18 / 07 / 2017, 41 : 06 PM
|
رقم المشاركة : [2]
|
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
|
رد: ندعوكم لقراءة وتقييم النصوص المجازة في مسابقة شهر رمضان المبارك
مطر في الصيف / قصة قصيرة
1-
[align=justify]الوجوه نفسها لم تتغير. والمكان، مبنى جريدة المنار، نفسه. والوقت نفسه.
لم يتبدل شيء، رغم غيابك الطويل.
قلتَ بهدوء، وأنتَ تدخل إلى مكتبك: - صباح الخير.. السلام عليكم يا جماعة.
ورسمتَ ابتسامة عريضة على فمك، ماداًّ يدك على طولهما، متوقعاً كلمة
ترحيب حارَّة. لكنك فوجئتَ بالصمت وباللامبالاة.
وبلهجة خجول عاودتَ قائلاً: - قلنا السلام عليكم.. السلام لله.
الصمت نفسه. وأنتَ واقف بجمود واستغراب وذهول، ويدك في الهواء لا تزال ممدودة.
وارتفع صوتك يائساً، ثم علا، واحتدَّ. وكالمجنون صرختَ: - صياح، راتب،
عصام.. ماذا جرى لكم ؟!
وأخذتَ تهزُّ كلاً بمفرده، وأنتَ تدور في كل اتجاه: - ماذا جرى ؟!
أخبروني ! أخبروني !
الصمت والسكون حليفان ملحاحان، وأنتَ تعارك الهواء بمرارة وصبر.
وبأسى سحبتَ مقعدك وجلستَ خلف مكتبك، وأنتَ على غاية من الألم.
كان فكرك يدوي. وشيء كدبيب النمل اعترى ساعديك، فأخذ ينتقل إلى جسمك خدرٌ
خفيف؛ فأحسستَ بالتعب وبالإرهاق، وبالحاجة إلى الدموع.
ماذا جرى ؟! هل أنت تحلم ؟!
لقد غبتَ طويلاً. وتوقعتَ بعودتك تغييراً جديداً. لكنَّ هذا الجمودَ ما
معناه وما غايته ؟
وهرشتَ رأسك المربع، وعضضتَ أصبعك، وخبطتَ يدك على الطاولة المهترئة،
فتطاير الورق، والكل لا يزال صامتاً لا يريم !
ماذا تفعل ؟!
ونهضتَ متثاقلاً، وغادرتَ المكتب، والمبنى يدٌ تضغط عليك، وتخنقك، وتغتال
جميعَ أنفاسك.
كانتْ قدماك تجتازان الممر الطويل باتجاه غرفة رئيس التحرير. وبهدوء
طرقتَ الباب ودخلتَ.
: ـ السلام عليكم أستاذ محفوظ.
.. .. ..: ـ
عدتُ البارحة مساء، وأنجزتُ خلال غيابي مسرحية وعدة مقالات. : ـ
.. .. ..: ـ
: ـ عفواً أستاذ.
.. .. ..: ـ
هو الآخر صامت، يحدِّق بالفراغ:- عفواً.. هل هناك شيء يشغلك !؟ كأنك لم تسمعني !
.. .. ..: ـ
لم يجب. فتقدمتَ نحوه، ولوَّحتَ بيدك أمام وجهه. ثم هززتَ جسمه المكتنز
بعنف. ولمَّا لم يتحرك، صفعته بقسوة، وركلته بغيظ، ثم بصقتَ عليه بقرف..
وظلَّ جامداً لا يريم !
رباه.. لابد أنَّ شيئاً ما حدث للناس والأشياء من حولك ! بل لابد أن يكون
وباء قد انتشر في أرجاء المبنى كله !
ما لهم ؟! ولماذا يتجاهلون وجودي فلا يلتفتون إليَّ ؟! هل جميعهم لا
يراني !.. تباًّ للجريدة ورئاسة التحرير والصحافة.
ونزلتَ درجات المبنى مشياً متعثراً، وأنت تلعن، وتدمدم، وتبصق، وتكلم
نفسك بصوت عال، وجسمك كله يرتجف.
كان الوقت صباحاً، والجو خانقاً، والأرصفة تتثاءب، وجمْعٌ من الموظفين
والباعة وطلاب المدارس ينتشرون على طول الشارع وزواياه.
ومشيتَ دونما هدف، وبلا غاية. وتخيلتَ أنك صرتَ صفراً، أو عدماً، وأنك في
حلم سخيف لا تزال.
هل يعبثون معي !؟ ورئيس التحرير !؟ والبوَّاب !؟ وزملاء المكتب !؟
رباه، أتراه يكون كابوساً مروعاً لا يحتمل !؟
أحقاًّ يحدث ذلك ؟ ولمن ؟ لي أنا ؟! لماذا ؟ لماذا ؟!
وأغمضتَ عينيك للحظات، وقاومتَ بدء انهيار أخذ يعروك.
أريد أن أبكي. أفجر نحيبي عالياً. أصرخ عالياً. أزعق عالياً. أصيح
عالياً. أولول. أئن.
نعم.. أنت تئن، ووجعك يزداد.
ما زلتَ تمشي دونما غاية. والوجوه والطرقات تتابع. ومنزلك يحبو من بعيد.
المنزل ؟! آه ه.. الراحة والاطمئنان والدفء.
ستخبر زوجتك بكل ما حدث. وستحدثها عن الوباء في مبنى الجريدة، بل عن معنى
الألم. وببساطة ستفتح ذراعيها وتطوقك حانية، وتمطر وجهك بقبلات دافئة,
وبصوت مشجع ستقول لك:ـ يغارون منك ! لا تبتئس.
وفتحتَ الباب: ـ فاتن.. فاتن !
وهمستَ وأنتَ تدلف داخلاً: ـ ربما لا تزال نائمة.
وتوجهتَ إلى الصالة, وصوتك يردد: ـ فاتن.. فاتن !
ثم دخلتَ إلى غرفة النوم، فابتسمتَ بنشوة، وقلتَ بابتهاج:ـ ما بكِ ؟ ألم
تسمعيني يا حبيبتي ؟!
زوجتك أمام المرآة تتزين.
فاتن.. فاتن. : ـ
كنتَ تقولها بإحباط.
حتى هي ؟! لا.. هذا مستحيل !
وبقوة اليأس، وبخيط أمل ضئيل، اقتربتَ منها وأنتَ تبكي: ـ قولي شيئاً يا
حبيبتي ! أنا زوجك كامل ! ألا تشاهديني !؟ ألا تسمعين صوتي ؟! انظري إليَّ
ملياًّ ! يجب أن تريني ! يجب أن تشعري بي !
كانت صنماً. صورة. شكلاً. فأجهشتَ بالبكاء، وغادرتَ المنزل وأنت تنتحب.
كان بكاؤك عالياً. صاخباً. وغصة قوية تدمرك وتزلزلك. وشعرتَ باللاجدوى والعدم.
أنا لم أبك منذ زمن.. كنتُ أكره البكاء وأعتبره ضعفاً. لكنني الآن أجده
ملاذي الوحيد، ومسلاتي الوحيدة، ومهنتي الوحيدة الجديدة.
لا أحد !
أشعر بالخواء وبالفراغ.
الناس أمامي أطياف حالم..
والأفكار ! الأفكار ؟! ما فائدة جميع الأفكار التي آمنتُ بها وتمثلتها
وهي عاجزة الآن، في كل صيغها، عن مساعدتي ؟! وما قيمة قراءاتي وصوري
ورحلتي الطويلة ؟
هل ابتعدتُ كثيراً، فلم يعد أحدٌ يراني !؟
أين الناس ؟! أين قرائي ؟! وكيف سأستطيع العيش بمفردي ؟!
الوحدة شتي قارس، وصقيع قاتل يوخز عظامي.. أشعر بالبرد، وبالتعب،
وبالجوع، وبالفراغ.
وعاودتَ البكاء. والطريق حية تنساب أمامك بلا نهاية. والناس والوجوه
تتطلع بغباء وتتكلم بغباء وتسير بغباء، دون أن يراك أحد.
وتعبتَ.. تعبتَ كثيراً.
وفي حديقة عامة جلستَ على كرسي دون أنيس.
كان ثمة نسوة يتحادثن في الطرف المقابل، وشاب وفتاة غارقان في حديث اللذة
بركن قصي، وطفل مع أخيه يلعبان الكرة.
ليتكَ بقيتَ طفلاً.
: ـ هوووب.. ارم جيداً يا (باسم).
قالها الطفل لأخيه ووجهه يتصبب عرقاً وتراباً وبراءة.
ورمى أخوه الكرة، فطاشتْ بعيداً.. فنهضتَ بعفوية، وأمسكتَ الكرة: ـ تفضل
يا بني. : - شكراً يا عمي.
: ـ ماذا ؟! (قلتها بدهشة وسرور).
: ـ قلتُ شكراً يا عمي !
وبحب العالم كله، رفعتَ الطفلَ عالياً بذراعيك، وغمرته بقبلات الأنس: ـ
أنت تراني ؟!
كان الطفل مدهوشاً، ..أنيساً.. وادعاً، وما زال بين يديك وادعاً لا
يتذمر: ـ نعم يا عمي.. أنا لستُ أعمى !
وأنزلته برفق على الأرض.. وتركتَ ساقيك للريح. وشعرتَ أنَّ الدنيا تمطر
وتبكي وتزغرد طويلاً طويلاً.[/align]
|
|
|
|