أيام حالكة وصعبة /مر عليها ست سنوات
طلعت سقيرق الصديق الصادق والإنسان الذي لا ينسى ،
عرفته عندما دخلت نور الأدب وعلمت انه يسكن بدمشق حيث انا اسكن ، وتساءلت كيف يمكن ان اتعرف عليه شخصيا ، فبادر وبكل تواضع بزيارتي بالمدرسة وقدم لي بعض مؤلفاته هدية اعتز بها وافتخر ، ومن وقتها وجدت فيه الانسان بكل صفات الانسانية من صدق وتواضع وأخلاق وطيبة ووطنية وجمعنا حب فلسطين الوطن الغالي واملنا الذي
لا يمكن له ان ينتهي الا بالتحرير والعودة .
ومرت الايام وازدادت اواصر الصداقة والثقة والتعارف من خلال مؤلفاته الادبية من شعر ونثر وأدب بشكل عام ، وازدادت اواصر المحبة والمودة والاحترام والتقدير .
الى ان جاء ذلك اليوم المشؤوم يوم علمت باصابته بالجلطة الدماغية ونقله الى المشفى ، زرته في المرة الأولى وكان وقتها ما زال في غيبوبته ووقفت فوق رأسه وحدثته وأوصلت له سلامات وتحيات جميع من في نور الأدب وخاصة الغالية علينا وعليه الأستاذة هدى الخطيب وكأنه كان يسمعني وشعرت بذلك من خلال ابتسامة بسيطة رسمت على محياه ، وفي الزيارة الثانية كان ما يزال في تاك الغيبوبة اللعينة اما عندما خبرتني الغالية ابنته سهير ان والدها قد صحى من الغيبوبة بادرت بزيارته بسرعة وحدثته وسألته هل عرفتني استاذ طلعت فهز برأسه وهو مبتسم ورفع يده رفعة خفيغة مؤكدا انه عرفني ونقلت هذت الأخبار للغالية استاذة هدى وكان فرحتنا عظيمة ، وكنت يوميا اتصل بالغالية سهير لأطمئن عن وضع والدها والتطورات كانت تطمني وهي مبسوطة ان أموره في تحسن وأنه بدأ يتجاوب معهم بكل شيء وان الأطباء يقولون بأنها أيام وسيخرج للبيت وكانت سعادة الجميع لا توصف ، لكن وللأسف الشديد ....... فجعنا بالخبر المؤلم والقاسي وكذبت الخبر عندما سمعته أكثر من مرة وكما غيري كثير لم نستطع التصديق .....
رحل طلعت سقيرق ، رحل عن هذا العالم الغريب ، رحل عن هذا العالم رحل وسورية تعيش اصعب مراحلها ونعيش فيها الخراب والدمار والدماء ، ونعيش حياة قاسية بكل ما في الكلمة من معاني ، حتى صرت أقول في نفسي ربنا بيحب هذا الانسان اختاره في الوقت المناسب في الوقت الذي لا ولن يستطيع ان يتحمله ، فاختاره الى جانبه كي يرتاح الراحة الأبدية .
وفي ذكرى تأبين الراحل الكبير الذي حدث في دمشق كان لي شرف إلقاء كلمة الغالية الأستلذة هدى الخطيب ، ألقيتها والدموع تملأ عيوني وأنا أرى أمامي الغالية سهير سقيرق ابنة الراحل ، وبكيت أكثر عندما ألقت هي كلمتها الرائعة والموجعة ، أما كلمة
الغالية الأستاذة هدى فكانت :
لو قالوا لك يا هدى أن الأرض مادت
والسماء انفطرت
والبحار فجرت
ما كنتُ يا غالي أشد جزعاً
ويح قلبي على ثُريا الإبداع تدفن تحت الثرى
يا لنزف روحي وطلعت أناديه ولا يجيب
كيف أرثيك وكيف أعترف برحيلك؟؟!!
وكابوس ينساب في مجرى دمي ملتهبا كبحرٍ من النيرانِ
لماذا تسرعت بالرحيل يا سلطان الشعر ومذهل الإبداع؟؟
لماذا تسرعت بالرحيل
وخلفك وجه حيفا ينتحب
ويضيع الصوت في حرقة الغياب
يحاول أن يرتجيك
ولكن.. ويا للوعة المصاب
حين امتطيت درب السماء
أي شعور بالذعر والقهر
استوطن على حين غفلة أيام حياتي
لتحلق نسراً فوق هضاب حيفا وكرملها
لصدمة عمري التي هشمتني
بحوريتي المفجعة
وإنعام انطوت على جرحها وقد انقضّت عواميد دارها
الليل سيطول ويطول..
ووجهك طلعت معلق على مرايا أرواحنا كالقمر في ليلة بدره
كل أنوار الإبداع في عائلتي على مذبح عشق فلسطين شهيدة
وبعيداً عن ثراك حيفانا شريدة
وأنت..
شمس في كبد سمائنا أنت
فيا لنكبتي ويا لحرقتي ويا لغربتي!
وشمسك الفلسطينية أشرقت نوراً وناراً
وشمس إبداعك التي انحنت لها الحروف وعزفت على أوتار الشعر أنغامها
مثل كل من أحبوك وآمنوا بإبداعك ونكبوا برحيلك يتيمة...
يا سلطان الشعر والإبداع يا رئة الزمان الفلسطينية إلى المطر رحيلك نكبة
رحيلك نكبة من نكبات هذا الوطن الجريح
وفجيعة أليمة تضاف لسجل هذه العائلة الحيفاوية المنكوبة
الدهر أفجعنا فيك وسقانا في شهر الصوم كؤوس الردى
قولوا لتراب اللحد رفقاً بطلعت وبأصابع صاغت من الحروف نجوم
كان من جنة
لم يغره مال ولا جاه ولا مناصب، زاهد مترفع عن كل ما يلهث خلفه معظم البشر، أديب موسوعي متميز...
كتب الشعر فابتكر وأبدع من الومضة وحتى القصيدة المدورة ، أو قصيدة السطر الواحد، كتب القصة ودخل إلى عمق النفس الإنسانية ورسم لوحات رائعة كل منها تروي حكاية مختلفة من حكايات شعبنا الفلسطينيوتضحياته ونضاله وآلام تشرده وأحسن توظيفها بإبداعه وحسه الوطني الراقي، إلى الدراسات والتوثيق والنقد والمسرحية ذات الفصل الواحد، لم يترك شاعرنا وأديبنا الكبير أي صنف أدبي لم يطرقه ولم يبدع ويبتكر فيه الجديد ويدخل مناطق إبداعية لم يدخلها أحد قبله
السمو والشفافية التي تزخر بها صوره الشعرية تسمو بالروح الإنسانية بصفاء مفعمٌ بنقاء المشاعر ونبل أحاسيس لا تقل أبداً عن مستوى المذهب الرومانسي الأوروبي و لكن ببصمةٍ و خلفية عربية واضحة بعيداً عن التقليد أو التأثر لتجمع النفس و الروح في بوتقةٍ واحدة لتعرفنا نتعرف على مدرسة الشاعر طلعت سقيرقالأدبية الخاصة به، وتذوق هذه الشفافية بوضوح في شعره العاطفي والوطني معاً، ونرى ملهمة طلعتسقيرق صيغت من نور لكنها لا تذوب ولا تتلاشى تحت أشعة الشمس..
فهي فاطمة وهي سلمى ابنة الشهيد وهي مناضلة فلسطينية لوحتها الشمس تعرف كيف تقف في وجه الاحتلال دون أن يهزمها الظلم والقهر والشتات وتبقى أميرة نبيلة مفعمة بالجمال النوراني والشفافية، وهنا يكمن الإبداع والتفرد في القدرة على ابتداع هذه الخلطة المذهلة التي تجعل منها امرأة استثنائية لا مثيل لها وملكة متوجة بين نساء الأرض، والشاعر طلعتسقيرق يحترم ملهمته فلا يبتذل ولا يثير الغرائز ولا يضع جسدها على طاولة التشريح.
في صوره الشعرية الوطنية لم يتوقف عند فلسطين فهو شاعر عربي بالمقام الأول، كتب لبغداد ولصيدا والمقاومة ومصر وتونس والجزائر، وكتب للإنسانية والإنسان في كل مكان...
أنشد فلسطين وكان شاعر الانتفاضة بامتياز وغنت الفرق الفلسطينية أناشيده وجابت بها أصقاع الأرض...
هذا المبدع المذهل والشاعر الرقيق الاستثنائي الفذ والإنسان النبيل المرهف الذي يحبّ و يحترم إنسانية الإنسان، والجوهرة الماسية الثمينة النقية نزف حياته لخدمة الناس والوطن وأعطى وضحى
هل أنصفناه وقدرناه حق قدره كما يستحق منا وهل فكرنا بدراسة أعماله كما تستحق هذه الأعمال بما فيها من ابتكار وتميز خاص به ؟؟!!
رحل طلعت
انتصب بيننا وبينه برزخ مرعب
ولم يعد هنا!
خطف!
ضاع!
تسرب كما يتسرب الماء!!
خذوا عمري وفوق العمر عمر وأعيدوا طلعت لإبداعه وفلسطينه...
نور الأدب (تعليقات الفيسبوك)
|