاعر الدونية ، وعدم التقدير ، التي قد يصدرها بعض الناس من خلال الشك ، والمحامل الكثيرة الظنون ، أو إستصغارا ، واستهانة بالعمل الذي يقدم إليهم ، علمني كيف أبتسم وينشرح قلبي عندما تدفع الحسنة بين يدي ، بالسيئة لديهم ، وعندما يدفع الخير بقلبي بشرورهم ، فإنما أنا أعامل إلهي ، وليس البشر ، فأقدم له ، وأنتظر منه ، فإنه كريم، وعطاءه عظيم ، وأجره ليس كمثله أجر ، فذلك ما يحملني على الصبر ، والرضا .. وذلك مما رأيت عليه والدي رحمه الله ..
شيمتك القناعة
رأيت والدي متربعا على عرش القناعة ، والرضا
كم كانت عبارته المعتادة ، يا ابنتي ( نحن الذين إذا شممنا ظهور أيادينا شبعنا ) كان تعبير غريب .. لكنه عميق يحمل بقدر عمقه من معان الرضا ، ما لم يستوعبه إلا الراضون بما قسمه الله لهم من بين عبادة ، قليلا كان أو كثيرا ، ذلك النهر الذي شق بوادي الخلق العظيم ، فترقرت منه جداولا شتى تروي نبت الفضيلة أينما تجلى ، فاشتق لي بستانا به من الزهور فصائل ، وفضائل ما به ..علمني والدي الرضا في أرقى معانيه ..و كيف يتساوى مقداره عند العطاء ، وعند المنع فتتساوى كفتي الميزان ، وهذا الجدول أيضا من ذاك النهر ، الله يحب ذلك العبد الذي لا يفرح بما أوتى ، ولا يأسى على فائت ، ويبتغي بين ذلك سبيلا ، وتلك عبادة لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم ..والحمد لله رب العالمين ..ورحمة وصلاة وسلاما على أشرف المرسلين معلم المعلمين ، ورحمة على من علمني .
يتبع
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|