18 / 07 / 2017, 08 : 08 PM
|
رقم المشاركة : [8]
|
مديرة الموقع المؤسس - إجازة في الأدب ودراسات عليا في التاريخ - القصة والمقالة والنثر، والبحث ومختلف أصناف الأدب - مهتمة بتنقيح التاريخ - ناشطة في مجال حقوق الإنسان
|
رد: ندعوكم لقراءة وتقييم النصوص المجازة في مسابقة شهر رمضان المبارك
راشيــــــــل / قصة قصيرة
5-
[align=justify] الظلام حالك ...أين أنا... ما هذا الخواء ...الفراغ... الضياع... ؟ ! أين جسمي تراني فقدته ؟! هل هناك من يسمعني ؟أبي ... أبي... هل أنت هنا؟
- نعم يا صغيرتي أنا هنا. وهذا البابا جاء كعادته ليطمئن عليك.
- بم تشعرين يا بنيتي؟ : يردد البابا في سكينة
- أشعر أنّ الحزن يسترسل بداخلي. أبتِ.. أنت من قلت انّ النفس تُدنس كالجسم، ويجب أنّ تطهر بين الفينة والأخرى، إني آمنت بما جاء في الكتاب المقدس، لذلك استسلمت للحزن وجعلته يقيم عرشا بداخلي, علَّه يدّك بأحذية جنوده سنابل الذنوب المعششة في أوكار نفسي !
- ولكن صغيرتي أيُّ ذنب اقترفت..!؟ فأنت لم تغادري بعد أكمام الصّبا ولم تلفح جبينك خيوطُ الشّمس. يَنحني يُقبل جبيني برفق ويضيفُ: يا ملاكَ الرحمة لطفا بنفسك.
- أبتِ.. ابقَ إلى جانبي لقد تسربت إليّ منك رائحةُ الإيمان (وبصوت حالم ): كم اشتقت إليه.
- ولكنك يا صغيرتي مؤمنة .وكنتِ تؤدين الصلاة كما أخبرني والدك في الكنسية كلّ يوم أحد.
- هل يكفي الإيمان؟ قلت:
- لا، ولكن تزكو النفسُ بالطاعة.
- ما هي أبوابُ النّفس أبتِ؟
- السّمعُ والبّصرُ واللّمسُ والفُؤادُ.
- وبِما أُحصِّن هذه الأبوابَ ؟
- بالجمال.. يا صغيرتي راشيل.
أردد في نفسي: بالجمال يا صغيرتي راشيل !
يباغته صوتي: أبتِ.. هل يمكن أنّ تُعطيني عنوانَ الجمال حتى أُراسلَه وأستسمحَه أنّ يحلَّ ولو ببعض الوقت عندي.
خِلتُ أنّ سؤالي عن الجمال قد أرْبكَ الشعيراتِ البيضاء المسترسلة من ذقنه، فراح يُهدئُ من روعها ويداعبها بيده في رقة تذكرني برقة كفيه ساعة تعميد أحد المواليد. في اللحظة ذاتها يتحولُ بناظره إلى والدي. كان والدي يجلسُ في صمت تحت رجليّ. وقد بدأتْ فصولُ الخوف المطلَّة من عينيه ترتّلُ آياتِ الأملِ عسى أن ينجح البابا في إيقاظ الحياة بجسمي المنهوش على فراش العافية. وما إن التقتْ عيناهما حتى قال أبي: ألمْ أُخبرك أبتِ.. أنّ الشياطين تسكنُ جسدَ صغيرتي. !
تحيلُني نبراتُ صوت أبي إلى تلك اللحظاتِ حين كنت أحضنٌ أحلامي الزاهيةَ ببيروتَ، قبل أن تتعرى من ألوانها. هناك في غرفتي الصَّغيرةِ التي كانتْ تضمُّ إلى جانب سريري مكتبا وخزانة وأغراضا أخرى ظللت أحتفظ بها من عهد طفولتي، عهد لم أستطع أنّ أنعتق منه لما يحتفي به من دفء وحبّ وألوان العطاء.
عندما بدأت نسائم الشباب تتسلل إلى مخدع صباي غيرت أمي سريريّ الصغير بآخر لا يختلف عنه في التفاصيل، فقد أسدل عليّ من الجهات الأربعة ستائر من دونتيل حينما سألت أمي عنها قالت: حتى تحجب عنك كلّ ما يشوش راحتك. وكنت عبرها ألتقط أنفاس الياسمين وعبق الورد المتسرب تحت أجنحة الليل وأردية النهار. كانت حديقة بيتنا تحفة. كثيرا ما نثرت أمي عليها من لمساتها الجمالية وغذت انتقاء أنواع حياضها بأنوثتها قبل رحيلها، ولم يستطع والدي أنّ يتخلص من سحرها وفاء لعهد والدتي. فكان يقضي الساعات الطوال في تقليب تربة الأحواض لتجد الورود متنفسا لها، كنت أراه ينحني عليها كلّ صباح يرعاها بيدّ العناية ويسقيها بيد الحبّ . حتى أني اتخذتها في بداية طفولتي غريمة تشاركني حب والدي .وأنا أراه يسترق الهمس للورد والنظر للفل . حتى إذا ما أثمله سحرها مال يداعب أوراق شجرة اللبلاب وهي تختلس في صمت التسلق إلى مختلف نوافذ البيت. فإذا ما فرغ منها عاد يلاعبني ويوصيني فيقول: راشيل ابنتي اتّقي الربّ والتزمي شريعته من أجل أنّ تحظى صغيرتي بجنته.
فأسأله: كيف هي الجنة يا والدي؟ يبتسم ويضم يدي الصغيرة وينتقل بي إلى الحديقة ويسألني: هل تعجبك حديقتنا؟ أومئ له بإشارة من رأسي بالرضا عن سؤاله، فيرفعني فوق أحد الكراسي المصففة هناك وبعد أنّ يضم وجهي بين يديه يجيبني: جنة الربّ مثل حديقتنا يسكنها الجمال فقط، فكوني جميلة كالورد، فائحة العطر كالفل حتى إذا ما غادرت الحياة بعد عمر طويل ... يتوقف فجأة كمن يطارد فكرة بكر ثم يسألني باهتمام بيٌن: هل يمكنك العيش يا راشيل خارج أسوار حديقتنا؟ أحرك له رأسي يمينا وشمالا بوجه قاطب إشارة بالرفض. فيطمئن على وقع جوابي ويضمني بكلتا يديه إلى صدره وهو يضيف: إذن حتى إذا ما غادرت الحياة بعد عمر طويل، طويل سكنت نفس الحديقة عند الربّ.
وأنا أتخطى عتبة الصبا كنت أسأله إذا ما كان كلّ الناس في مختلف أنحاء الأرض لديهم حدائق. وهل من وسيلة لحملها معهم إذا ما انتقلوا إلى العالم الآخر فكان يجيبني: الجميل من الناس فقط يا صغيرتي، يسعى أن يحمل معه حديقته ! وأسأله: وأمي..؟ لقد كانت جميلة جدا، وكانت تعتني بالحديقة كل يوم، لماذا لم تأخذها معها؟ كنت أشعر أنّ سؤالي عنها يفجر بداخله أحاسيس لم أكن استطيع أنّ أفهم كنهها بعد، لكن كنت أشعر بقوتها من شدّة ضمه لي، فينزلني على رجليه ويضم رأسي الى صدره وهو يقول: إنّ أمّك يا راشيل تنعم الآن في حديقة أجمل من هذه، هي بانتظارنا وبعد عمر طويل جدا سنلحق بها، ونعيش ثلاثتنا مع بعضنا.
كنت أحضن أحلامي الزاهية حين انبعث صوت والدي من أعماق ظمأى إلى آبار الأمان، فتسللت عبر نبراته أنياب تنهش أروقة نفسي . وغيوم تطارد لون الزهر في غرف ذاكرتي حين سمعته يردد: الموت يزحف نحو بيروت يا راشيل ... استفيقي يا صغيرتي ... علينا أن نرحل قبل وصوله ......اجمعي الضروري من اللباس... هيا أسرعي يا راشيل ..
استطعت أن أستجمع من بين جمله المبعثرة أن القصف طال بيروت. فقد صحوت مند يومين على صوت القنابل وهي تزرع حقدها على صدر الجنوب لتيتم الجمال فيه. انتفضت من نومي أفرّك عينيّ، محاولة التخلص من ربقة الكابوس، أفتش بين أروقة نفسي عن أشيائي الجميلة الفارة من أصوات القذائف التي أخذ دويّها يمزّق كبد السّماء، فينسل الصباح هاربا خلف صفارات الإنذار. مزيج من الأصوات يبعثر إرادتي. فيجعلني ألتف حول نفسي، وقد تمكن الخواء من قوتي, وفضح الاستسلام أطرافي، وما إن داهمني الفراغ . و أخذت أغيب تحت وطأة ظلام دامس حتى رأيت والدي يدخل غرفتي.يحتضن سقوطي وهو يردد: راشيل صغيرتي. ماذا حدث؟ ثمّ رأيته يضمني ويبكي قبل أن أغيب في عالم أسود.
كان أبي يظن أن الحرب قد فرّخت دمارها بداخلي، فراح يمنيني ويده تمتد بين خصلات شعري تداعب فروة رأسي.رغبة منه في أن ينقل إليّ الإحساس بالدفء و يحصد مزارع الخوف التي بدأت تنشب أظافرها في ساحات نفسي. راح يهمس في أذني . إن الحقد الصهيوني الغاشم لا يستطيع أن يلمس شعرة مني وأنه على استعداد أن يفديني.
مسكين أبي لا يعلم أنه يحميني من الموت بالموت! لا يعلم أن روحي زهرة لا تختلف كثيرا عن أزهار وورود البيت، كالفل المغروس هنا وشجرة الياسمين التي تطل من هناك.إن جذوري لموغلة مثلها في أعماق التربة، وان آمالي ممتدة كامتدادها نحو الشمس.فكيف بالله يسألني الرحيل ؟
آه كم أحنّ إلى ذلك العهد , وإلى عرائسي التي كان يستهويني تصفيفها في ساحة الدار، ثمّ أقف إلى جانب سبورتي الصغيرة وبفرع شجرة اللبلاب أفرض السكوت في الصف حتى أتمكن من تقديم الدرس. كنت أوصي عرائسي فأقول: لا تنسوا يا أطفال أنّ لبنان جوهرة العالم وقلب الوطن العربي. إنّها الرئة التي تتنفس منها الأرض، فالأرض – ثمّ أضرب برجلي بقوة – من هنا من لبنان تتنفس. أتكون يدّ القصف المجرمة قد طالت ذاك الصندوق حيث تنام عرائسي بسلام؟! وهل آلمها انشطارها تحت الصواريخ العنقودية؟ أم تراها قد تألمت أكثر لأني خلفتها ورائي؟
يقطع الراهب شريط ذكرياتي حين يسألني وهو يتلمس برؤوس أصابعه طرف القبعة المستطيلة الشكل التي تعلو رأسه فيقول: راشيل ابنتي لم لا تسمحين لوالدك أنّ يشقّ عبر ستائر الغرفة طريقا للنور حتى تنعم به صغيرتي ؟ فالنور نعمة من نعم الربّ. أجيبه وقد بدأ عالم السواد يطاردني: أبت ما فائدة النور هنا وبلدي يعيش تحت نير العدوان ؟ أبت لم لا تسأل الربّ - وحضرتكم أقرب إليه منا- أنّ يرحمنا من جحيم بني إسرائيل وأنّ يخسف بهم الأرض؟ أليسوا شرا على العالم؟ والربّ لا يرضى أن يعذب عباده المخلصين. أبت قل له أني لم أقترف ذنبا ولا أبي ولا ... (رغم صعوبة تنفسي الا أني أضيف) : ولا جارتنا الخالة زينب ولا ابنتيها "عفاف" ولا "لآلئ" ، ولا جارنا "جوزيف" ولا ابنه "مارسيل" كنا نعيش في سلام قبل العدوان الغاشم.
- صغيرتي لا تشغلي فكرك، فهذه حكمة الربّ. يقول الربّ في الإصحاح السادس والعاشر والتاسع عشر من إنجيل متى:« ... لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ...(إلى أن يقول): ولكن اطلبوا أولاّ ملكوت الله وبرّه وبهذه تزاد لكم فلا تهنوا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه».
- أتقول أنها حكمة الربّ أنّ تضرب حديقة بيتنا، وأنّ يفسد القبح كل مرايا النفس وإنّي لأتساءل: بم سنقابل الربّ؟. أ بأعين تملأها صور الدمار والخراب؟ أم بأنفاس ملوّثة من رائحة تعفن الأجساد؟ أم بآذان طوقتها صفارات الإنذار؟ إنّ القبح أفعى قد فرخت ترياقها في كل زاوية من زوايا النفس.
- صغيرتي الربّ عليم بعباده. فهو يدرك مدى جمال عينيك وطهارة أنفاسك وعذوبة سمعك ورقة ملمسك. إنّما سيعاقب الطغاة. اسمعي قول الراهب الجليل "سافونا رولا" يصف أخلاق الطاغية فيقول: «إن الطاغية رجل من أكثر الناس شرا...وهدفه تعطيل أهم مقوّمات الفضيلة ألا وهي الإرادة التي تحقق جمال الذات وخيرها وتفوقها».
- أردد في نفسي: الإرادة التي تحقق جمال الذات وخيرها وتفوقها. إذن أنا لا أستحق الحياة فقد فقدت إرادتي وانهزمت في بداية المعركة. أنا لم أخسر معركتي في لبنان، لأن لبنان لها جنودها وفرسانها ولها الله. أما أنا فقد خسرت معركتي مع نفسي حين سمحت للحزن أنّ يطوّقني وللخواء أنّ يحتويني. بيروت لم تكن سوى كذبة في حياتي، لأني لم أومن بها وإلاّ لقدستها كما كان يقدس المجوس النار، تحرقهم ولا يطفئونها. أنا أطفأت بيروت بداخلي حين استسلمت للخواء. فمن تعرى في الحرب مرة لا يؤذيه أنّ يسير على الدّرب عاريا.
آه ... لهذا الشرخ الذي استوطنني وثبّط عزائمي واتّخذ من الصدمة شفيعة لي. لا ... لا أريد لشيء أنّ يشفع لي، فأنا لا أستحق الشفاعة، خنت مرة نفسي عندما خنت الإنسان في . وعلى أرض الجنوب كان لي فيه ألف مثال، وخنت نفسي مرة أخرى حين جعلت من أنوثتي مشجبا علقت عليه ضعفي، وأنا أعقل تماما أنّ الحبل لا يتحقق إلا في أحشاء التاء.
لمن أشكو جرحي؟ ومن يكون شفيعي؟ بالأمس لم أستطع أن أكون في بيروت . واليوم لا أستطيع أن أحقق ذاتي، فكيف لي بعدها أن أطمع أن أصلي في محراب الغد؟ كم كنت غبية حين آمنت أن نشوة الانهزام يمكنها أن تخدّر الجرح في الأكفان، وتطفئ لهيب الدمع في الأجفان، وما كنت أدري أن نشوة الثأر أقوى من صهيل الموت...هناك من يفسد عليّ خلوتي ... صوت من هذا؟ إنه يردد الموت... الموت مازال يطاردنا... إنه صوت الغجرية، تلك المرأة التي قابلتها قبل سنوات.
كانت امرأة في مقتبل العمر، حلوة في سمرتها كحبة التمر، تلف جسدها في لباس أسود لا يظهر منه إلاّ الوجه و الكفين، تغطي رأسها بوشاح أسود، تحكم قبضته عصابة خضراء، رُبطت عقدتها إلى الخلف، وقد زيّن وجهها وشم على الخدين وبين العينين. تقلّب بيديها خرزات فوق حفنة من الرمل. جذبنا إليها صوتها وهي تردد: الخرز يقرب لبعيد ويكشف لمليح ولقبيح. قرب... قرب... نشوفلك حظك يا سعيد.
ثم راحت تهلل لرؤيانا وكأنها رأت البدر في ليلة ظلماء. وقد استمالني وجهها المشرق، أما صديقتي "ماريا" فقد استحسنت تشبب الغجرية بجمالنا حين قالت مشيرة إلى كلّ منّا:
« الزيـن هـون، والحســن هـــون. والخرز يقدر يطل على المخبي والمدفون. أنظر شوف ها الزين، ما رأت عيني مثلو من سنين. وردتين كل وردة لها من الزين ما يغني. حاجب وعين. وتبارك الله عـل الخدين» . ما إن رميت قطعة نقدية على خرقة سوداء كانت تبسط راحتيها قدّامها, حتى راحت بيديها تقلب الخرز على أكثر من وجه, ثم رفعت رأسها تتأمل وجهي و هي تقول بصوت حزين: « مغبون العمر المحفور بالوجع. اليتم ذقناه وحنا صغار. والمُوت ... المُوت مازال يطاردنا». خدشت كلماتها عذرية نفسي، فهلعت إلى البيت أحتضن وجعي، وقد تمكنت المخاوف من قلبي، والهواجس من نومي، وافترست الظنون عافيتي، ففقدت شهية الطعام. كانت الأيام تقلب وجعي على وجهين.
وجه يتمثل في خوفي من ان يموت والدي ويخلفني ميراثا للوحدة واليتم . وآخر يشتعل في صدري إذ تسببت في حيرة والدي الذي ما استطاع قلبه الحافي أنّ يصبر على أشواكي وهي تستفحل يوما بعد يوم . ولمّا حاصرته الخيبة في حضن الكتاب المقدس.رمى بي في أحضان القرآن، في بيت جارتنا أمّ عفاف.
مكثت في بيت الجارة أتظلل بنسائم إيمانها وأصاحب ابنتيها.و اذ بنفسي تعرج في عوالم السكينة حيث استعدت ثقتي بنفسي.قالت خالتي أمّ عفاف: الغجرية يا صغيرتي راشيل لم تطلع على الغيب.فالموت بالفعل تطارد كل نفس. إنّ الله يقول في محكم تنزيله:«كل نفس ذائقة الموت». فما الجديد الذي حملته إليك الغجرية ؟
- الظلام حالك ... أين أنا...ما هذا الخواء ... الفراغ ... الضياع... أين جسمي تراني افتقدته ؟ هل هناك أحد يسمعني... أبي ... أبي؟
- نعم يا عزيزتي راشيل أنا هنا إلى جانبك.يأتي صوت أبي، يحضن فراغي , ثمّ يضم يديّ بين يديه ويقبلهما وهو يواصل: صغيرتي لا تخشي شيئا، فالبابا أبى أنّ يغادر البيت حتى تعودي من غيبوبتك.
-الحمد لله على سلامتك يا صغيرتي، بمَ تشعرين؟ هل لديك رغبة في الطعام؟ قال البابا:
- لا يا أبت لا أريد غذاء للجسم الفاني . إنّما أريد غذاء للروح، فهلا دعوت واقتفيت أثرك في الدعاء.
-نعم يا صغيرتي. جاء في الكتاب المقدس المزمور السادس: «يا ربّ لا توبخني بغضبك ولا تؤذني بغيظك، ارحمني يا ربّ، لأني ضعيف اشفني يا ربّ لأن عظامي قد رجفت ونفسي قد ارتاعت جدا...
شعرت بالبابا ينحني علي يقبل جبيني .يباركني، وبعدها أحسست بوقع خطاه وهي تغادر المكان، تبتعد
تخلفني بلا حراك لعالم السواد.
الظلام حالك ... أين أنا... ما بال ذاكرتي لا تسعفني ... ما هذا الخواء ... الفراغ ...الضياع... أين جسمي... تراني افتقدته ...؟ ما هذا الألم الذي يشق ظهري ... أي ...أي... إلاهي ...ما هذا الألم...؟ هل هناك أحد يسمعني ... أشعل مصباحا أو شمعة ... لا أحد هنا ... أين ذهب والدي... أبي ... أبي... ما به
الظلام اليوم شديد على غير عادته ... أي ... من يحفر بظهري ... أي ... أي
- ارفعي رأسك يا راشيل. جاء صوت إحداهن :
- أنا لا أستطيع ألا ترين أني قلبت على وجهي!
- أعلم لكن انهضي، ابذلي جهدا بسيطا وستنجحين.
- أي ... أي... إلاهي ... ما هذا النور الشديد، أبعديه عن بصري . فأنا لا أستطيع أن أرى.
- افتحي عينيك الآن، قد مال النور إلى الناحية الأخرى. والآن أنظري إليّ هل عرفتني؟ من أنا؟
- أنت؟ أنت.. عفاف صديقتي أضمها بقوة إلى صدري ثم أعود وأدفعها بيدي إلى الخلف وأنا أسألها: أين بطنك؟ لقد كنت حاملا قبل أنّ نغادر بيروت؟ هل وضعت؟ وماذا أنجبت؟ وأين ابنك؟ ...
- اصبري يا راشيل قليلا، وسأقص عليك القصة. اجلسي أولا.
- أين؟
- هنا!
- على الأرض؟
- ألم تتخذي قبل قليل هذا السندس مطرحا لك؟
- بلا. ولكن الآن بي خشية من الزواحف والحشرات.
- لا تخشي شيئا ألم أعلمك أنّ لا مريد إلاّ هو؟
ينشرح صدري لحديثها فأجلس أصغي إليها .قالت عفاف : بعد أن رحلت مع والدك إلى الحدود السورية بيومين. قصف العدو الصهيوني الغاشم حي بئر العبد في الناحية الجنوبية لبيروت. فتهدمت كل البيوت ولم ينج إلاّ القليل من السكان! أقاطعها: قد علمنا بذلك، فآلمني أنّ أسرتك رفضت الرحيل لكننــا( أنا وأبي) كنا مضطرين إليه. خاصة بعد النوبات التي أصبحت تجتاحني بين الفينة والأخرى فتفقدني الوعي، لذلك رأى والدي أنّ يحملني إلى حيث يستطيع مداواتي لكن هيهات! وماذا عنكم قصي عليّ بالتفصيل أخباركم؟:
- إنّ قوة الانفجار ألقت بأمي المسكينة وأختي لآلئ وكل من كان في البيوت على بعد مسافة بعيدة، وقد نجا البعض منهم بأعجوبة. ولو كنت معهم لمت نظرا لثقلي فأنت تعلمين أنني كنت حاملا. فقد شاءت الإرادة الإلهية أن أكون بعيدة هناك في بيتي المتواجد شرق العاصمة.
- أسألها: وأين سكنت خالتي أمّ عفاف وأختي لآلئ بعدها؟
- لقد اتخذنا أنا وأمي ولآلئ والعديد من الناس المركز التجاري " بيروت مول" المتواجد بالقرب من منطقة الأشرقية شرق العاصمة مأوى لنا، أما زوجي "أحمد" فقد انضم إلى صفوف الجيش في الجنوب من أجل التصدي للزحف الإسرائيلي على أراضينا.
- كنت أعلم أنّ زوجك بطل. ثم ماذا عن القصف ؟
- لقد ظللنا أكثر من شهرين والقصف أعمى كقلوبهم . يتحرك في عشوائية منظمة. يستهدف البيوت والجسور والمكاتب والمصانع... فكان حقدهم يزحف كالأفعى على بطنه ليعض بأسنان المنون على أوردة الحياة. فيفجر أنابيب الغاز ويقطع التيار الكهربائي ويأسن المياه الجارية. (تسكت برهة ثم تضيف): أخبريني ماذا عن الألم الذي بظهرك هل خفّ وطأه؟
- نعم ولكن انظري (أدير لها ظهري) وكأني أشعر أن فراشة جعلت من ظهري شرنقة. وقد عذبتني قبل أنّ يطلق سراحها.
- ... -... - ... لا تجيب
- ماذا ؟ (التفت إليها) لماذا لا تقولين شيئا؟.
- تغير عفاف مجرى الحديث فتسألني:ألا تشعرين برغبة في الطعام؟
- لا. ولكن أخبريني أين نحن؟ وما هذا الضياء الشديد؟ كان قبل هنيهة ظلاما دامسا لم أستطع أنّ ألتمس جسمي فيه. (أنتفض من مكاني كمن يطارد فكرة وأواصل): تذكرت لقد كنت مريضة. أترين يا عفاف لقد شفيت. أشعر بالعافية تدبّ في جسدي.أتطلع بفرحة إلى جسدي القوي بينما راحت عفاف تسألني:ماذا لو نحطّ على تلك الربوة؟
رفعت رأسي حيث أشارت وقلت: إلاهي... ما هذا الجمال؟! ولكن الربوة بعيدة. سمعت صوتها يبتعد وهي تردد: افعلي مثلي! أنظر إليها فأجدها ترتفع عن الأرض!؟
ويأتي صوتي مذهولا:ماذا...؟ عفاف أنت تطيرين. لديك جناحان!
- وأنت أيضا حاولي.
- ماذا...؟ ماذا...؟ عفاف أنا أطير! أنا أطير! الحمد للربّ. يا إلاهي ... يا أ الله ... ما هذا الجمال ...إشراق ... خضرة... أزهار... زنابق... الفلّ الذي يحبه والدي... أشجار السروّ ... أسمع خرير المياه يا عفاف...انظري هناك إنها جداول...ومن هنا ظلال وفيرة...(واستدرك :
- عفاف توقفي. أخبريني أين نحن؟
- اتبعيني حتى نصل الربوة. ثم إنك لم تسأليني عن ابني؟
- سألتك و لم تجيبي!
- ابني تركته هناك على الأرض ترعاه أمي. أما أنا فقد مت أثناء ولادته. توقف الدهشة طيراني فأهوي. وأسفل مني أرى غابة تكاثفت أغصانها. أغمض عينيّ وأصرخ:
- عفاف. انجديني. في الظلام الدامس تتناهى إلى سمعي ضحكاتها وهي توصيني أنّ أحرك جناحيّ. فلما حركتهما شعرت بجسمي يرتفع ويتوازن من جديد . فمضيت أقتفي أثرها في صمت إلى الربوة حيث وجدتها جالسة على أريكة رخامية لم أر مثلها في حياتي، وعن شمالها ويمينها غلمان يخدمونها حيث بثت الزرابي. وصففت النمارق . ورفعت أسرّة من عاج. ونظمت موائد من زمرد. عليها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!.
وقفت إلى جانبها في استحياء . وسألتها في همس عن صاحب المكان. إذ دخلناه في غيابه فابتسمت وردت: هذا مقامي عند ربيّ . ألم يعدنا في كتابه الحكيم بقوله: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له» أشعر بالخوف ينشب أظافره في صدري .ولا أستطيع أن أقاومه . فأسألها بصوت الرجاء: وماذا عني؟
ابتسمت وهي ترد: اطمئني. فإن لك مكانا حتما طيبا. لأن الله لا يظلم مثقال حبة من خردل وأنت قد كنت أمة صالحة . لا تغفلين فرضا وامرأة عفيفة لم تقربي دنسا. فهو القائل:«وما ربك بظلام للعبيد». وقد أُمرت أنّ استقبلك هنا عندي في انتظار أنّ يُحدد مقامك. والآن أخبريني: هل أعجبك بيتي؟.
أبتلع لعابي وأنا أجول بعينيّ في أرجائه الممتدة على مدّ البصر. وأهمس في نفسي: هذا الحسن وتسألني إذا ما كان قد أعجبني؟
يباغتني صوتها: أسألك إذا ما كان قد أعجبك لأنّ بيتي هذا هو من أبسط البيوت. ماذا لو اطلعت على من حظوا بالقصور والجنان؟! استدرت إليها والدهشة تسبقني:
- كيف عرفت يا عفاف ما دار في نفسي؟.
- أنسيت أننا في عالم شفاف. محظورة فيه الستائر. أقرأ ما في نفسك وستقرئين ما في نفسي بعد أنّ يقضي الله في مقامك. وأستطيع أنّ أخبرك أنك الآن تودين معرفة مكان والدتك.
- هذا صحيح. هل يمكنني ذلك؟
- نعم يمكنك لكن بعد أنّ تُعطي مقامك. اطمئني فهي تنعم بحياة طيبة , في بيت يشبه إلى حدّ ما بيتي الذي ترينه. تأخذني الفرحة فأضيف:
- حقا لها أنّ تنعم بذلك. فقد اختارت مأواها هذا في دنياها. فلها أنّ تحظى بالجمال فقد كان خيارها. مازال صوتها يتهادى بين مسمعي وأنا في الربيع السابع توصيني فتقول:«راشيل صغيرتي. كوني مع الله يكن معك». أه لو تدرين يا عفاف كم أسقطت عني الكثير من الهموم. ولكن ما حال أهلنا هناك؟.
- لا أخفي عليك أنّ الوضع مأسوي. نكبة إنسانية بل قولي: هيروشيما الشرق الأوسط. لقد سيروا ذاك العمار إلى كثبان من الخراب. وذاك التناغم الجمالي في العمران وفي الأنفس وفي الأدمغة إلى أطلال. إنّ الآلة الصهيونية ومن يقف وراءها تشبه العجوز الشمطاء في قصة بياض الثلج. تحمل سلال المنون إلى حيث الحياة والجمال!.
يخيم الحزن على كل واحدة منّا. لكن سرعان ما تدخل عفاف عليّ السرور حين تطلب مني، وهي ترتفع عن الأرض أن أتبعها بقولها: اتبعيني ياراشيل لأريك مقام الطغاة عسى أنّ يثلج مقامهم نار صدرك.
حلقت خلفها والصمت ثالثنا. إذ الخيال يستدرجني إلى ألوان العذاب الممكنة التي من شأنها أنّ تشفي غليلي. قطعنا مسافات طوال تشبه الصحاري ... لا شجر... ولا طائر... ولا ماء... رمال عطشى... وأراض ظمأى.... فجأة بدأ الهواء يثقل وتثقل معه حركة جناحيّ. وخشيت أنّ أطلع عفاف على الأمر فتقطع الرحلة. وجاءني صوتها: أعلم يا صغيرتي راشيل أنّ الهواء ثقيل. فنحن على بعد بليون مليون سنة من مركز السعير. أتلاحظين أنّ الحرارة ترتفع كلما اقتربنا؟. حطي على ظهر هذا الجبل. سنستدعي بوراقا يحملنا. فنزلت ولم أعلّق. أذهلني ما أسمع وما أرى.فجأة ظهر بوراق .حط على سطح الجبل.وقفت عفاف على ظهره وطلبت مني أن أركب خلفها. قطعنا مسافات ومسافات تسرب إلينا خلالها أذواق من الروائح بين الحريق والشواء ثم ما عدنا نستطيع أنّ نتذوق ما نشم. وقد جاوزنا ألوانا من السماوات من بنفسجية إلى حمراء ثم إلى سوداء.
و نحن على ذلك الحال جاءني صوتها يقول: أترين هناك؟
- أين بالضبط؟ إنّ ألسنة النيران تتلوى كالأفعى. تحول دون حسن رؤيتي.
- هناك حيث البيت الأبيض!
- نعم إنني أراه.أظنهم أخطأوا. بنوا قصرا أبيض داخل السعير. إنّ نوافذه تتنفس ألسنة من نيران سوداء. حتما إنه يتآكل بداخله. تجيبني عفاف دون أن تحول ناظرها عنه:
- هنا لا مجال للخطأ. إنه ذاك البيت الذي طالما أصدر قرارات جائرة و أحكاما ظالمة في حق الشعوب المستضعفة.
- يا إلاهي. يا حبيب. لقد أُثلجت صدري ولن أسمح للقبح أنّ يستوطنني بعد اليوم. ولكن من بداخله يا ترى؟
- كل من دخله وقلبه آثم بالإيمان.
- هل تسمعين يا عفاف هناك خليط من الأصوات لا أستطيع تميزها؟ ثم ماذا يفعل القوم هناك؟
- إنهم يشيعون ميّتا!
- يشيعون ميّتا في السعير؟ ثم إن هذا الذي يشيعونه عاريا. أترين ما أرى يا عفاف؟. تعالي لنقترب أكثر. أريد أنّ أرى وجوههم.
- لا يمكننا ذلك. فالله -عزّ وجلّ- أراد أنّ يخفف عنك تعذيبك لنفسك أمر لك بهذه الرحلة. وبأمر منه كانت لفحات النار بردا وسلاما على جسمينا. كما سخرّ لنا البوراق يحملنا. لكن اقرئي بعدي قوله سبحانه وتعالى: «فبصرك اليوم حديد» وما كدت أتم جملتي حتى رأيت الوجوه رأي العين. وصرخت من فرط الفرحة: عفاف إنني أراهم. إنهم أولئك الذين كانوا يحكموننا بقبضة من حديد. هل ترين ما أرى؟.
- نعم إنّ المشيّع ذاك الذي أكرمته السماء بالبيت علي يمينه والقبر على شماله فأبى إلاّ أنّ يشيع بينهما عاريا.
- يا أ لله يا حبيب. وأين صديقيه إني لا أراهما؟
- إنهما في أوّل المشيعين. ذاك الذي على يمينه من سماه والده حسني وأبت الأرض أنّ تباركه. والآخر الذي ثنى الله عليه فسماه عبدي فآثر أنّ يكون عبدا للطاغوت.
- يا أ الله يا حبيب. ومن أولئك الذين يسبحون في مسبحهم؟
- أكيد أنهم أمراء طاولات حمر. وسفراء فتنة . وكتاب خديعة!.
- ماذا يرددون؟
- أطيلي السكوت وستسمعين.(ولما أطلت السكوت سمعتهم يرددون): يا أصحاب البيت الأبيض إنّا كنّا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار؟ فتردّ أصوات من داخل البيت الأبيض: إنّا كلّ فيها إنّ الله حكم بين العباد. تلم بي الدهشة حين أعلم من عفاف أنّ المشهد قد ورد بتفاصيله في القرآن الكريم فأسألها: ألم يقرأوا هذه الآيات من قبل فيحموا أنفسهم؟
- بلا. لكن الله جعل على قلوبهم غشاوة وفي آذانهم وقرا.
تنحني عفاف على البوراق , وتشير ليّ بيدها أنّ ألتحق بمكاني خلفها, بعد أنّ تحرك همته بسياط خفيفة, وهي تقول: أعلم يا راشيل أنك تودين الاستمتاع بحرقهم. فإذا وقفت بين يديّ الله تعالى ,وأعطاك مقامك, اسأليه أنّ يفتح لك نافذة على السعير , لتستمتعي برؤيتهم يحترقون ويتأوهون تحت سياط كالأفاعي تأكل اللحم و تمتص الدم.والآن يجب أنّ أعيدك إلى حيث التقينا أول مرة.
كان البوراق قد لفّ وعاود أدراجه. وما كاد بصري يرتدّ إليّ حتى أحسست بالظلام الدامس يطبق على أجفاني مرة أخرى. أين أنّا... ما بال ذاكرتي لا تسعفني ... هل كنت في سفر أم كنت في حلم... ما هذا الخواء... الفراغ... الضياع... أين جسمي... تراني افتقدته ... هل هو العالم الأسود يستدرجني من جديد... أم هو عالم النور... أبي ... أبي... هل هناك من يسمعني... أبي... أبي... هل أنت هنا؟ لا أحد يرد.
... [/align]
|
التعديل الأخير تم بواسطة نور الأدب ; 20 / 07 / 2017 الساعة 09 : 09 PM.
|
|
|