عرض مشاركة واحدة
قديم 22 / 10 / 2017, 20 : 10 AM   رقم المشاركة : [1]
محمد توفيق الصواف
أديب وناقد - باحث متخصص في السياسة والأدب الإسرائيليين- قاص وأديب وناقد -أستاذ مادة اللغة العبرية - عضو الهيئة الإدارية في نور الأدب


 الصورة الرمزية محمد توفيق الصواف
 





محمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really niceمحمد توفيق الصواف is just really nice

هل غاب الشعر حقاً؟

فصل جديد من كتابي: (القارئ ناقداً)، الصادر عن دار المسبار في دمشق 2005


[align=justify]كثيرون يتبارون، هذه الأيام، في إعلان نعي الشعر ودور الشعراء وأهميتهم، مؤكدين انقراض هذا المخلوق الإنساني الجميل، على نحو ما انقرضت مخلوقات أخرى كثيرة قبله، بفعل تدخل الإنسان المعاصر، تدخلاً غير سليم ولا معافى، في تغيير البُنى الجمالية لأنواع إبداعية قديمة، بدلاً من أن يبتكر أو يُبدع أنواعاً جديدة خاصة به، ليس لها جماليتها المعاصرة الخاصة بها فحسب، بل لها اسمها الخاص أيضاً..
بتعبير آخر، يرى أصحاب هذا الرأي من القراء، أن من الأفضل، وربما من الأكثر معاصرة، أن يتجنب من يُطلقون اليوم على أنفسهم تسمية شعراء، تسميةَ ما يكتبونه بالشعر، لاختلافه إلى حدٍّ كبير عن الشعر بمفهومه القديم المتوارَث، وأن يطلقوا على إبداعاتهم وأنفسهم تسمية جديدة تتفق مع البنية الفنية الجديدة لهذه الإبداعات...
مقابل هؤلاء، ثمة من يقف في الخندق المواجه، ليؤكد أن الشعر ما زال حياً، لم يمت، بدليل أنه، ورغم كل ما طرأ عليه من حداثة، ما يزال خطاب القلب الإنساني، ولغة الشعور الرائع، والحساسية الشفافة.. بل يذهب عشاق الشعر هؤلاء، بغض النظر عن كونه حديثاً أو قديماً، إلى الاعتقاد بأن الحياة دون ينبوع الشعر الدافئ، ستغدو جافة مثل روحنا المعاصرة التي جفَّفَت الماديةُ كلَّ جميلٍ فيها، حتى غدت صحارى موحشة، تمتد دون توقف، منذرة بتحويلنا إلى كائنات بلا مشاعر ولا أحاسيس، وربما بلا قلوب، اللهم إلا إذا نظرنا إلى القلب البشري بوصفه مجرد مضخة للدم..
كِلَا الفريقين، أيْ فريق القائلين باستمرار الشعر حياً، وفريق مُعْلِنِي نَعيِهِ، يُحبانه، ولكن كلٌّ على طريقته، ومن زاوية رؤيته الخاصة. وربما لهذا، يتبادلان الاتهامات فيما آلت إليه حال هذا المخلوق الإنساني..
فأنصار القديم، تراهم يثورون على الجديد الذي يسميه مؤلفوه شعراً، ليس لأن معظمهم عدوّاً للتجديد، ولكن لاعتقادهم، كما يشرحون لنا، غاضبين صائحين، أنَّ سبب تدهور الشعر يكمن في صيرورته مضغة في كل فم، بعدما صار يدعي كتابته كلُّ من هبَّ ودبَّ من عباد الشهرة والجاه والمال الذين منَّ عليهم سوءُ حظنا، نحن القراء، بالوساطات الثقيلة والخفيفة، في الجرائد والمجلات ودور النشر.. ثم زاد الطين بلاً، بعدما صار يدعي التجديد في الشعر كلُّ من سَوَّلَ له وهمُه أنه سليل أبي تمام في التجديد، ووارث نازك الملائكة والسياب..
أما أنصار التجديد الذين لا يرون بأساً في تجديد الشعر، شريطة أن يظل شعراً، فيقولون إن بعض النماذج الحديثة المنظومة على الطريقة القديمة، فيها ما يغثُّ النفسَ، ويُتْرِعُها بالكآبة والقرف، مع أن ناظميها يتوهمون أنهم من نسل امرئ القيس والمتنبي، وأكبر من نزار قباني وعمر أبي ريشة... وهؤلاء، إذا مات الشعر فعلاً، كما تقولون، فهم سبب إصابته بجلطة السخافة القاتلة الناجمة عن إصرار عَجَزَةِ الإبداع، على أنهم وحدهم المبدعون..
على الرغم من تناقضها الظاهري، فلاشك أن بين آراء كلا الطرفين، بعض حقّ، وخصوصاً حين يتحدثان، مُتَّفِقَين، عن انقطاع الصلة بين الشعر وما يسميه كاتبوه اليوم شعراً، وما هو من الشعر ولا شبيهه، سواء كان نظماً بوزن وقافية، أو كان هذراً أشعثَ الوزن عديمَ الصورة، لا قفا له ولا قافية.
وهذا الانقطاع المؤلم بين الشعر الحقيقي وما يُنشَر اليوم تحت اسمه، بالوساطة أو الجاه والمال - أجارنا الله وإياكم، من سخف كاتبيه إذا نشروا، ومن شرِّ ناشريه إذا خسروا- أدى بدوره إلى انقطاع آخر أشد إيلاماً وأعظم خطراً.. وهو الانقطاع بين الشاعر والمتلقي.... فبهذا الانقطاع، خسرَ كلاهما.. الشاعر خسرَ وظيفته ودوره الريادي ومكانته المرموقة، وخسرَ المتلقي بَوْصَلَتَهُ ومنارته.. بل فَقدَ أيضاً من كان يُكفكفُ دمعه ويواسيه في حزنه، ومن كان يرسم البسمة على شفتيه في فرحه، ومن كان يرافقه حتى في خلوته مع حبيبته، ليغازلها بكلماتِ شَاعِرِهِ التي لا يُتقن سَبْكَ مثلِها..
نعم.. على هذا يتفق الطرفان، لكنهما ما يكادان يتفقان على الرأي بهذا الخصوص، حتى يعودا للانقسام، فريقين متصارعين، من جديد. ولكن علامَ هذه المرة؟
على مسألة جديدة، لكنها ذات صلة وثيقة بتراجع مكانة الشعر والشعراء، في عصرنا هذا الذي يكاد التقدم الثقافي المفروض على الأحياء فيه، يُفقدَهم ملامحهم القومية المميزة..... وهذه المسألة يُلخصها السؤال الإشكالي القائل: مَنِ السبب في القطيعة بين الشاعر والقارئ؟
فريق يقول: إن الشعراء هم السبب، وفريق يؤكد أن القراء هم السبب.. ثم ما يلبث أتباع كل فريق أن ينقسموا في الرأي انقساماً آخر، ليعودوا من جديد إلى الدوران في نفس الحلقة المفرغة التي يتم فيها تعريف الشعر بالتزام الشاعرِ الوزنَ والقافية وما يتصل بهما من لوازم القصيدة الخليلية، حتى ولو كان ما صدر عنه سخفاً محضاً.
وفي دفاع هؤلاء عن رأيهم وتعليله، يقولون: إنَّ هَجْرَ الشعراء المحدثين للوزن والقافية هو سبب تقلص اهتمام الإنسان العربي بالشعر، إلى درجة الهجران والقطيعة، بعد أن وصل إعجابه بهذا الفن، في الماضي، إلى حد كتابته على شواهد قبور موتاه..
وسرعان ما ينبري أنصار التجديد للرد على هذا الاتهام مؤكدين أن العكس هو الصحيح.. بمعنى أن إصرار الشاعر العربي المعاصر على التمسك ببعض خصائص الشعر العمودي، وخوفه من إطلاق رغبته في التجديد إلى مداها، هما سبب عزوف القارئ العربي عن التواصل مع الإنتاج الشعري الحديث..
وهنا ينبري بعض الناصحين قائلين، وهم يفتلون شوارب حكمتهم: يا أخي، لا تلوموا القارئ بل لوموا أنفسكم، لأن عليكم تثقيفه أولا، قبل لومه.. عرِّفوه بمذاهب الشعر المعاصرة، والتطورات التي طرأت على بنيته الفنية، قبل أن تكتبوا له شعراً معاصراً.. علِّموه كيف يتذوق الحداثة المعلبة، كما عَلَّمَه التجار كيف يتذوق معلبات الأطعمة الغريبة الوافدة إليه من الغرب، حتى ولو كان فيها ما يكره.. فكما أكرهه التجار والحكام وأولاد الحرام، بالتجويع، على استطابة هذه الأطعمة، على الرغم من كرهه لها، كذلك عليكم معشرَ الشعراء، أن تُعلموه استطابة نتاجكم حتى ولو كان غثاً ركيكاً.. فكل شيء، في عصر العولمة هذا، صار بالإكراه، حتى حرية الإنسان!!.. أَلَمْ يصبح قبول الحرية الممنوحة للإنسان العربي من محتل أرضه، شرطَ اعتباره معاصراً، وصار رفضُها تهمةً جاهزة له بالإرهاب؟
وكما أن الإنسان العربي المعاصر لم يَعُدْ حراً، حتى في أن يكون حراً، بل مكرهاً على اعتبار نفسه حراً، حتى وإن كان هو ووطنه تحت الاحتلال، كذلك يجب أن يُصبح بعضُ الشعر الحديث، شعراً جميلاً بالإكراه، حتى ولو كان غثّاً سخيفاً، وعلى مُتَلَقِّيه العربي أن يتذوق طعم سخافته الكريه، ثم يصرخ (الله)........ متظاهراً باللذة، وهو يكاد يتقيأ، مما ذاق من هذا الشعر السخيف، سواء كان هذا الشعر، بوزن وقافية أو لا وزن له ولا قيمة ولا قافية ولا قفا، كقائليه وقارئيه، على السواء، في المجتمع الدولي الذي يرى هذا الإنسان يُذبَح على أيدي دعاة العولمة المعاصرة، ثم لا يُحرِّك ساكناً.
على أي حال، وأمام هذا القَدْرِ من الآراء المتعارضة، يقف القارئ العادي الجاهل مثلي، حائراً بأيِّ هذه الآراء يأخذ وأيها يُصدِّق؟ أيها يتبع وأيها يترك؟ وتبدأ الدوامة تقذفه في دُوارها من جديد، فيدور ويدور في فلك الآراء المتعارضة والنظريات المستوردة التافهة، حتى يصيبه الغثيان ويتقيأ كل ما قرأ وسمع... وعندها تراه ينهض من دواره وألمه ليقول للجميع، وإن بصوت واهن، وفم ما يزال مليئاً بالقيء:
كفى.. فكل ما قلتم وما تقولون وما ستقولون، في الشعر المسكين، تحطم وسيظل يتحطم، على صلابة تلك الحقيقة التي ستظل راسخة أمامكم جميعاً كالصخرة العظيمة الصماء التي تأبى أن تتزحزح، حتى وإن رفضتم الاعتراف بوجودها، وهي أن الشعر المعاصر، بوزن كان أو بدون وزن، بقافية أو بلا قافية، قد فَقَدَ الكثير من علاقته بي، أنا المتلقي العربي، بعدما تضاءل اهتمامي به، جرَّاء طغيان النماذج الغثة منه على النماذج الجيدة... وها أنذا أقول لكم: لن تعود للشعر شعبيته، أو لنقل قداسته الشعبية، إلا إذا توقف سيل غثه وسخيفه عن جرف محبتنا له، إلى قاع اهتمامنا، حيث ألقينا، نحن القراءَ العاديين، بنماذج هذا المسمى شعراً، وبأسماء مؤلفيه أيضاً.... فهل من سبيل إلى إيقاف سيل هذا الغث؟
هذا ما نرجوه، لاسيما وأن تَذَوُّقَ الشعر الجيد من قبل المتلقي العربي، مازال موجوداً، على عكس ما تُقدِّرون وتتوهمون.. وما زال على قيد الوجود أيضاً، تقديرُ الشاعر القادر على دخول القلب بحب وفن وصدق.. وإلا كيف تُفسرون خروج دمشق، شيباً وشباناً، نساء ورجالاً وأولاداً، وراء نعش شاعرها نزار قباني؟ وكيف تُفسرون تزاحم الناس على حضور أمسية كان يُحييها محمود درويش أو غيره من الشعراء الذين امتلكوا بشعرهم مفاتيح الدخول إلى قلوب الناس ومحبتهم وتقديرهم؟
من كل ما سبق، نخلص إلى القول: إن الشعر عموماً، والشعر العربي خصوصاً، مازال بخير، على الرغم من طوفان الغث الذي يغمر الأسواق تحت عنوان شعر، وما هو بشعر... وعلى القارئ العربي أن يتصدى لهذا الطوفان بمقاطعة مؤلفيه، وقد فعل.. فلا أحد من شعراء الغثاثة يستطيع بيع ما ينشره، بل حسبه أن يوزع نُسَخَ ما يطبع من غثه، على معارفه في الجرائد والمجلات، ليكتبوا عنها مادحين.. ولكن هيهات، لأن مديحهم لم يعد يخدع أحداً، إلا الأغبياء، وهم قليل، والحمد لله..[/align]

نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
توقيع محمد توفيق الصواف
 لا عِلمَ لمن لا يقرأ، ولا موقفَ لمن لم يُبدِ رأيه بما قرأ.
فشكراً لمن قرأ لي، ثم أهدى إليّ أخطائي.
محمد توفيق الصواف غير متصل   رد مع اقتباس