مقاربة نقدية لقصيدة شاعرنا غالب الغول 'شوق وأمل '
" إعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالهاوألوانها، وأنه ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه ؟ وإنما مزيته أن يقول ما هو ؟ ويكشف عن لبابه وصلة الحياة به "العقاد
من هي ياترى هاته العروس التي ترتوي من خدودها كل النفوس ؟! ، من هي هاته العشيقة التي يرتدي قدها ثوب الزفاف ؟! من هي وقد شبهها الشاعر بجنة تستوطن القلب .. ؟
استهلال غزلي بأسلوب استعاري في صورة بيانية تصريحية جعلت اللغة تحلق في عوالم الإبداع الفني ، ليستقر وقعها في نفس القارئ المتذوق العاشق .. وقد شبه الشاعر محبوبته بجنة في القلب، بعروس حسناء .. جميلة بهية الطلعة ..
صور فنية يغلب عليها البساطة والتلقائية دون تكلف وحذلقة تبرز الخيال المبتكر القادر على التعبير الجميل ، القادر على التحليق..
تحليق قرَّب المتلقي من نظم الشريف الرضي وهو يتغزل بأرض الحجاز .. حين يقول :
يا ظبية البان ترعى في خمائله .. ليهنك اليوم أن القلب مرعاك
هكذا تمكن شاعرنا المحترف غالب الغول من غزو سرائر النفوس برؤيته العميقة وصدقه في التعبير... وخياله الخصب الذي أضفى روح التشخيص والتجسيد على التوابث والجوامد ..
يا جنّة في القلبِ قدُّكِ يرتدي
............ ثوبَ الزفافِ ومنذ دهرك للغدِ
أنتِ العروسُ ومن خدودِك ترتوي
............ كلَ النفوس , وللأحبةِ زغردي
التاج ياقوتٌ كنجم زانهُ
........... أعلى مقامٍ , في الجنان توسدي
فسألتها :ماذا ترين عشيقتي ؟
..........هل أنتِ جذلى كالطيور تغردي ؟
بين النداء والسؤال إيحاء وتجسيد وواقع وحب وعشق ، في صور مكونة من أساليب إنشائية ( يا جنة - أنت العروس - التاج ياقوت ..) هي صور متنامية متصلة .. مترابطة مستوحاة من بعد وجداني شعري شاعري صادق مائز ...
صرختْ ودمع المقلتين تساقطتْ
.............. وتنهدتْ يا حسرتاهُ لمرقدي
يا عار مجتمع تمزق شملهُ
............ وبدت ضغينتهُ تمور وتعتدي
لمْ يبتسمْ قلبي وأهلي نوّمُ
............والنارُ تحرقُ عابداً في المسجدِ
بهذا الوصف الحزين ، وبهذا الحوار الشعري المتناسل حسرة وألما ، استطاع الشاعر أن يضيف صورا تشخيصية تقوي المعنى وتبرزه .. وتكشف حقيقة المشاعر التي تسيطر على وجدانه ،، والصراع النفسي الذي يعيشه والحبيبة على السواء ..!!
الأمنُ ولّى والضمائرُ مزقتْ
.................... معنى الوفاء لأمةٍ بتشردِ
هلْ حندسُ الأوغادِ يُطربُ واعداً
............... يصبو لنورٍ في مدار الفرقدِ؟
يأتي صلاحُ الدينِ ثانية إلى
......... صدرِ العرين ويا دياري فاشهدي
بين المجاز اللغوي والمجاز النفسي يستحضر الشاعر شخصية تراثية حقيقية ترمز إلى القوة والعنفوان والشموخ والنصر .. استحضار أضفى شحنة دلالية عميقة وقيمة معنوية لمرجعيتها المركزية وبعدها الرمزي الحقيقي ..
استدعاء لمعطيات تاريخية ( صلاح الدين .. معركة الحطين) ساهم في تداخل بين الحركات الزمانية حيث انسكب الماضي بشخوصه التراثية على الزمن الحاضر ووقائعه الأليمة ..
"إن علاقة الشاعر بالشخصية التراثية هي كعلاقة النحات بالخامة ، إنه يبتكر حلوله الخاصة لتطويعها لما يحقق أهدافه ، ولكنه التطويع الذي ينطلق من استبصار عميق بكل إمكاناتها الطبيعية ، وصلابة المعدن أو صخرية الكتل الحجرية .. خصوصية الطبيعة العضوية ، للأخشاب درجات الخشونة أو النعومة في الملمس ،.. لا يستدعي الشاعر الشخصية من عصرها أو سياقها التراثي ، إنه يستدعيها من قلب المتلقي ووجدانه كي تتحول بفضل موهبته وثقافته وخبرة تمرسه الفني إلى جسر للتواصل والتحاور والارتقاء ، جسر ينتقل به القارئ من قيمته التقليدية الراسخة إلى قيم الشاعر النابضة بروح العصر " 1-
سنحرر الأقصى وحطين التي
.............. فتقتْ قلوب الطامعين بموقدِ
إن متَّ يا خلّي فأنتَ بجنّةٍ
........... وأنا أُعَطِّرُ رمسَ قبرِكَ في يدي
سَلبَ الغرابُ سنابلاً من بيدري
............. لكنه ما اسطاع سلب تمردي
سأظل أحمل في اليمين كتابـَنا
........... وأظلُّ أحملُ في الشمال مُهنَّدي
قيم تتشبع بالوفاء والنضال والأمل القريب ، قيمٌ جعلت نبرة الخطاب واضحة عالية قوية ... فيها من التمرد ما يكفي .. ومن الأمل ما يشفي كل الجراح ..
" سنحرر الأقصى "
*******************
-1-مجلة أدب ونقد ( القاهرة ) - العدد 13 - -يونيو 1985-ص 80-81
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|